الاثنين، 1 فبراير 2010

قلعة دمشق ..عظمة التاريخ وعبقه !!


قلعة دمشق .. عظمة التاريخ وعبقه

أ . د ابراهيم خليل العلاف

مركز الدراسات الاقليمية – جامعة الموصل



في كل مرة أزور فيها دمشق الشام , أحرص أشد الحرص على الوقوف أمام قلعتها الشامخة , قلعة السلطان الأيوبي العادل , ويقينا أن قلعة دمشق تحتل اليوم في الذاكرة البشرية ماتستحقه من اهتمام , نظرا لما أدته من دور تاريخي عبر مراحل الزمن المختلفة 00 كانت قلعة دمشق , بتحصيناتها الدفاعية , ودورها السكنية أو مبانيها الحكومية والبلدية , وجوامعها ومساجدها وحماماتها وكل مرافق الحياة فيها , دمشق المدينة 00 دمشق العاصمة 00 ولئن اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ نشأتها الأولى , فانهم يتفقون على حقيقة مهمة وهي أن قلعة دمشق هي من أقدم قلاع الدنيا 00 وتاريخها هو تاريخ أعرق مدينة في العالم تلك هي دمشق لذلك ليس مهما القول أن بداياتها تعود لحصن روماني يرجع الى القرن الثالث الميلادي 00 لكن مما ينبغي ذكره ان هذه القلعة القديمة أعيد بناؤها , وجددت عبر عصور وقرون عربية اسلامية طويلة 0

في كتاب أعده المهندسان هزار عمران وجورج دبورة عن قلعة دمشق وصدر سنة 1998 , الكثير من الحقائق المتعلقة بهذه القلعة الحصينة والتي لاتزال آثارها شاخصة وسط العاصمة السورية , وهي تحكي قصة أولئك الرجال الذين عملوا من أجل وحدة هذه الأمة وخيرها واستقلالها , وثمة أمر لابد من ذكره وهو أن معظم مدن العصور القديمة والعصور الوسطى سواء في الشرق والغرب كانت تضم قلاعا , كانت هناك قلعة في الموصل وقلعة في اربيل وقلعة في كركوك وقلعة في حلب وقلعة في القاهرة 00وللقلعة, وتقع عادة في مكان مرتفع , ابواب وتحصينات دفاعية وأسوار وتحيط بها الخنادق , وعبر الزمن يتجدد بناء هذه القلاع وتضاف اليها بعض المباني وهكذا فان قلعة دمشق , كقلعة حلب مرت خلال تاريخها , بعدة مراحل فعلى سبيل المثال, بدأ القائد السلجوقي أيام حكم العباسيين آتسز بن أوق بتجديد بناء قلعة دمشق بعد دخوله اليها سنة 471 هجرية /1078 ميلادية . وفي عهد الدولة النورية ( الزنكية ) التي حكمت العراق والشام في السنوات الأولى من القرن الثاني عشر(549 هجرية/1154 ميلادية ) أقام نور الدين في دمشق وجعل قلعتها مقره , فأصبحت دمشق للمرة الأولى منذ نهاية العصر الأموي عاصمة للدولة العربية الإسلامية وقد جدد نور الدين القلعة ودعمها بالأبراج وبخندق محمي بســور0 كما انشأ فيها دورا ومساجد وحمامات ومدارس وقد توفي فيها رحمه الله سنة 1174 م ( 569 ) هجرية .

أما صلاح الدين الأيوبي , والذي تولى السلطة في الشام والعراق وأماكن أخرى من الوطن العربي ومنها مصر بعد انتهاء عهد الزنكيين فانه اتخذ من قلعة دمشق مركزا لعملياته العسكرية واستمر كذلك منذ 28 تشرين الأول 1174 م وحتى وفاته سنة 1139 وقد دفن رحمه الله بجوار القلعة وقرب الجامع الأموي وواصل ابنه الأكبر الأفضل علي , مسيرة ابيه مستعينا" بعمه العادل حاكم الجزيرة وقد اصبح العادل منذ سنة 1200 سلطانا" على الدولة ولنقل الإمبراطورية الأيوبية التي ترامت اطرافها لتشمل العراق ومصر والشام وخلال المسيرة التاريخية للدولة الأيوبية , فأن الملك الصالح ايوب , ومن بعده الناصر يوسف كان لهما دورهما الفاعل في تقوية اسس قلعة دمشق وتجديدها وتحصينها واضافة الكثير من المباني السكنية والإدارية داخلها .

لكن الخطر المغولي سرعان ما لاح في الأفق وخيم على الشام كما خيم من قبل على العراق , فبعد سقوط بغداد 1258 وسقوط الموصل 1260 سقطت حلب ومن ثم دمشق بيد المغول لكن المماليك في مصر والذي جاؤوا بعد الأيوبيين شمروا عن سواعدهم وتصدوا للغزاة المغول واوقفوهم عند حدهم .

اهتم المماليك بدمشق وقلعتها ونستطيع اليوم ان نتلمس آثار الكثير مما فعلوه. جدد الظاهر بييبرس القلعة وبنى فيها دارا كبيرة مع مرفقانها، واشاد طارمة واسعة فوق برج الزاوية الشمالية الغربية وحماما قرب البوابة الشرقية وأعاد بناء الجهة الشمالية المؤلفة من خمسة أبراج مع بدناتها. وعندما دخلت الشام تحت السيطرة العثمانية اثر انتصار السلطان سليم الأول (1512-1520) على المماليك , كان لقلعة دمشق ذكرياتها مع العثمانيين , لعل من أبرزها ان اسعد باشا العظم وهو من اهالي دمشق الشام احتل القلعة سنة 1746 وأصبح نائبا ( حاكما ) لدمشق وكلما كانت القلعة تتعرض للتخريب او الزلازل فان السلاطين العثمانيين كانوا يأمرون بصيانتها واعادة بناءها من جديد لكن عوادي الزمن كان لابد لها ان تترك تأثيراتها على القلعة , ففضلا عن أنها أصبحت مجرد انقاض مع مطلع القرن العشرين , فانها استخدمت حتى وقت قريب سجنا وثكنة عسكرية , كما أنها وجدت نفسها مطوقة بمجموعة كبيرة من الأسواق , حتى ان الواجهة الجنوبية للقلعة اختفت خلف ( سوق الحميدية ) الذي امتد حتى ملأ المسافات بين الأبراج 0 أما (سوق العصرونية ) فقد اتسع ليمتد على طول الجدار الشرقي للقلعة 0 وقد انتبهت الحكومة السورية لذلك فسلمت المبنى الى المديرية العامة للآثار والمتاحف ليرمم ويحافظ عليه فأزيل ( سوق الخجا ) من الواجهة الغربية , وحرر الجزء الشمالي من الواجهة الشرقية ، كما أزيلت جميع المباني عن الميدان الشمالي 0

وصف المهندسان هزارعمران وجورج دبورة القلعة في كتابهما المشار اليه آنفا فقالا ان قلعة دمشق تقع في الزاوية الشمالية الغربية من مدينة دمشق القديمة , بين باب الفرج من الشرق وباب النصر من الجنوب الذي يشغله حاليا مدخل سوق الحميدية وتبلغ أبعاده حوالي ( 150) م شمال جنوب و (220) م شرق غرب ويتعامد الجداران الشرقي والشمالي الذي يمتد بشكل مستقيم لمسافة تبلغ ثلثي طوله قبل ان ينحرف ليلاقي الجدار الغربي الذي ينقص طوله بمقدار الثلث عن الجدار الشرقي وقد صممت القلعة على هذا الشكل حتى تستفيد من الميزات الجغرافية والإستراتيجية للموقع 0 وقد بنيت القلعة على تل مرتفع ومع ان دمشق منبسطة بشكل عام مع بعض الارتفاع البسيط داخل المدينة , فقد تم بناء القلعة في هذا المكان المهم فجانبان منها فقط معرضان للغزو الخارجي 0 كما ان المصادر المائية هي اغزر ما يمكن في هذه المنطقة اذ يمر فرعان من نهر بردى من هذا المكان , فيحد ( نهر العقرباني ) القلعة من الشمال في حين يدخلها نهر بانياس جنوب البرج الثالث. لقد صممت القلعة لتعتمد على قوة دفاعاتها فهي تتألف من ثلاثة عشر برجا مع البدنات الرابطة بينها وتظهر الأبراج عن البدنات بارزة باتجاه الخارج ويتمتع الجانب الشمالي للقلعة بالمناعة لوجود أحد فروع نهر بردى بجانبه وقد زودت الأبراج بمرام في كل طابق مع تصوينة علوية مزدوجة مزودة بالسقاطات والرواشن ويتألف مكان الرمي من أيوان مجهز بمرمى ويسمح الفراغ بوجود اثنين من الرماة يتناوبان الرمي فيما بينهما ولتسيير حركة الجنود تم تأمين ابواب بالأبراج تصلها بالممر والممشى وقد اعادت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية بناء الابراج والبدنات في القلعة وفي القلعة طرق واذا مر الزائر عبر البوابة الغربية للقلعة الى الداخل فسيجد نفسه أمام ممر مسقوف. وللجدران الخارجية مناسيب دفاعية ولم يتبق من الممر المسقوف سوى الأقواس , اما القصر الأيوبي الذي كان واقعا في الجزء الغربي للقلعة فقد تهدم والقصر الحالي يعود الى أيام المماليك 0 وهناك كتابات على الأبراج والبدنات فالكتابة التأسيسية العائدة للسلطان بيبرس على سبيل المثال والموجودة على ( البرج 11 ) تقع ضمن اطار مستدير متوج بمستطيل ويحوي دائرة أصغرويبلغ ارتفاع الاطار 4 م وعرضه 5ر2 م وتقول الكتابة (( الملك لله رب العالمين مديم بنعمته على الشاكرين , بسم الله الرحمن الرحيم عز لمولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين العالم العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور بيبرس النجمي الصالحي آمر بعمارة القلعة المنصورة 000في سنة تسع وخمسين وستماية 0)

من داخل القلعة يمكن ان نقف على الكثير من الأبنية والمؤسسات من قبيل القصور التي كانت مقرا للسلاطين أو الحمامات أو الغرف المستطيلة المزودة بدرج للنزول اليها او القاعات الكبرى التي تحملها الأعمدة الجميلة الواقعة في منتصفها بتيجانها ولهذه القاعات مداخل والمداخل تفتح على ممرات طويلة مسقوفة وهناك أواوين مغطاة بصفوف من القرنصات وتقوم على قبب فيها كتابات وغالبا ما كانت المسافات بين الجدران مسقوفة بعدة مناسيب من الأرضيات الخشبية المحمولة على دعامات مثبتة ضمن حفر في جدران الأبراج 0 وتحاول المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية اعادة كل شئ الى نصابه في هذه القلعة كلما امكن ذلك , وطبقا للأساسيات التي يعثر عليها في الموقع , فعلى سبيل المثال أعادت بناء البرج الأول على غرار البرج ال (12) الأيوبي الوحيد المتبقي من القلعة , ومن الطبيعي فانها تستند الى كتابات الرحالة العرب والأجانب الذين زاروا القلعة وكتبوا عنها في مراحل تاريخها البعيد 0

لقد اعتمد معمار القلعة ومهندسها على الكتلة البنائية الضخمة للأبراج فأحجار الابراج هي أحجار ذات بطون ويساعدها هذا في امتصاص صدمات القذائف الموجهة اليها 0 كما زودت القلعة بممر مسقوف بالقبوات المتصالبة يدور حول كامل محيطها الداخلي مع ممشى على سطحه 0 وجدران القلعة تتألف من ثلاث طبقات 0 صفان من الحجارة النحيتة من أحد جانبها تحيطان بقلب أو حشوة من الدبش , وليس هناك أي اتصال بين حجارة الأبراج والبدنات المجاورة حتى لايسبب سقوط أحدهما انهيار الآخر وكل من يطلع اليوم على خارطة القلعة الخارجية يجد أنها محاطة بأسواق وخانات ومدارس ومستشفيات وجوامع ومقامات وطاحونات وأبواب , منها على سبيل المثال سوق الحميدية وباب النصر وسوق الحريقة وباب الجابية وخان أسعد باشا العظم وقصره والمدرسة النورية وقهوة النوفرة , والمدرسة الشميساطية والمدرسة الجقمقية ومقام صلاح الدين الأيوبي والمدرسة العادلية والمدرسة الظاهرية ثم طاحونة باب الفرج وباب الفراديس 00 وبيما رستان ( مستشفى ) النوري ومن يجلس في ( قهوة النوفرة ) وقد فعلت أنا ذلك قبل أيام ( نيسان 2007) يحس بعبق التاريخ ورائحته الزكية , تاريخ أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الله في الأرض وعملوا من أجل العدالة والحق فتحية لهم ولذكراهم العطرة وتحية لأهلها الطيبين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...