غادة صديق رسول قاصة وروائية موصلية تعكس في قصتها الأولى "رمادية " ما كانت تعانيه الموصل بعد الاحتلال الاميركي المقيت من مآس ونكبات وتهديم وتهميش وعزل وإهمال.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: ا. د. إبراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
أسعدني الصديق الدكتور نبيل نجيب فاضل الصيدلي، عندما أهداني، نسخة من مجموعة قصصية بعنوان: "رمادية" صدرت عن دار الفارابي في بيروت لقاصة موصلية مبدعة جديدة هي "غادة صديق رسول". وما أن غادرني، بعد أن سلمني المجموعة مع الإشارة لي بأنها تلميذته في كلية الطب بجامعة الموصل وأنها تواصل إكمال دراستها العليا، حتى وجدتني ألتهم المجموعة التهاما خاصة بعد أن وجدت في صفحاتها الأولى وضمن قصة "رمادية"، التي حملت اسمها المجموعة جانبا من أمكنة شبابي في محلة تعد من أقدم محلات الموصل وأقصد محلة رأس الكور والتي بنى فيها العرب المسلمون سنة 637 (16 هـ) حين دخولهم المدينة أول جامع له منارة جميلة تحمل طرازا فريدا في البناء، إنه الجامع الأموي أو ما يسمى اليوم جامع مصفي الذهب.
وحسنا فعلت وهي ابنة الـ 28 سنة عندما عكست في قصتها الأولى ما تعانيه المدينة بعد الاحتلال الاميركي المقيت من مآس ونكبات وتهديم وتهميش وعزل وإهمال. فضلا عن عسكرتها فأنت حين تسير في شوارعها، التي كانت في يوم ما جميلة، ونظيفة، وأنيقة، لا ترى غير العساكر والزحام والأسلاك الشائكة والكتل الكونكريتية ودخان المركبات تبث السموم والضجيج والبشر، تقول: "موطني مدينتي كانوا يجرون كالمذعورين، يقودون سياراتهم بعصبية وعجلة، أحدهم يطأ الآخر، هل فاتهم جميعا موعد مهم تعتمد عليه حياتهم الباهتة؟ من كان يلحق بهم ليفروا بهذه الطريقة؟".
ومع هذا فالقاصة تتشبث بالمكان الذي أحبته في الزمان الغابر الجميل لموصلها في الأمس، تقول: "فحملتني قدماي إلى الأحياء القديمة التي شهدت أيام الطفولة البيضاء. قطعت رصيف شارع رأس الكور المتعرج بخطاي المتمهلة التي يفقدها الخوف اتجاهات الأمان على القدمين ذاتهما اللتين طالما سرت بهما قفزا فرحا كأني ألاحق سرب فراشات من ضوء سحري لم يبصره بشر قبلي. نفقد حين نكبر أنفسنا فلا نعود نحن، فلا عجب أن تنكرنا المدن والأرصفة، حين ننكر أنفسنا للوهلة الأولى أمام مرآة الأعوام الرمادية". وتقول: "كل شيء تغير، فلم تعد الأيام تبدو جميلة أو حميمية"
تتأسف القاصة .. المحلة بدت هرمة ومزيفة .. مقاهيها لم تعد كما كانت حيث اعتاد جدها يوميا تناول "استكانات" الشاي .. اليوم اكتظ برجال بلا وجوه مشغولين بهواتفهم المحمولة التي تنعق بغناء شاذ. باعة الفاكهة والخضر احتلوا ربع الشارع "ما هذه العشوائية ولماذا هرمنا وهرمت مدننا. ويأتي الجواب من الشاعر المبدع الدكتور وليد الصراف والذي قدم للمجموعة بكلمات قليلة قال فيها: "آه ياموصل .. لقد كبرت وكبرنا معك .. تجعدت بناياتك .. وتغضنت شوارعك .. وحنا التفكر ظهر سروك .. واصبح خرير دجلة الطفل سعال شيخ مسن .. لقد أدرك الصدأ ذهب فجرك، ولجين نجومك ..".
ولكن هل مات الربيع في أم الربيعين .. هل مات الربيع في الموصل الحدباء .. مدينة نور الدين زنكي، وابي تمام ، وابن جني، وعثمان الموصلي، ومعد الجبوري .. كلا لم يمت الربيع .. فيك يا موصل الربيع لم يمت .. والدليل ان الموصل في كل يوم تعلن عن مولد قاصة، ومولد شاعر وولادة مبدع او طبيب او مؤرخة او مهندس او حرفي يعشق "صواني" الموصل وأوانيها النحاسية التي تزخر بها متاحف الفن في العالم. وكل ما في الأمر أن الموصليين جادين في إحياء مجد مدينتهم وان طال الزمن.
بعد قصة رمادية تتوالى القصص.. قصص تحمل مسميات جميلة وتعكس مضمونا أجمل .. أمنية أمنية التي تحققت، واوراق لم تعد بيضاء، وما يجب أن تفعله الأمهات، والبومتان، وباب في العمر، وحداد النهر، ووفاء أفعى، وارض الحقيقة، وقصة الحجر، ووفاء الحليب، ومغربل الأحلام. تلك هي قصص غادة صديق رسول .. وفي كل تلك القصص معان وأفكار وأحلام .. وكما قالت عنها إحدى قارئاتها بأن "غادة مذهلة .. ولغتها راقية، وآسرة .. وأسلوبها يكسي الحروف فتنة". وبالمناسبة فقد صدرت لها - عند كتابة هذه السطور- مجموعة قصصية ثانية عن دار الفارابي - بيروت بعنوان : "الموت للحياة".
لا أريد أن افسد على من يقرأ مجموعة "رمادية" القصصية، لكن لا بد أن أقول لنحتفل بمولد قاصة في مدينة رائد القصة العراقية الحديثة "ذوالنون ايوب" .. وليس هذا غريبا على الموصل فهي ولادة، وهي أولا وآخرا ليست مدينة فحسب إنها حضارة وموقف. أليست هي التي قال عنها أول ملك على العراق فيصل الأول 1921-1933 أنها أي الموصل "رأس العراق".
*صدرت لها بعد هذه المقالة روايات اخرى منها "الموت للحياة " و"بياض الليل سواد النهار " .
http://www.middle-east-online.com/?id=124331
ميدل ايست أونلاين
بقلم: ا. د. إبراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
أسعدني الصديق الدكتور نبيل نجيب فاضل الصيدلي، عندما أهداني، نسخة من مجموعة قصصية بعنوان: "رمادية" صدرت عن دار الفارابي في بيروت لقاصة موصلية مبدعة جديدة هي "غادة صديق رسول". وما أن غادرني، بعد أن سلمني المجموعة مع الإشارة لي بأنها تلميذته في كلية الطب بجامعة الموصل وأنها تواصل إكمال دراستها العليا، حتى وجدتني ألتهم المجموعة التهاما خاصة بعد أن وجدت في صفحاتها الأولى وضمن قصة "رمادية"، التي حملت اسمها المجموعة جانبا من أمكنة شبابي في محلة تعد من أقدم محلات الموصل وأقصد محلة رأس الكور والتي بنى فيها العرب المسلمون سنة 637 (16 هـ) حين دخولهم المدينة أول جامع له منارة جميلة تحمل طرازا فريدا في البناء، إنه الجامع الأموي أو ما يسمى اليوم جامع مصفي الذهب.
وحسنا فعلت وهي ابنة الـ 28 سنة عندما عكست في قصتها الأولى ما تعانيه المدينة بعد الاحتلال الاميركي المقيت من مآس ونكبات وتهديم وتهميش وعزل وإهمال. فضلا عن عسكرتها فأنت حين تسير في شوارعها، التي كانت في يوم ما جميلة، ونظيفة، وأنيقة، لا ترى غير العساكر والزحام والأسلاك الشائكة والكتل الكونكريتية ودخان المركبات تبث السموم والضجيج والبشر، تقول: "موطني مدينتي كانوا يجرون كالمذعورين، يقودون سياراتهم بعصبية وعجلة، أحدهم يطأ الآخر، هل فاتهم جميعا موعد مهم تعتمد عليه حياتهم الباهتة؟ من كان يلحق بهم ليفروا بهذه الطريقة؟".
ومع هذا فالقاصة تتشبث بالمكان الذي أحبته في الزمان الغابر الجميل لموصلها في الأمس، تقول: "فحملتني قدماي إلى الأحياء القديمة التي شهدت أيام الطفولة البيضاء. قطعت رصيف شارع رأس الكور المتعرج بخطاي المتمهلة التي يفقدها الخوف اتجاهات الأمان على القدمين ذاتهما اللتين طالما سرت بهما قفزا فرحا كأني ألاحق سرب فراشات من ضوء سحري لم يبصره بشر قبلي. نفقد حين نكبر أنفسنا فلا نعود نحن، فلا عجب أن تنكرنا المدن والأرصفة، حين ننكر أنفسنا للوهلة الأولى أمام مرآة الأعوام الرمادية". وتقول: "كل شيء تغير، فلم تعد الأيام تبدو جميلة أو حميمية"
تتأسف القاصة .. المحلة بدت هرمة ومزيفة .. مقاهيها لم تعد كما كانت حيث اعتاد جدها يوميا تناول "استكانات" الشاي .. اليوم اكتظ برجال بلا وجوه مشغولين بهواتفهم المحمولة التي تنعق بغناء شاذ. باعة الفاكهة والخضر احتلوا ربع الشارع "ما هذه العشوائية ولماذا هرمنا وهرمت مدننا. ويأتي الجواب من الشاعر المبدع الدكتور وليد الصراف والذي قدم للمجموعة بكلمات قليلة قال فيها: "آه ياموصل .. لقد كبرت وكبرنا معك .. تجعدت بناياتك .. وتغضنت شوارعك .. وحنا التفكر ظهر سروك .. واصبح خرير دجلة الطفل سعال شيخ مسن .. لقد أدرك الصدأ ذهب فجرك، ولجين نجومك ..".
ولكن هل مات الربيع في أم الربيعين .. هل مات الربيع في الموصل الحدباء .. مدينة نور الدين زنكي، وابي تمام ، وابن جني، وعثمان الموصلي، ومعد الجبوري .. كلا لم يمت الربيع .. فيك يا موصل الربيع لم يمت .. والدليل ان الموصل في كل يوم تعلن عن مولد قاصة، ومولد شاعر وولادة مبدع او طبيب او مؤرخة او مهندس او حرفي يعشق "صواني" الموصل وأوانيها النحاسية التي تزخر بها متاحف الفن في العالم. وكل ما في الأمر أن الموصليين جادين في إحياء مجد مدينتهم وان طال الزمن.
بعد قصة رمادية تتوالى القصص.. قصص تحمل مسميات جميلة وتعكس مضمونا أجمل .. أمنية أمنية التي تحققت، واوراق لم تعد بيضاء، وما يجب أن تفعله الأمهات، والبومتان، وباب في العمر، وحداد النهر، ووفاء أفعى، وارض الحقيقة، وقصة الحجر، ووفاء الحليب، ومغربل الأحلام. تلك هي قصص غادة صديق رسول .. وفي كل تلك القصص معان وأفكار وأحلام .. وكما قالت عنها إحدى قارئاتها بأن "غادة مذهلة .. ولغتها راقية، وآسرة .. وأسلوبها يكسي الحروف فتنة". وبالمناسبة فقد صدرت لها - عند كتابة هذه السطور- مجموعة قصصية ثانية عن دار الفارابي - بيروت بعنوان : "الموت للحياة".
لا أريد أن افسد على من يقرأ مجموعة "رمادية" القصصية، لكن لا بد أن أقول لنحتفل بمولد قاصة في مدينة رائد القصة العراقية الحديثة "ذوالنون ايوب" .. وليس هذا غريبا على الموصل فهي ولادة، وهي أولا وآخرا ليست مدينة فحسب إنها حضارة وموقف. أليست هي التي قال عنها أول ملك على العراق فيصل الأول 1921-1933 أنها أي الموصل "رأس العراق".
*صدرت لها بعد هذه المقالة روايات اخرى منها "الموت للحياة " و"بياض الليل سواد النهار " .
http://www.middle-east-online.com/?id=124331
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق