العلاقة بين اللغة والاستبداد في كتاب : (لماذا العرب ليسوا أحرارا ؟)
سيد محمود حسن
في كتابه المهم' لماذا العرب ليسوا احرارا' الصادر عن دار الساقي في بيروت يطرح عالم النفس المصري الشهير مصطفي صفوان العديد من القضايا المهمة
التي يصعب فصلها عن المشهد الراهن في مصر والعالم العربي, سواء تعلق ذلك بقضايا التحول الديموقراطي او تعلق بتحليل البينية الاستبداية في الثقافة العربية, لكن اللافت للنظر ان صفوان الذي يعرفه البعض من خلال ترجمته لكتاب ايتيان دي لابوسيه' مقال في العبودية المختارة' يطرح ذلك كله من منظور جديد تماما يربط هذه الاشكاليات برصد العلاقة بين اللغة والاستبداد وهي علاقة شغلت المؤلف منذ اربعين عاما, لذلك يحدث احيانا ان يقدم في النص اطياف من سيرته الذاتية التي تؤرخ لانشغالاته بالموضوع
والدكتور مصطفي صفوان مفكر مصري هاجر لفرنسا قبل اكثر من خمسة عقود وهو الان احد ابرز اعلام مدرسة التحليل النفسي في العالم وبالتحديد تيارها اللاكاني( نسبة الي جاك لاكان) ويقدم الدكتور مصطفي حجازي مترجم الكتاب دراسة وافيه لمحتواه في المقدمة التي وضعها وحجازي استاذ علم نفس لبناني مرموق قدم مؤلفات بارزة اشهرها كتابيه' سيكولوجية الانسان المقهور' وسيكولوجية الانسان المقهور'
ويضع يده في المقدمة علي الكثير من مفاتيح منهج صفوان في قراءة ظاهرة الربيع العربي, كما يربط بين هذه القراءة والمسار الاكاديمي لصاحبها المهموم بتحليل بني الثقافة الاستبدادية, لافتا الي مخاطر تحول الاستبداد الي استبداد ذاتي يمارسه المرء علي كيانه من الداخل ويتوقف مطولا امام فكرة مركزية لدي صفوان وهي' استرداد الحق في القول و الكلام في التواصل مع الذات'
والمعروف ان صفوان طرح قبل سنوات نظرية تتعلق باهمية التأصيل للكتابة باللغات الدارجة او العامية وفي الكتاب يدعو صراحة الي الدفاع عن لغة الشعب معتبرا ان اللغة الفصحي واستعمالها يمثلان رقابة علي التعبير الشعبي العفوي والاصيل لانها لغة فوق الشعب من حيث مرجعيتها, مشددا علي ان الفصحي لغة نخبوية تقتصر علي الخاصة الذين يكتبون بها في عزلة عن الشعب وقضاياه المعيشية وبالتالي فأن لغة القلة النخبوية تخدم حفاظ السلطة علي استبدادها وسيطرتها علي الجماهير فهي لغة النصوص الرسمية ومن خلال هذه اللغة ترسخ السلطة هيمنتها, فالفصحي تعزز الاغتراب عن فضاء الحياة اليومية من ناحية ومن ناحية اخري هي لغة فوقية بل واكثر من ذلك يري ان استخدام العامية هو خطوة باتجاه' علمنة الدولة' بالقياس الي ما عاشته اللاتينية في الغرب مؤكدا أنه لم يكن ممكنا قيام الديموقراطية في أوروبا الا بعد حسم المعركة بين اللاتينية وبين لغة الكلام الفعلي وكان صفوان قد بادر قبل سنوات بترجمة مسرحية' عطيل' لشكسبير للعامية المصرية ضمن مشروعه القائم علي كسر احتكار اللغة الفصحي وكان غايته في ذلك كما أوضح حجازي في مقدمته للكتاب' رد حق القول الي الجماهير والكلام بلغتها' وبالتالي استرداد كيانها, لان تبخيس اللغة هو تبخيس للكيان ذاته بل ان المؤلف يعتبر ان شعارات ثورة25 يناير واليات التعبئة الجماهيرية فيها هي خطوة باتجاه ذلك, لانها اكدت فرص استرداد الكلام من النخب التقليدية التي يري صفوان انها كانت تؤدي دور' الشرطي الثقافي' للنظام.
وفي موضوع اخر من الكتاب يشرح كيف ان, الاستبداد يمارس التجريم عبر اجهزة القمع الامنية والايديولوجية لكنه يتعزز من خلال التحريم الديني الذي يسيطر علي النفوس ويتمم التأثيم عمل التجريم والتحريم من خلال حكم' العصبيات' التي تنتج المستبدين وتقوم العصبية علي سياسة' اخضع ترضع' اي الخضوع لسلطة العصبية العائلية او العشائرية أو القبلية لقاء الحماية وتأمين المنافع وأي تمرد أو خروج عن سلطة العصبية يعرض صاحبه للحرمان والنبذ باعتباره خروجا عن الطاعة
ويعطي صفوان مجالا كبيرا لتحليل اليات الاستبداد الديني من منظور نفسي كاشفا عن مخاطر التحالف بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي وعمليات انتاج الاستبداد في الممارسات الاجتماعية وعبر الفتاوي الدينية التي تعزز مكانة السلطة بل يصل علي المستوي الشعبي أحيانا الي تعزيز سلطة المستبد من خلال تمجيد خصاله وسلوكياته وهيمنته وخلق ما يسمي ب' المستبد العادل'.
و يكشف صفوان كيف انه في اثينا القديمة حيث قامت اول ديموقراطية معروفة في الغرب كان يمنع تجديد ولاية الحاكم الاكثر شعبية لدي الجماهير حتي لا يجنح نحو الاستئثار بالسلطة وادامة تحكمه فيها ويلفت الي ان المشكلة الاكبر التي واجهت اباء الدستور الامريكي تمثلت في كيفية وضع الضوابط للحاكم بحيث تحول دون استبداده بالحكم واستثتاره فيه, خدمة لاطلاق مبادرات الناس وحماية لها.
من اللافت للنظر ان صفوان يتعرض في الفصل الاخير من كتابه للقضايا التي شغلت مصر بعد ثورة52 يناير وتتعلق بدور الاحزاب التي تأسست علي اساس ديني وطالبت بتطبيق الشريعة الاسلامية مؤكدا انه حين يدعي حزب تطبيق الاسلام في دولة تعتنق هي نفسها الاسلام فامر لا معني له سوي تكفير هذه الدولة او علي الاقل ادانتها.
ويشير صفوان كذلك الي متغير رئيس لابد وان يحكم نظرتنا للواقع الجديد وهو متغير يرتبط بظهور نخبة جديدة تخاطب الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهو يري كذلك ان دور هذه النخبة توعية المواطنين بمخاطر الخلط بين الدين والسياسة ووتقليل الفجوة بين مواطني المدن ومواطني الارياف وهو دور يتعلق اصلا بالتعليم وسياساته في مصر فالقضية الرئيسية عنده هي محو الامية في كافة مستوياتها سواء كانت امية القراءة او الامية السياسية وهي اهم خطوة لانهاء ثقافة الاستبداد سواء كان باسم السياسة او باسم الدين وترسيخ حق المحكومين في محاسبة الحاكم وكلها امور لا تنفصل عن قضية تحرير المرأة كما لا تنفصل كذلك عن مهمة اكبر لابد ان يتكفل الشباب الثوري بانجازها وهي احترام حق الاختلاف والاتفاق علي قواعد عامة تحكم المجال العام.
*http://www.ahram.org.eg/
سيد محمود حسن
في كتابه المهم' لماذا العرب ليسوا احرارا' الصادر عن دار الساقي في بيروت يطرح عالم النفس المصري الشهير مصطفي صفوان العديد من القضايا المهمة
التي يصعب فصلها عن المشهد الراهن في مصر والعالم العربي, سواء تعلق ذلك بقضايا التحول الديموقراطي او تعلق بتحليل البينية الاستبداية في الثقافة العربية, لكن اللافت للنظر ان صفوان الذي يعرفه البعض من خلال ترجمته لكتاب ايتيان دي لابوسيه' مقال في العبودية المختارة' يطرح ذلك كله من منظور جديد تماما يربط هذه الاشكاليات برصد العلاقة بين اللغة والاستبداد وهي علاقة شغلت المؤلف منذ اربعين عاما, لذلك يحدث احيانا ان يقدم في النص اطياف من سيرته الذاتية التي تؤرخ لانشغالاته بالموضوع
والدكتور مصطفي صفوان مفكر مصري هاجر لفرنسا قبل اكثر من خمسة عقود وهو الان احد ابرز اعلام مدرسة التحليل النفسي في العالم وبالتحديد تيارها اللاكاني( نسبة الي جاك لاكان) ويقدم الدكتور مصطفي حجازي مترجم الكتاب دراسة وافيه لمحتواه في المقدمة التي وضعها وحجازي استاذ علم نفس لبناني مرموق قدم مؤلفات بارزة اشهرها كتابيه' سيكولوجية الانسان المقهور' وسيكولوجية الانسان المقهور'
ويضع يده في المقدمة علي الكثير من مفاتيح منهج صفوان في قراءة ظاهرة الربيع العربي, كما يربط بين هذه القراءة والمسار الاكاديمي لصاحبها المهموم بتحليل بني الثقافة الاستبدادية, لافتا الي مخاطر تحول الاستبداد الي استبداد ذاتي يمارسه المرء علي كيانه من الداخل ويتوقف مطولا امام فكرة مركزية لدي صفوان وهي' استرداد الحق في القول و الكلام في التواصل مع الذات'
والمعروف ان صفوان طرح قبل سنوات نظرية تتعلق باهمية التأصيل للكتابة باللغات الدارجة او العامية وفي الكتاب يدعو صراحة الي الدفاع عن لغة الشعب معتبرا ان اللغة الفصحي واستعمالها يمثلان رقابة علي التعبير الشعبي العفوي والاصيل لانها لغة فوق الشعب من حيث مرجعيتها, مشددا علي ان الفصحي لغة نخبوية تقتصر علي الخاصة الذين يكتبون بها في عزلة عن الشعب وقضاياه المعيشية وبالتالي فأن لغة القلة النخبوية تخدم حفاظ السلطة علي استبدادها وسيطرتها علي الجماهير فهي لغة النصوص الرسمية ومن خلال هذه اللغة ترسخ السلطة هيمنتها, فالفصحي تعزز الاغتراب عن فضاء الحياة اليومية من ناحية ومن ناحية اخري هي لغة فوقية بل واكثر من ذلك يري ان استخدام العامية هو خطوة باتجاه' علمنة الدولة' بالقياس الي ما عاشته اللاتينية في الغرب مؤكدا أنه لم يكن ممكنا قيام الديموقراطية في أوروبا الا بعد حسم المعركة بين اللاتينية وبين لغة الكلام الفعلي وكان صفوان قد بادر قبل سنوات بترجمة مسرحية' عطيل' لشكسبير للعامية المصرية ضمن مشروعه القائم علي كسر احتكار اللغة الفصحي وكان غايته في ذلك كما أوضح حجازي في مقدمته للكتاب' رد حق القول الي الجماهير والكلام بلغتها' وبالتالي استرداد كيانها, لان تبخيس اللغة هو تبخيس للكيان ذاته بل ان المؤلف يعتبر ان شعارات ثورة25 يناير واليات التعبئة الجماهيرية فيها هي خطوة باتجاه ذلك, لانها اكدت فرص استرداد الكلام من النخب التقليدية التي يري صفوان انها كانت تؤدي دور' الشرطي الثقافي' للنظام.
وفي موضوع اخر من الكتاب يشرح كيف ان, الاستبداد يمارس التجريم عبر اجهزة القمع الامنية والايديولوجية لكنه يتعزز من خلال التحريم الديني الذي يسيطر علي النفوس ويتمم التأثيم عمل التجريم والتحريم من خلال حكم' العصبيات' التي تنتج المستبدين وتقوم العصبية علي سياسة' اخضع ترضع' اي الخضوع لسلطة العصبية العائلية او العشائرية أو القبلية لقاء الحماية وتأمين المنافع وأي تمرد أو خروج عن سلطة العصبية يعرض صاحبه للحرمان والنبذ باعتباره خروجا عن الطاعة
ويعطي صفوان مجالا كبيرا لتحليل اليات الاستبداد الديني من منظور نفسي كاشفا عن مخاطر التحالف بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي وعمليات انتاج الاستبداد في الممارسات الاجتماعية وعبر الفتاوي الدينية التي تعزز مكانة السلطة بل يصل علي المستوي الشعبي أحيانا الي تعزيز سلطة المستبد من خلال تمجيد خصاله وسلوكياته وهيمنته وخلق ما يسمي ب' المستبد العادل'.
و يكشف صفوان كيف انه في اثينا القديمة حيث قامت اول ديموقراطية معروفة في الغرب كان يمنع تجديد ولاية الحاكم الاكثر شعبية لدي الجماهير حتي لا يجنح نحو الاستئثار بالسلطة وادامة تحكمه فيها ويلفت الي ان المشكلة الاكبر التي واجهت اباء الدستور الامريكي تمثلت في كيفية وضع الضوابط للحاكم بحيث تحول دون استبداده بالحكم واستثتاره فيه, خدمة لاطلاق مبادرات الناس وحماية لها.
من اللافت للنظر ان صفوان يتعرض في الفصل الاخير من كتابه للقضايا التي شغلت مصر بعد ثورة52 يناير وتتعلق بدور الاحزاب التي تأسست علي اساس ديني وطالبت بتطبيق الشريعة الاسلامية مؤكدا انه حين يدعي حزب تطبيق الاسلام في دولة تعتنق هي نفسها الاسلام فامر لا معني له سوي تكفير هذه الدولة او علي الاقل ادانتها.
ويشير صفوان كذلك الي متغير رئيس لابد وان يحكم نظرتنا للواقع الجديد وهو متغير يرتبط بظهور نخبة جديدة تخاطب الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهو يري كذلك ان دور هذه النخبة توعية المواطنين بمخاطر الخلط بين الدين والسياسة ووتقليل الفجوة بين مواطني المدن ومواطني الارياف وهو دور يتعلق اصلا بالتعليم وسياساته في مصر فالقضية الرئيسية عنده هي محو الامية في كافة مستوياتها سواء كانت امية القراءة او الامية السياسية وهي اهم خطوة لانهاء ثقافة الاستبداد سواء كان باسم السياسة او باسم الدين وترسيخ حق المحكومين في محاسبة الحاكم وكلها امور لا تنفصل عن قضية تحرير المرأة كما لا تنفصل كذلك عن مهمة اكبر لابد ان يتكفل الشباب الثوري بانجازها وهي احترام حق الاختلاف والاتفاق علي قواعد عامة تحكم المجال العام.
*http://www.ahram.org.eg/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق