تاريخ الحركة العمالية في العراق
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث-العراق
ارتبطت الحركة العمالية في العراق ، بالتطورات التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع
عشر ،ولاسيما فيما يتعلق بالإصلاحات العثمانية ، وحركة التحديث التي ابتدأت في
الدولة العثمانية والولايات العراقية التابعة لها ، ومدى تأثير تلك الإصلاحات
وخاصة في مجال إصلاح نظام الأراضي ،
وتطبيق قانون الولايات ،وتغلغل رأس المال الأجنبي وإنشاء البنوك وظهور طبقة وسطى أخذت
تبحث لها عن دور سياسي واختلال العلاقة في المجتمع العراقي بعد تملك شيوخ العشائر
والملاكين الغائبين للأراضي وتغير العلاقة بين الشيخ وأفراد عشيرته في الديرة .
ومما زاد في حدة العلاقة وتغيرها حدوث الثورة
الدستورية في 24 تموز 1908 وسقوط نظام حكم السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909
وتنامى الشعور القومي وتأسيس أحزاب وجمعيات تنادي بالاستقلال وتشكيل دول قومية . وكان للحرب العالمية الأولى
ودخول الدولة العثمانية للحرب الى جانب الألمان والدول الوسطى ضد بريطانيا
وحليفاتها اثر كبير في سقوط الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا لولاية البصرة 1914
ولولاية بغداد 1917 ولولاية الموصل 1918 وظهور العراق كدولة مؤلفة من الولايات
الثلاث وتأسيس الجيش العراقي ومبايعة الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق
في اب 1921 ، واجراء انتخابات المجلس التأسيسي (البرلمان ) ، وتنامى الحركة
الوطنية ، وتطور الصحافة ، وصدور قانون لتشجيع الصناعة الزراعة والتجارة ، وانقسام
المجتمع الى ثلاث طبقات الأولى ثرية ، والثانية متوسطة ، والثالثة فقيرة .
لقد كان للتغيرات التي شهدها المجتمع العراقي وخاصة بعد اندماج الاقتصاد
العراقي بالاقتصاد الرأسمالي منذ أواخر القرن التاسع عشر ، واتساع حركة الاستيراد
والتصدير وغزو السلع والبضائع الأوربية للسوق العراقية اثر كبير في تغير طبيعة
الاقتصاد العراقي من اقتصاد طبيعي يعتمد على الإنتاج لسد الحاجة المحلية الى
اقتصاد السوق الذي يعتمد الربح .وقد أسهمت في أحداث كل تلك التغيرات عوامل داخلية
واخرى خارجية .
فبعد
افتتاح قناة السويس سنة 1869 برزت ظاهرة نشوء واتساع تجارة التصدير الى أوربا ، وكانت
صادرات العراق تتمثل بالحبوب والصوف والجلود والحيوانات الحية ومنها الخيول والمواشي واتجه التجار الاوربيون
الى الاستثمار في العراق وخاصة في مجال
البنوك وجعل العراق كله منتجا للخامات وسوقا لمصنوعاتهم وكان لنمو تجارة التصدير
اثر كبير في نشوء " طبقة وسطى عراقية" اقرب ما تكون الى الطبقة البرجوازية وكانت شريحة
المثقفين من ضمنها تدعو الى تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .فضلا
عن المطالب المشروعة في تعزيز حركة الاستقلال وافساح المجال للفئات والشرائح
المحرومة لكي تنال حقوقها وتعبر عن تطلعاتها .
لذلك لم يكن غريبا ان يضطلع البرجوازيون
وخاصة المؤمنين منهم بالفكر اليساري بتبني مطالب العمال والحرفيين الذين حاولوا ان ينظموا انفسهم في جمعيات واحزاب تعمل
من اجل وحدتهم وتطالب بحقوقهم وخاصة حقهم في الحرية والتنظيم النقابي واصدار
قوانين وتشريعات تحمي مصالحهم وتؤمن مستقبلهم في صنع القرار السياسي لبلادهم .
لقد شهد العراق منذ اواخر القرن التاسع عشر ، وبدء انفتاح الاقتصاد
العثماني على السوق الرأسمالية الاوربية نتيجة حركة الاصلاحات العثمانية في مجالات
الارض والصناعة تأسيس معامل صغيرة للثلج ، والنسيج .هذا فضلا عن المعامل التي
انشأها الجيش ومعامل السكك الحديد في الشالجية ومعامل خاصة انشأها القطاع الخاص
هنا وهناك من المدن العراقية وخاصة الكبرى منها بغداد والموصل والبصرة .
ولعل
ما قام به بعض أهالي البصرة قبل الحرب العالمية الاولى يقف مثالا على ذلك .ونقصد
انشاء معامل للدباغة الحديثة ، ومعمل لحزم عروق السوس بقصد التصدير .كما تأسست
شركة لتجارة المراكب واخرى للنقل في البصرة حوالي سنة 1896 .
وفي
1908 ، دخلت السيارات العراق ، وتأسست
شركات لنقل البضائع والمسافرين .كما تأسست مطابع حديثة في الموصل وبغداد والبصرة .
وعندما قامت الحرب العالمية الاولى كان في العراق بضعة عشر مطبعة حديثة ملحقة بها
مسابك وماكنة صقل وتجليد وتهذيب يعمل فيها عدد لابأس به من العمال .
وسرعان
ما وجدت المكائن الحديثة طريقها الى المدن العراقية ومن هذه المعامل معامل للثلج ،
ومطاحن حديثة ومعامل لصنع المياه الغازية ومعامل للنسيج ومعامل لصنع الطابوق لكن
الانتاج الحرفي ظل يؤلف القاعدة الرئيسة للصناعة الوطنية في مرحلة ما قبل الحرب
العالمية الاولى .
ومن
هنا فقد انتظم الحرفيون واصحاب المهن في تنظيمات مهنية ترجع بجذورها الى العصور
الوسطى الاسلامية تعرف بالاصناف ومنها صنف الخشابين وصنف الصاغة وصنف العلافين
وصنف السراجين .
ونستطيع
ان نلخص الميادين التي تشكلت من خلالها " الطبقة العاملة العراقية" بثلاث هي : المعامل الحكومية و المعامل العسكرية
ومنها معامل الحدادة في الدميرخانة بالكرخ ، ومعامل النقل النهري، والمعامل التي رافقت انشاء بعض السدود ومنها سدة
الهندية هذا المشروع الذي افتتح في 12 كانون الاول –ديسمبر 1913 واشتغل فيه عمالا
كثيرين تراوح عددهم بين الالف والثلاثة الاف عامل عامل في الاعمال الترابية وحدها
وحوالي الف عامل في صناعة الاجر الذي يتطلبه المشروع . والمعامل الاهلية والمعامل
الاجنبية وخاصة المتعلقة بالنقل النهري كشركة بيت اللنج المعروفة التي يرجع
تأسيسها الى سنة 1840 .
وخلال الحرب العالمية الاولى عانى العمال من
شظف العيش ، ولم يكن هناك تحديد لساعات العمل ، وكان النساء والاطفال يشاركون
الاباء العمل في ظروف صعبة للغاية .وقد قدر عدد العمال العراقيين الدائميين والموسميين في تلك الفترة بعشرات
الالوف لذلك اصبح لهم وزن كمي في تركيبة المجتمع العراقي .
ويقينا
ان العمال كشريحة اجتماعية تأثرت بالاحتلال البريطاني ولم يقصر المحتلون في
استغلال العمال العراقيين أبشع استغلال حتى كان على العامل ان يوقع تعهدا يؤكد فيه
انه لايمانع في تعرضه الى القانون العسكري اعتبارا من تاريخ استخدامه في مشاريع
المحتلين وخاصة في السكك الحديد والحدادة والتنظيف وقيادة السيارات وصناعة الطابوق
والقوارب وقد كانت الاجور متدنية ولم يمنع هذا العمال من ان يكون لديهم حس وطني
معاد للانكليز . وتشير الوثائق المتداولة عن تحركات معادية للاحتلال في البصرة من
قبل عمال الميناء سنة 1916 ومن عمال في العمارة زاد عددهم عن 450 عاملا تركوا
العمل وقامت سلطات الاحتلال بفتح النار عليهم واودع عشرات منهم في السجن ومن
الغريب ان يتعاون ملاكوا المدن مع المحتلين في قمع العمال ومساعدة السلطات المحتلة
على اعادة من تبقى من العمال الى العمل قسرا .
ومن الطبيعي ان تساعد كل تلك الظروف العمال العراقيين على ادراك واقعهم
والاحساس بحاجتهم الى التكتل والمطالبة بحقوقهم وتلك مرحلة مهمة من مراحل تاريخ
الحركة العمالية العراقية .
بعد
تشكيل الدولة العراقية سنة 1921 ، شهد العراق نهضة وطنية بأتجاه الدعوة الى تطوير
الصناعة والزراعة ، وتشجيع التعليم ، وتنمية الحس الوطني والقومي ولم يكن العمال
بعيدين عن تلك النهضة فأبتدأوا وبالتعاون مع المثقفين من ذوي الاتجاهات اليسارية
يطالبون بحقوقهم وقد كانت البداية مطالبتهم بتأسيس ناد للعمال .
ويقينا
ان ثمة عوامل اسهمت في نضوج الشروط اللازمة لدفع العامل العراقي الى التحرك ويأتي
الوضع الاقتصادي الصعب والمتردي في المقدمة الى جانب التطور الذي شهدته الحركة
الوطنية العراقية وتبلور توجهاتها المعادية للاستعمار وما كان يسمعه العمال من
اخبار عن تحركات العمال في بعض البلدان ومنها مصر وتركيا وايران واليونان .
ومن
المفارقات ان الحكومة رفضت طلب تأسيس ناد للعمال العراقيين تقدم به كل من محمد صالح القزاز ومحيي الدين
محمد وقاسم عباس وهم عمال يعملون في السكك والمعمل العسكري في اواخر سنة 1924 ولم
يقف الامر عند هذا الحد بل اقدمت دائرة السكك على نقل احد مقدمي الطلب الى خارج
دائرة السكك . كما اوقفت ما يستحقه الاخر من زيادة يستحقها علما ان العمال الاجانب
كانت لديهم نواد خاصة بهم .ولم يفت هذا في عضد مقدمي الطلب وانما تقدموا في مطلع
سنة 1929 بطلب تأسيس جمعية بأسم : " جمعية اصحاب الصنائع " وقد اضطرت
وزارة الداخلية الى اجازتها في الاول من تموز سنة 1929 .
وفي
26 تموز 1929 اجتمعت الهيئة العامة لتنتخب قيادة للجمعية على النحو التالي :
1.محمد صالح عبد الجبار القزاز رئيسا
2.احمد السيد محمد عامل بالسكك نائبا للرئيس
3.محمد مصطفى ملاحظ في المعمل العسكري
سكرتيرا
4. نعيم فتوحي ميكانيكي في السكك امينا
للصندوق
5.يوسف السيد طه عامل ميكانيك بالسكك مراقبا
عاما
6.عبد الجبار سلمان ميكانيكي بالمعمل العسكري
عضوا مساعدا
7. محيي الدين محمد عامل بالسكك عضوا مساعدا
واتخذت الجمعية " سينما رويال "
ببغداد مقرا مؤقتا لها ثم صار لها مقرا خاصا في الحيدرخانة فيما بعد .
كان للجمعية نظام داخلي مؤلف من 9 فصول و39
مادة حدد اهداف الجمعية واكد ابتعادها عن العمل السياسي اليومي ، وان لادخل
للجمعية بالدين ، وان غايتها الوحيدة " تهذيب اصحاب الصنائع من الوجهة
الاخلاقية والصناعية والاجتماعية ونشر مبادئ الاداب الفاضلة بين افرادها "
.وقد تخطت الجمعية حدود النظام ، وانحازت للوطن ، وأكدت على لسان مؤسسيها وخاصة
القزاز ان غايتها الحقيقية " الدفاع
عن حقوق العمال والكفاح دون مطاليبهم وصيانة مصالحهم من كل عابث ... " .
وقد
قامت الجمعية بدور مهم في تطوير الحركة العمالية في العراق وكان القسم الاكبر من
قاعدتها مؤلف من عمال السكك الذين كانوا يعانون من مشاكل كبيرة اسوة بعمال المصانع
.ومما يؤسف له ان الجمعية والحركة العمالية العراقية المعاصرة عموما
، وقعت تحت تأثير عدد من المثقفين
المرتبطين بالأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الشيوعي وفيما بعد حزب البعث مما
افقدها شخصيتها النقابية واوقعها في اشكالات كثيرة لم تكن هي مسؤولة عنها .
لم
تكن "جمعية الصنائع " وحدها في الميدان وانما تأسست جمعيات مماثلة منها
جمعية تعاون الحلاقين 1929 وجمعية عمال المطابع العراقية 1930 وجمعية عمال
الميكانيك 1930 .وكانت هذه الجمعيات اقرب الى الاصناف المهنية منها الى الجمعيات
العمالية الصرف .
ومن
الامور الملفتة للنظر ان للحركة العمالية صحافتها .ففي 29 حزيران 1929 صدرت ببغداد مجلة جمعية اصحاب الصنائع وبأسم مجلة " الصنائع
" .
اما
في الموصل فظهرت لدى بعض المثقفين وأبرزهم
المحامي احمد سعد الدين زيادة فكرة تأسيس حزب للعمال لكن السلطات رفضت فأقدم زيادة
في الخامس من ايلول1931 الى اصدار جريدة بأسم العمال في الموصل . وفي 8 ايلول 1930 صدرت جريدة العامل ببغداد ، وجعلت شعارها : " ياعمال العالم اتحدوا " .وكان
صاحبها عبد المجيد حسن وكان عامل في مطبعة اهلية .
لقد استقطبت الحركة العمالية انتباه
الماركسيين الاوائل ، كما يقول الاستاذ الدكتور عبد اللطيف الراوي رحمه الله ، خاصة
بعد توسع القاعدة العمالية في المشاريع الكبرى وهي ميناء البصرة والسكك
الحديد والمشاريع النفطية بعد سنة 1927 ، وكانت قضاياهم المعيشية وعمليات الاستغلال
الواقعة عليهم من الشركات الاجنبية والمحلية في دائرة معالجاتهم ،اي في الصحافة او
في المجالس الخاصة بهم وقد ساندوا في مقالاتهم ونتاجاتهم الادبية وخاصة القصة
والشعر والرواية الحركة العمالية حتى انهم اسهموا فيها بشكل مباشر ونذكر من هؤلاء
المثقفين القاص محمود احمد السيد والقاص ذو النون ايوب .
لقد تنامت الحركة العمالية في اوائل
الثلاثينات من القرن الماضي وحققت انتصارات مهمة في الاضرابات وفي انشاء النقابات
وتوحيد صفوف العمال غير ان هذه الحركة النشطة كانت تعمل في ظروف صعبة وقد تعرض عدد
من القادة النقابيين للطرد من اعمالهم او السجن او النفي الى اماكن نائية من
العراق .
شهد العراق اضرابات عمالية منذ زمن مبكر من
تاريخ الحركة العمالية منها . ففي سنة
1876 اضرب عدد من العمال كانوا يقومون بأنشاء سدة في المنتفك بالناصرية الاانهم
اجبروا على معاودة العمل واضرب عمال المدابغ في الاعظمية سنة 1912 وامتنعوا عن
العمل وفاوضهم رئيس الصنف الشيخ عبد الرزاق الجلبي فعادوا الى العمل بعد تعهد
اصحاب المدابغ على تحسين ظروف العمل .
وفي
عهد الاحتلال حدثت اضرابات كثيرة منها اضراب في العمارة سنة 1917 وقد قامت سلطات
الاحتلال بفتح النار عليهم . وفي 1918 اضرب عمال البناء في النجف.وفي اليوم الثالث
من كانون الاول 1930 اضرب عمال السكك وعددهم قرابة ال1000 عامل ورفعوا عريضة
بمطالبهم وابرزها تحديد اجورهم بما يستحقون ومنحهم اجورا خلال ايام العطل الرسمية
والغاء الاستقطاعات عن اجورهم ووضع حد لتصرفات مسؤولي السكك الكيفية مع العمال
العراقيين والتعامل معهم بأسلوب انساني .وقد منع المضربون من قبل الشرطة وحالوا
بينهم وبين الوصول الى بناية وزارة الاشغال والمواصلات وبدأوا اضرابا ثانيا في
شباط 1931 وتبنت جمعية الصنائع مطالبهم وكان اكبر من الاضراب الاول . وكان اضراب
اواخر 1930 والذي عرف باضراب الرسوم( زيادة رسوم البلديات ) من اكبر الاضرابات التي قام بها العمال والذين
كانوا يعانون من انعكاسات الازمة الاقتصادية العالمية التي حدثت منذ 1929 وقد
اجتمع في مقر جمعية اصحاب الصنائع ممثلي 23 جمعية وصنفا وقاموا بأحتجاجات حسبت لها
الحكومة حسابا كبيرا .وقد اتسع الاضراب
وشمل مدنا اخرى غير بغداد ومع ان الحكومة تعهدت بالغاء الرسوم الا انها لم تبر
بوعدها وتطورت الاحداث واضطر الملك فيصل الاول الى الايعاز الى حكومة نوري السعيد
بأغاء الرسوم وتخفيض الجانب الاكبر من الضرائب الواردةفي قانون رسو البلديات .كما
لجأت الحكومة الى اصدار قرارات توحي باهتمامها بشؤون العمال وخاصة القصابون
والخبازون والبقالون وفي سنة 1932 احتج عمال شركة باتا للاحذية وعددهم مع اسرهم يربو على ال4000 وطالبوا بتحسين وضعهم
.
وقعت الحرب العالمية الثانية 1939 -1945 ، فأسهمت ظروفها وانعكاساتها في تنمية وعي
الطبقة العاملة العراقية وتزايد حجمها وبقدر
تزايد دور الطبقة البرجوازية واتجاه عدد من الفلاحين من الريف نحو المدينة
وخضوعهم للظروف الاجتماعية الصعبة التي كان يعيشها سكان المدن انفسهم .وليس من شك
في ان معظم هؤلاء التحقوا بالطبقة العملة وخاصة في حقل البناء والانشاءات .ومع
تطور وسائل الانتاج ، تطورت الطبقة العاملة العراقية وازدادت اعدادها .
ومع تطور صناعة النفط ، ونشوء بعض الصناعات الاهلية
والحكومية، وغيرها من العوامل، التي وفرت مجالات رحبة لتطورها من جهة والى تشغيل
قوى عاملة جديدة من جهة اخرى، موفرة مجالات واسعة، وحاجات كبيرة للايدي العاملة
الدائمية، ومحدثة تغييرات ملحوظة في تركيب المجتمع العراقي ويذكر الدكتور كاظم
الموسوي في دراسة له بعنوان : " الطبقة العاملة العراقية ووضعها الاقتصادي
والاجتماعي" ، الى ان احصاءات سكان العراق أشرت بأن سكان المدن اصبحوا حسب
احصاء 1947 يشكلون ما نسبته 41 % من مجموع سكان العراق البالغ عددهم حوالي 4,8
مليون نسمة . ومن المؤكد –كما سبق ان قدمنا –ان
الزيادة هذه كانت على حساب الريف وهذا مما انعكس سلبا على الزراعة . وثمة ما يشير
كذلك الى ان عدد المؤسسات التي شغلت 50 عاملا فأكثر بلغت 12 مؤسسة فقط في حين ان
التي شغلت اقل من 50 عاملا بلغت 158 مؤسسة .وقد اكد خبير يعمل في الامم المتحدة في
تقرير له يرجع الى سنة 1969 بان هناك نقصا وغموضا في الاحصائيات المتعلقة بالقوى
العاملة العراقية لذلك لانملك تصورا واضحا عن حجم الطبقة العاملة العراقية خاصة
وان اكبر مؤسسة صناعية في العراق وهي مؤسسة النفط كانت تدار من قبل الشركات
الاجنبية وتمتنع عن اعطاء معلومات دقيقة ليس عن الانتاج فحسب بل وحتى عن عدد
العمال الذي يشتغلون لديها .ولم يختلف الحال بعد تطبيق مبدأ مناصفة الاراح وتوفير
عوائد مالية جديدة للعراق منذ سنة 1952 وتطبيق مشاريع الاعمار وتزايد عدد العمال
وتوسع سوق العمل من الناحيتين الكمية والنوعية .
لقد ادى تطور انتاج النفط وتوفي مجالات جديدة
وفرص جديدة للعمل الى ان عدد العاملين في صناعة النفط سنة 1957 وصل الى 12
الف شخص.
اما في المؤسسات الصناعية الاخرى فقد بلغ العدد 264 الف شخص . ولاشك في ان
هذا التوسع في انتاج النفط (30 مليون طن 1954 ) وفر مجالات عمل لعدد كبير من الناس
الذين انضموا الى الطبقة العاملة العراقية . وما ان جاءت سنة 1958 الا وقد ازداد
عدد العمال العراقيين الى اكثر من مليون عامل .لكن هذا لم يحل دون تفاقم مشكلة
البطالة واتساع سياسة القمع وما يلحق ذلك
من اذى للعمال والذين غرق بعضهم بالديون واصبح ارباب العمل يسومونهم سوء العذاب
وكانت السجون تتلقف الكثيرين منهم واصبحت النقابات والجمعيات العمالية عاجزة عن
تقديم اي مساعدة مالية لهم ومما ضاعف الامر سوءا عدم وجود صناديق للضمان الاجتماعي
وعدم تأسيس صناديق للتقاعد وبالرغم من
تحديد وقت العمل في قانون رقم 72 لسنة 1936
بثمان ساعات الا ان وقت العمل الفعلي كان بين 12-16 ساعة يوميا وبالاجور
اليومية نفسها .هذا فضلا عن تشغيل النساء والاطفال والاحداث دون السن القانونية في
اعمال شاقة وبأعداد كبيرة .وقد دفع الوضع المزري هذا العمال الى التظاهر والاضراب
الذي قمع بالقوة كما حدث في مذبحة كاور باغي بكركوك سنة 1946 ووثبة كانون الثاني
1948 وانتفاضة تشرين 1952 وكان امتصاص نقمة العمال واحدا من اهداف انشاء مجلس
الاعمار والبدء بمحاولات اصلاحية للوضعين الاقتصادي والاجتماعي .
ان نضال الطبقة العاملة العراقية فرض
على الحكومات واصحاب المؤسسات والاحتكارات الرضوخ واصدار تشريعات عمالية والموافقة
على تأسيس نقابات وجمعيات عمالية.
فقد قامت الحركة العمالية بسلسلة اضرابية ومشاركة في
التظاهرات والانتفاضات الجماهيرية، شملت الاضرابات اهم المؤسسات والمشاريع، بما
فيها القواعد العسكرية البريطانية، وسكك الحديد والنفط والكهرباء والميناء.
ورغم ان صدور قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 تم بعد
مماطلة وتسويف إلا انه اول تشريع صدر في العراق وظل ساري المفعول حتى بداية 1958
حيث صدر تشريع جديد رقم 1 لسنة 1958 ظل مجمداً حتى اندلاع ثورة 14 تموز- يوليو
1958.
اضيفت للقانون ذيول وتعديلات لصالح العمال
بعد نضال طويل متواصل، فقد تناول القانون قضايا العمال وحدد العلاقة بينهم وبين
اصحاب العمل ونص على حق التنظيم النقابي على اساس الصناعات - النفط، السكك... - أو
الحرف- النجارة، الميكانيك... - ولكنه قيده بقيود ثقيلة كاجازة وزير الداخلية وحسن
السلوك من الشرطة، وجعله عرضة للتعطيل الاداري. وتناول القانون بشكل خاص تحديد
ساعات العمل والتعويض عن العطل الذي يصيب العامل في كل الاحالات، مخولاً مجلس
الوزراء اصدار قرارات بهذا الشأن، كتحديد ساعات العمل لاصناف العمال حسب صناعتهم
وحرفهم وجنسهم واعمارهم وغيرها.
إن اعتراف القانون بالتنظيم النقابي اقرار
لواقع مارسه العمال قبل هذا التاريخ. ففي عام 1929 توّج نضال عقد من السنين بتأسيس
عدة نقابات وجمعيات عمالية ومهنية، خاضت وقادت سلسلة طويلة من الاضرابات والنضالات
العمالية. ورغم اعتراف قانون العمل بحق التنظيم النقابي الا ان الطبقة العاملة
منعت من ممارسته علنياً اكثر من ثمان سنوات، الى منتصف عام 1944، ولم تنل من تلك
الحقوق المعترف بها قانونا إلا بعد نضال صعب حتى في المشاريع التي تمتلكها الدولة
أو تديرها كالسكك والميناء، ومع ذلك فقد اعتبر القانون مكسباً للطبقة العاملة
وثمرة نضالها الباسل وتضحياتها
منذ نشوئها، وتطوراتها، كانت نضالات الطبقة العاملة
العراقية بتكوين نقابات عمالية لها، وانتقالها الى مرحلة نوعية جديدة بتأسيس حزبها
السياسي، الشيوعي، واصدار قانون العمل عام 1936 وتعديلات عام 1937 وعام 1943 وغيرها،
كانت مترابطة مع نضال الحركة الوطنية وتطور مسار الصراع الطبقي في العراق، وقوة
ومكانة الطبقة العاملة في المجتمع، «اذ ان نضال الطبقة العاملة من اجل قضاياها
الخاصة، مرتبط بمرحلتنا هذه كل الارتباط بالحركة الوطنية التحررية، وبالنضال من اجل
الحقوق الديمقراطية لكل الشعب، فانتكاسات الحركة العمالية في بلادنا كانت نتيجة
لانتكاسات نضالات الشعب في الحقل الوطني، والنضال من اجل الحقوق الديمقراطية،
ولعدم فهم هذا الارتباط الرئيسي بين حركة العمال والحركة التحررية الديمقراطية، لم
يستطع العمال الصمود امام هجوم الرجعية على نقاباتهم، فاغلقت تلك النقابات وهي
لاتزال في سنتها الثانية او الثالثة، وكان مصير الحزب الشيوعي عام 1937 مثل مصير
النقابات.
لقد واجهت الحركة العمالية اضطهاد السلطات
وتعرضت للاعتقالات والتشريد والجوع والحرمان. ونشطت في نضالها بعد اعادة الحزب
الشيوعي لتنظيم صفوفه ونهوضه في مقدمة الحركة الوطنية فترة الحرب العالمية
الثانية، ومابعدها.
واستطاعت الطبقة العاملة ان تحقق مكاسب
جديدة عام 1944 باضطرار الحكومة على الاعتراف بالحقوق النقابية واجازة نقابات
عمالية (ستكون موضع دراستنا في الباب الثاني)، إلا انها لم تستطع فرض حقوقها كاملة
على السلطات واصحاب العمل والشركات الاحتكارية المهيمنة على اكبر المؤسسات
الانتاجية في العراق، نتيجة لعوامل عديدة، من ابرزها قلة خبرتها وتجربتها
النقابية، حيث كانت تتسم لفترة طويلة بالحرمان من كل اشكال التنظيم، بالرغم من
النمو الواسع لها، وما صاحبها من متاعب جدية واوضاع صعبة وقعت تحت وطأتها فترة
الحرب وماتلاها، وكذلك تسرب نفوذ اصحاب الاعمال الى قياداتها وعدم ضمها لجميع
المشاريع الصناعية، واكثرية العمال الماهرين، وغير الماهرين، الذين يشكلون نسبة
الاكثرية بين الطبقة العاملة العراقية
ومن بين المكاسب العمالية التي تمكنت
الطبقة العاملة العراقية تحقيقها، بعد تضحيات ونضالات متواصلة، اصدار قانون الضمان
الاجتماعي رقم 57 لسنة 1956. والذي كان أول قانون للضمان الاجتماعي للعمال في
العراق. وكان في الحقيقة مسخاً لمبدأ الضمان الاجتماعي، فقد الزم القانون رب العمل
والحكومة بدفع ثلاثين فلساً يوميا مناصفة، وهو مبلغ تافه لايستحق الذكر بالقياس
الى قدرته الشرائية. واوجب القانون عند دفع الاعانة ان لايكون العامل مشتركا في
اضراب وان يكون قد ترك العمل باختياره وان يكون "حسن السلوك والسمعة".
ان مما يمكننا قوله ان الحركة العمالية ، ارتبطت
بالحركة الوطنية . لذلك حققت بعض المكاسب للطبقة العاملة ، وابرزها الاعتراف بهذه
الطبقة ، وجلب الانظار اليها كقوة اجتماعية لها وزنها وامكاناتها الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية .
ولم يكن بوسع السلطة الحكومية تجاهل مطالب
العمال ومن ذلك اصدار قوانين للعمل منها قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 ..
ومع
ان المناهج الوزارية تضمنت الكثير من الامور التي تهم العمال والطبقة العاملة الا
ان ما نفذ من هذه التشريعات والقوانين لم تأخذ طريقها الى التنفيذ وكان على العمال
والوطنيين جميعا ان يعملوا ضمن هيكلية جديدة تمثلت بجبهة الاتحاد الوطني التي ضمت
احزابا عراقية عديدة وتنظيم الضباط الاحرار وقد كان من نتائج التعاون بين الجبهة
وتنظيم الضباط الاحرار اسقاط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق صبيحة يوم 14
تموز 1958 .وبدأت عندئذ مرحلة جديدة من تاريخ الحركة العمالية في العراق .
بعد ثورة 14 تموز1959 ، سيطر
الحزب الشيوعي على نقابات العمال ، واستطاع تسيسها ، وزجها في أتون الصراع السياسي مع الحركات القومية .وقد
انعكس ذلك سلبا على واقع ومستقبل الحركة العمالية .وبعد سقوط نظام الزعيم الركن
عبد الكريم قاسم في شباط 1963 اندفع حزب البعث بذات الاتجاه بل وصدرت قرارات جعلت
الانتماء الى النقابات ليس الزاميا .
كما حولت شريحة كبيرة من
العاملين في مؤسسات ومصانع وشركات ودوائر الدولة الى موظفين الامر الذي انعكس سلبا
على الحركة العمالية التي تعاني اليوم من التشرذم ، وعدم الانتظام ، والضعف في
الدور ليس المهني وانما السياسي والوطني كذلك .
ومع هذا ثمة محاولات تبذل
من نقابات العمال والاتحادات النقابية المختلفة للم الشمل والعودة لممارسة دورها
الفاعل في بناء العراق من جديد ومعالجة ما اعتور كيانه السياسي والاقتصادي
والاجتماعي اثر الاحتلال الاميركي واسقاط النظام
السابق في 9 نيسان 2003 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق