يوسف الصائغ والشعر الحر في العراق
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث -جامعة الموصل
يوسف الصائغ (1933 – 2005)، واحد من رواد الحركة الثقافية العراقية المعاصرة، ملأ الدنيا، وشغل الناس.. لم يسقط القلم من بين يديه حتى آخر لحظة من حياته.. عرفه القاصي والداني، وظلت كتاباته، ومقالاته اليومية، والأسبوعية في الصحف والمجلات حيّة في نفوس الناس. كما انشغل الآخرون بنتاجاته، تحليلا ، وتفسيراً، ودراسة، فاستحق الذكر والتكريم مرات ومرات سواء في حياته أو بعد مماته.. كتب عنه صديقنا العزيز الكاتب والأديب الموسوعي الأستاذ حميد المطبعي في الجزء الأول من موسوعته: "موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين"، والذي أصدرته دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والأعلام ببغداد سنة 1995، فقال: بأنه ((شاعر كاتب)) هو ((يوسف نعوم داؤد الصائغ، تخرج في دار المعلمين العالية (كلية التربية) ببغداد سنة 1954، عمل في التعليم الثانوي مدرساً للغة العربية ثم انتقل الى العمل في حقل الصحافة، وآخر وظائفه، مدير عام المؤسسة العامة للسينما والمسرح (1993 وما بعدها). له مؤلفات عديدة أقدمها: "قصائد غير صالحة للنشر" مشترك مع الأستاذين شاذل طاقة، وعبد الحليم اللاوند رحمهما الله)، وقد طبع في مطبعة الهدف بالموصل سنة 1956 "دماء بلا دموع 1961"، "السودان: ثورة وشهداء 1996"، اعترافات مالك بن الريب، ديوان 1970، "اللعبة: رواية 1971 و "المسافة: رواية 1974"، "سيدة التفاحات الأربع: ديوان 1976، "الشعر الحر في العراق: دراسة 1977، "المعلم:ديوان 1986" ، " الاعتراف الأخير لمالك بن الريب : سيرة ذاتية في جزءين 1987- 1989، ديز ديمونة.. مسرحية 1979.. " قصائد 1992".n أما أستاذنا الدكتور عمر محمد الطالب ، رحمه الله، فقد أسهب في الكتابة عنه ضمن : (موسوعة إعلام الموصل في القرن العشرين ) التي أصدرها مركز دراسات الموصل ، بجامعة الموصل سنة 2008، فوقف عند سيرته الذاتية طويلا، وأشار إلى أنه من أسرة دينية موصلية مسيحية ، فوالده شماس في الكنيسة، وعمه سليمان الصائغ ، المورخ المعروف وصاحب كتاب تاريخ الموصل بثلاثة أجزاء، قس ثم مطران، وقد تأثر به يوسف . أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة شمعون الصفا ودراسته المتوسطة الشرقية ودراسته الإعدادية في المدرسة المركزية بالموصل، وقد انتمى الى الحزب الشيوعي، لذلك تعرض للاعتقال لأكثر من سنة، وبعد ذلك أعلن براءته من الحزب في أوائل السبعينات من القرن الماضي .أُحيل على التقاعد سنة 1996.. كانت له صداقات وثيقة مع عدد كبير من المثقفين العراقيين وعمل في مجلة ألف باء، وهو شاعر، وقاص، ورسام، ومسرحي، ويعده الدكتور الطالب من: "أفضل كتّاب الخاطرة في العراق وخواطره في مجلة ألف باء الموسومة: "فوق نار هادئة" تدل على ذلك.n اتسمت كتابات وقصائد يوسف الصائغ بالروح الوطنية، والتوهج الثوري، وقد تفاعل مع أحداث عصره وخاصة هزيمة حزيران 1967، لكن ذلك لم يمنعه من أن يؤجج المشاعر الوطنية، ويدعو الى الاستجابة للتحديات بتحديات أكبر، فيدعو في قصائده ،القوم إلى المجابهة، وعدم الاستكانة، وقد دفع هذا النقّاد ومنهم الدكتور ذنون الأطرقجي الى القول بأن يوسف الصائغ في شعره ،لم يكن في منطلقاته الأساسية يختلف عن شعراء التيار القومي العربي التقدمي.n الذي بهمنا في هذا الحيز، هو ماأنجزه يوسف الصائغ على صعيد تقديم الشعر الحر في العراق نصاً، وتحقيقاً، ودراسة، ورواداً.. فلقد حرص على أن تكون رسالته للماجستير التي تقدم بها الى قسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة بغداد سنة 1974 بأشراف الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله، محاولة تأصيلية لظاهرة الشعر الحر في العراق.. وقد أشار الى أن ثمة دوافع عديدة كانت وراء محاولته تلك منها:n1.إنه جرب كتابة الشعر على النمط الحر منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.n2.انه كان على علاقة، بعدد غير قليل من رواد الشعر، باعتباره أحد أفراد الجيل الذي أعقب جيل الشعراء الرواد: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي. n3.إنه عاش بشكل عام، ظروفاً مشابهة للظروف التي عاشها الشعراء من أبناء ذلك الجيل فلقد درس في دار المعلمين العالية 1950 – 1954 والتقى ، خلال دراسته ،عددا من أولئك الشعراء.n4. أنه كان يجمعه وأولئك ، الاهتمام بالقضايا العامة ، وبشكل خاص القضايا السياسية ، وكان مثل أكثرهم قريبا من الفكر الماركسي، والحزب الشيوعي العراقي .n5. أنه كان يمتلك ، آنذاك، بعض الاهتمام بالأدب وخاصة بالقصة القصيرة، والفن التشكيلي ، مما هيأ له مجال التعرف على الجو الثقافي العراقي المعاصر .n اعتقد يوسف الصائغ، إن الشعر الحر أصبح ظاهرة بارزة في الحياة الثقافية العربية المعاصرة ،وقد برهن عبر مايقرب من ربع قرن على فاعليته وأصالته ، ولم يعد ، كما كان متصورا من قبل ،ظاهرة عابرة أو مؤقتة ، لذلك أدرك ضرورة دراسة حركته، وتحديد مايمكن من ملامحها وإمكاناتها ، ونماذجها المبدعة ، وعلى الرغم من ذلك كله ، فقد لمح إهمالا من المؤسسات الأكاديمية العربية للشعر الحر ، وقد كان لموقف الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر ، وما عرف عنه من تتبع لظواهرالادب العراقي واهتمام رصين لبعض محاولاته الجديدة ، أثر كبير في أقدامه على ولوج هذا الطريق ، وركوب هذا المركب ، الذي تطلب منه متابعة نتاج مايزيد عن (200) مئتي شاعر عراقي وحسب التسلسل الزمني ، منهم من نشر شعره في مجموعة ، أو في عدد من المجموعات الشعرية ، ومنهم من نشر نماذجه في عدد من الصحف والمجلات ، عراقية وعربية ، بينهم المكثر ، وبينهم المقل، بينهم المعروف ، وبينهم المغمور .n حين أراد الأستاذ يوسف الصائغ، معرفة ظروف واليات ظهور الشعر الحر في العراق منذ نشأته أواخر الحرب العالمية الثانية حتى سنة 1958، قام بدراسة الموضوع وفق أساسين متكاملين : أولهما تاريخي يتابع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي مر بها العراق آنذاك . وثانيهما نقدي ينصرف لمعالجة الظواهر والقيم الشعرية ارتباطا بالأساس التاريخي، وعبر التركيز على نماذج لأعمال الشعراء البارزين، ومما يسجل له رصد التيارات السياسية التي توزعت عليها خارطة الشعر الحر في العراق، والمتمثلة بالتيار القومي، والتيار الديني، والتيار الليبرالي، والتيار الاشتراكي، ولم ينس أن يربط ذلك بمتابعة تاريخية لحركة التأليف والترجمة، وازدهار ظهور المجلات الثقافية الرائدة، ومنها مجلة المجلة ،ومجلة الثقافة الجديدة ، وما أفرزته الحياة الحزبية من نشاط انعكس على الأدباء وعلى نتاجاتهم ومن ثم أثر ذلك النتاج في المجتمع العراقي .. وقد حفلت الساحة الثقافية العراقية بأسماء شخصيات رائدة كان معظمها في حقبة الخمسينات من القرن الماضي منتمية إلى القوى القومية والقوى التقدمية أمثال : عبد الوهاب ألبياتي، وعبد الملك نوري ، وخالد الرحال، وصلاح خالص، وشاذل طاقة، وعبد الغفار الصائغ، ومحمود صبري، وشفيق الكمالي، ومحمود المحروق ، وبدر شاكر السياب ، وعبد الرزاق الشيخ علي، وعبد الرزاق عبد الواحد، وناظم توفيق، وزهير القيسي، وكاظم جواد وغائب طعمه فرحان ، وعلي الشوك، ورشدي العامل ، ومحمد سعيد الصكار، ورشيد ياسين ، وسعدي يوسف، ومجيد الراضي ، ويوسف الصائغ، وخالد السلام ، والفريد سمعان ، ويوسف نمر ذياب، ويوسف العاني ، وعدنان الراوي، وهلال ناجي، وعلي الحلي، وكاظم السماوي . وقد طرح الفكر اليساري بجناحيه القومي التقدمي والاشتراكي كمجموع قضايا عديدة : منها قضية دور الأديب في المجتمع ،وقضية الالتزام، والأدب الإنساني، والواقعية الاشتراكية . كما استحوذت قضية التجديد على اهتمام الأدباء الشباب، ونوقشت بجدارة المدارس الفنية، والأدبية، والأجنبية ، ومدى مايمكن أن يستفيد منها الفنان والأديب العراقي والعربي، وكان الاهتمام يزداد بالمضمون باعتباره نقطة الانطلاق في التجديد ، وكافح اليساريون بشدة نظريات الفصل بين الشكل والمضمون.. ومن أبرز الذين قاموا بدور مهم في مجال النقد وقتئذ نهاد التكرلي ، وجبرا إبراهيم جبرا، وصلاح خالص، وعلي جواد الطاهر، وكان للأدب العراقي أن يتطور، وان يتزايد نشاطه تحت تأثير التطور العام ، سواء في العالم، أو في العراق أو في الوطن العربي. ويقينا أن لازدياد التعليم والبعثات ، والترجمة، والصحافة، والمجلات، وانتشار الطباعة. وتقدمها، وتطور الوضع الاقتصادي والاجتماعي أثر كبير في تنامي وتطور المحاولات التجديدية في الشعر والأدب العراقيين، وهذا مااكده الصائغ في دراسته للشعر الحر مع ملاحظته الجادة على أن ماحدث في توجه الجيل الجديد في العراق نحو الشعر، لم يمنع من استمرار الشعر التقليدي بصيغة المعروفة جنبا إلى جنب مع الشعر الحر، وهذا دلالة أكيدة على أن جيل الرواد ظل أمينا لتراثه العربي بصورة عامة، ولتراثه العراقي العريق بصورة خاصة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق