الاثنين، 1 يونيو 2020

حركة تلعفر المسلحة في 4 حزيران 1920 من خلال تقرير سري بريطاني



حركة  تلعفر  المسلحة  في 4 حزيران 1920 من خلال تقرير سري بريطاني

ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل


نحتفل في حزيران -يونيو الجاري  بالذكرى المئؤية الاولى للثورة العراقية الكبرى التي يعرفها العراقيون بثورة العشرين .وقد كتبت كثيرا عن الثورة في رسالتي للماجستير عن ( ولاية الموصل 1908-1922 دراسة في تطوراتها السياسية )..كما كتبت عنها في كتابي المشترك مع عدد من المؤلفين ( المفصل في تاريخ العراق المعاصر) والذي صدر عن (بيت الحكمة ) التابع حاليا الى مجلس الوزراء ببغداد . وتعتبر حركة تلعفر مقدمة للثورة العراقية الكبرى وبداية حقيقية لها ذلك انها اندلعت في 4 حزيران 1920 ووصلت ذروتها في جنوب العراق يوم 30 حزيران 1920 وكانت ثورة عراقية شاملة استهدفت الوجود الاستعماري البريطاني . 
ومما سبق ان كتبته هذه المقالة الموسومة ( حركة تلعفر 1920 من خلال تقرير سري بريطاني ) نشرته في مجلة ( الجامعة ) الموصلية العدد (4) السنة (8) كانون الثاني 1978 وهذا التقرير عثرت عليه في دائرة السجلات العامة بلندن وعنوانه :
P.R.O .F.O.371.5130.Report on the recent Attack at Tel Afar Political Officer in Mosul . dated june 25 1920
 حركة تلعفر 4 حزيران 1920 ويسميها الناس في تلعفر وفي الموصل ب( ثورة تلعفر) ،  هي حلقة في سلسلة الاحتجاجات والحركات المسلحة التي واجهها المستعمرون الانكليز بعد احتلالهم العراق بين سنتي 1914 و1918 وقد وصلت الثورة ذروتها يوم 30 حزيران سنة 1920 في الرميثة .
واليوم اريد ان اتحدث لكم عن ثورة تلعفر والتي نشبت يوم 4 من حزيران سنة 1920 إعتمادا على تقرير سري بريطاني وجدته في دائرة السجلات البريطانية  في لندن  سنة 1978 .. وأقول أن عددا من الضباط والجنود العراقيين الذين كانوا  يخدمون في الجيش العربي الهاشمي تجمعوا في دير الزور منذ أواخر سنة 1919  وذلك للعمل على إدامة الحركات المسلحة ضد سلطات الاحتلال البريطاني في العراق ، وتوسيع نطاقها حتى مدينة الموصل التي احتلتها القوات البريطانية في 11 من تشرين الثاني سنة 1918 .
وقد التقى وفد مؤلف من الضابط علي جودت الايوبي والضابط جميل المدفعي ومعهما السياسي ثابت عبد النور بالملك فيصل الاول وكان ملكا على سوريا  1918-1920  . وقد وافق الملك فيصل على اعطائهم الاموال وتردد في تزويدهم بالسلاح وفي السماح لأخيه الامير زيد بالذهاب معهم كما يقول ذلك علي جودت الايوبي في مذكراته . ومما يقوله علي جودت الايوبي ان الملك فيصل أعطاهم ( 3000 ) جنيه مصري أُبدلت في حلب بليرات ذهبية .
ثم تألفت هيئة من علي جودت الايوبي ، وجميل المدفعي،  وتحسين علي بإسم ( الهيئة الوطنية لادارة الحركات المسلحة في العراق ) .وقد أوفدت الهيئة احد الضباط الى دمشق تطلب من الحومة العربية فيها تزويدها بالسلاح بحجة إكمال نقص قوة الدرك في لواء دير الزور فحصل منها على ( 150) بندقية و(50) صندوقا من العتاد حملها الى دير الزور وسلمها الى جميل المدفعي والذي قدر له فيما بعد ان يشكل أكثر من وزارة في العراق خلال العهد الملكي . وقد اضيفت هذه الاسلحة التي اخذها بعض الضباط العراقيين من المخازن التي في حراسة جنودهم دون  علم الحكومة العربية في دمشق .
استطاعت الهيئة الوطنية لإدارة الحركات المسلحة في العراق من الحصول على الاموال لتمويل اعمالها من مصادر عديدة ففضلا عن ال (3000) جنيه مصري التي حصلت عليها من الملك فيصل اعطى الامير زيد الهيئة في دمشق (5000) جنيه مصري . كما استفادت الهيئة من المرسوم الذي اصدرته الحكومة العربية في دمشق في فرض غرامة (10%) من قيمة الذهب المهرب من البلد من جمع مبلغ ( 7000) ليرة ذهبية عثمانية وانكليزية .
ويقول المؤرخ الامريكي فيليب ويلارد ايرلند  في كتابه  ( العراق :درسة في تطوره السياسي ) 1949 ان الاسلحة والاموال أتت الى الضباط العراقيين في دير الزور وحلب من مصادر تركية ، ومن حكومة دمشق ولكن فارس الخوري وزير مالية الحكومة العربية انكر عندما سأله المؤرخ ايرلند بشكل قاطع دفع أي مبلغ من الخزينة السورية ويقول قد تكون الاموال جاءت بشكل غير مباشر من الامير زيد بن الحسين .
ويقول المؤرخ السوري زين نور الدين زين  في كتابه بالانكليزية (صراع العرب من اجل الاستقلال ) 1960 ان احد الضباط العراقيين أخبره في مقابلة شخصية ان الملك فيصل وافق على اعطائهم ( 5000) جنيه مصري .
ما يهمني هنا ان اقوله ان القوة العسكرية هذه تحركت من دير الزور بقيادة  العقيد الركن جميل المدفعي وكانت مؤلفة من اربع سرايا يقودها نديم السنوي ، وسليم الجراح ، ومصطفى شوقي ، ومحمود أديب وتقرر ان يكون ( عبد الحميد الدبوني ) مرافقا  للحملة .
وصلت القوة بلدة الفدغمي الواقعة على نهر الخابور بعد مسيرة اربعة أيام .وهنا نجد ان الحاكم السياسي البريطاني في الموصل في التقرير السري الذي اشرت اليه كتب في تقريره الذي وجهه الى وكيل الحاكم الملكي العام في بغداد يقول :" في 26 مايس أيار 1920 وصلت اخبار عن قدوم مجموعة من القوات العسكرية العراقية ومعها مدفع رشاش بقيادة الضابط الموصلي جميل بك (المدفعي ) الى الفدغمي وان مساعد الحاكم السياسي في تلعفر اكتشف ان هناك محاولات ترمي الى تأليب العشائر بإسم الشريف عبد الله أحد انجال الشريف الحسين بن علي شريف مكة وقائد الثورة العربية سنة 1916 .وقد انتشرت الاشاعات بأن القوة الموجودة في الدغمي ستتقدم الى الامام "
واضاف الحاكم السياسي يقول انه قدم في 30 من ايار ومقر الفرقة ( 18) في الموصل تقريرا جاء فيه : ( أن هناك محاولة قوية بمساندة العشائر ترمي الى طردنا من الموصل أي طرد الانكليز وقال ان الكولونيل الكسندر قام بحملة استطلاعية ووصل حتى عين الغزال الا انه لم يكتشف شيئا ، وقد جرت عملية إستطلاع جوي في المنطقة لكنها لم تعثر على ما يثير الخوف .
وقد قدرت إستخبارات الموصل العسكرية هذه القوة ب(1000) رجل مسلح .
كان من المقرر ان تمر القوة ببلدة سنجار ، إلا أن قائدها جميل المدفعي ، عدل عن هذه الخطة لعوامل عسكرية وسياسية وتقرر ان يكون الهجوم الاول موجها الى بلدة تلعفر لاسباب عديدة منها وجود بعض الرؤساء الموالين للحركة ووجود عشائر شمر والجبور وامثالهما من الموالين للحركة ، ووجود عدد من منتسبي جمعية العهد في مدينة الموصل وهي جمعية سرية تعمل ضد الاحتلال البريطاني. هذا فضلا عن ان تلعفر منطقة وقاعدة وفيرة المياه والمؤن وهي صالحة عسكريا .
سارت الحملة بموازاة جبل سنجار حتى وصلت صباح يوم 2 حزيران 1920 الى موقع خنيزيرة على وادي الرد في الشمال الشرقي من جبل سنجار . وكانت الحملة تتزايد عددا بإلتحاق جموع الفرسان  من العشائر وخاصة شمر وطي والجبور والعكيدات والبكارة وبلغ مجموع القوة ( 300) مسلح .
عقد مؤتمر في خنيزيرة برئاسة جميل المدفعي حضره ضباط الحملة ، وكبار رؤساء العشائر امثال الشيخ مشعل الفارس ، والشيخ بنيان الشلال من شيوخ شمر ، والشيخ مبرد السوكي من رؤساء عشيرة عبده ، والشيخ مسلط الملحم رئيس عشائر الجبور . وتقرر  في المؤتمر ضرورة الحصول على تأكيدات من رؤساء تلعفر بتأييد الحركة .
وغادر عبد الحميد الدبوني الى تلعفر على إعتبار ان له علاقة مع رؤساءها ، عندما كان يشغل منصب وكيل الحاكم السياسي قبل استقالته والتحاقه بدير الزور وقد رافقه في ذلك فارسين احدهما يمثل شمر والثاني يمثل الجبور .
شعرت السلطات البريطانية بتلك الحركات فترك الكولونيل أي العقيد الكسندر عند إنتهاء عملية الاستطلاع التي اشرت اليها آنفا مدفع رشاش من نوع فيكرس في تلعفر كإجراء احتياطي اضافي .
وجاء في تقرير الحاكم السياسي في الموصل ( نولدر ) ان فكرة سحب مساعده من تلعفر الميجر ( بارلو ) وهيئة الموظفين هناك قد راودته الا انه سرعان ما استبعد هذه الفكرة ، واشار الى العوامل التي جعلته يتخلى عن الفكرة اي فكرة الانسحاب وهي:
1.            لم يكن هناك دليل على ان الهجوم سيتطور في أيام قلائل .
2.            كان الدرك في تلعفر على درجة عالية من التدريب والمهارة .
3.            تعتبر قلعة تلعفر من المناطق الدفاعية الحصينة .
4.            ان الانسحاب من تلعفر يعني التخلي عن المنطقة برمتها ومن المؤكد ان الانسحاب سيؤدي الى انضمام العشائر الى الجانب المناؤئ .
5.            ان الانسحاب سيترك تأثيرا سيئا في مدينة الموصل والتي كانت اوضاعها كما يقول الكولونيل نولدر الحاك السياسي في الموصل ( تُعكر صفوي وتفكيري) .
6.            وصل حميد الدبوني ومرافقيه ليلة 1/2  حزيران قرية قبك القريبة من تلعفر واجتمع بالسيد سلمان أغا السيد وهب مختار القرية فوجده يعلم بموضوع الحركة .عندئذ قام الدبوني بكتابة رسائل الى رؤساء عشائر الجبور والجحيش والجرجرية أخبرهم فيها  عن وصل ما اسماه عسكر الشريف يقصد الشريف بقيادة جميل المدفعي .وطلب منهم الاستيلاء على تلعفر قبل وصول حملة الشريف لكسب الشرف من قبل سكان المنطقة وعشائرها وتقديمها رمزا للولاء ..ثم غادر الدبوني ومرافقيه قبك الى تلعفر وفي تلعفر عقد اجتماعا في دار السيد عبد الله  اغا السيد وهب ليلة 2/3 حزيران حضره فضلا عن السيد عبد الله اغا السيد وهب وشقيقه السيد عبد المطلب السيد وهب كبار الرؤساء في تلعفر منهم عبد الرحمن افندي بن عثمان افندي رئيس عشيرة بير نزار والحاج علي أغا عبد الكريم رئيس عشيرة البو دوله والحاج يونس افندي بن عزيز أغا رئيس عشيرة الالاي بكي وابنه ابراهيم وآخرون .
كما حضرالاجتماع جميل محمد ال خليل افندي  الخيال آمر قوة الدرك ( الجندرمة )  . وقد جرت مداولات بين المجتمعين تقرر فيها الموافقة على القيام بالحركة المسلحة ، ومهاجمة قلعة تلعفر قبل وصول حملة جميل المدفعي الى تلعفر .
كانت قوة الانكليز في القلعة مكونة من ضابط الدرك الكابتن ستيوارت ، وثلاثة من الافراد الانكليز مع مدفع رشاش منصوب في دار مساعد الحاكم السياسي وقوة من الدرك المحلي مؤلفة من ( 70) دركيا بقيادة الرئيس جميل محمد ال خليل افندي ، ومساعده الملازم محمد علي حسين النعلبند .
وتقرر  أن يكون التجمع في قرية قبك حيث أن رسائل الدبوني الى رؤساء العشائر تنص على إجتماعهم مع عشائرهم هناك وإنفض الاجتماع وتفرق الرؤساء إستعدادا للعمل .
علم الميجر بارلو بما دار في الاجتماع الذي عقد في دار السيد عبد الله اغا السيد وهب وذلك عن طريق السيد عبد المطلب اغا وابراهيم بن الحاج يونس عزيز اغا .وقد اتصل الميجر بارلو بالكولونيل نولدر الحاكم السياسي للموصل صباح 3 من حزيران هاتفيا – كما جاء في التقرير السري المشار اليه – وأخبره بأن مندوبا شريفيا عقد اجتماعا في الليلة الماضية لرؤساء البلدة وطلب منهم إما الانضمام الى القوات القادمة أواحتلال تلعفر  لمصلحة الشريف .واضاف الميجر بارلو ان جميل محمد ال خليل افندي يوزباشي الجندرمة –الدرك غادر تلعفر وان خط البرق قد قطع .
وقال الميجر بارلو انه ينوي اتخاذ بعض التدابير في الليلة القادمة للقيام بعملية استطلاع بإتجاه عوينات للتأكد فيما اذا كان هناك تحشدات أم لا .وقد اتخذت قيادة الفرقة (18) في الموصل بعض الاجراءات من اجل ان تقوم الطائرات والسيارات المصفحة بزيارة تلعفر كل يوم وان تقوم الطائرات ببعض الاستطلاعات في 4 حزيران لضمان بقاء الاتصالات في حالة قطع الخط ثانية .
تحركت القوة العشائرية من قرية قبك بعد ان صدرت اليها الأوامر من قبل الرئيس جميل وعبد الحميد الدبوني وكان على رأس القوة عد من الرؤساء امثال الشيخ صالح احمد الخضير ، وسلمو الخلف العوجان من رؤساء الجحيش ، والشيخ شاهر بن داغر رئيس عشيرة الجبور في منطقة زمار ، وسليمان اغا بن سعدون اغا والحاج قادر اغا من رؤساء الجرجرية وخش بن حديد من رؤساء طي وغيرهم .
وصلت القوة العشائرية الى تلعفر صباح 4 حزيران وبدأت الهجوم على الموقع بعد أن إنضم الى المهاجمين عدد كبير من سكان تلعفر . وقد انقسمت القوة الى مجموعتين  الاولى بقيادة جميل محمد ال خليل الخيال  والثانية بقيادة عبد الحميد الدبوني وكان على المجموعة الثانية احتلال القلعة ، قلعة تلعفر الحصينة وتقوم المجموعة الاولى بواجب حماية تقدمها .
وقد وصف عبد الحميد الدبوني محاولة الاستيلاء على القلعة في مقالة نشرها في جريدة (الزمان ) البغدادية  الاعداد 4و9ا  و20 و24 و26 من  نيسان 1954 بعنوان :  ( ثورة تلعفر اهدافها وحوادثها ونتائجها ) وقال ان مساعده عندما كان آمرا على الدرك الملازم محمد علي النعلبند عندما وجد الكابتن ستيوارت يحث الدرك على المقاومة أطلق عليه النار فقتله .وعندئذ ترك افراد الدرك المقاومة واعلنوا ولاءهم للحركة وتولوا الاستيلاء على القلعة.
وهوجمت بعد ذلك الدوائر الحكومية ، ودائرة الدرك ودور الانكليز ويشير تقرير الحاكم السياسي المشار اليه آنفا الى عدم قيام افراد الدرك بأي مقاومة .ولم يجزم فيما اذا كان النعلبند قد اطلق الرصاص على الكابتن ستيوارت اثناء قيامه بالواجب او في سريره  . وقد روى  أحد افراد الدرك فيما بعد  مايدل على ان مقتل الكابتن ستيوارت جرى ليلة 4 حزيران 1920 في محاولة لتمهيد السبيل للاستيلاء على تلعفر .
أما مدرب الدرك العريف (ووكر ) والكاتب المستر ( لولر ) والمسؤول عن مدفع الفيكرز، فقد تحصنوا فوق سطح دار مساعد الحاكم السياسي وحاول المهاجمون الاستيلاء على الدار ولكنهم كانوا يرتدون عنها بسبب رصاص الرشاش الذي كان يطبقه المنحصنون عليهم من فوق سطحها  وإذ ذاك تحمس الشيخ صالح احمد الخضير وتسلق البناية صاعدا ولما لمحه المتحصنون اطلقوا عليه الرصاص فإستشهد رحمة الله عليه .
اصبح موقف المهاجمين في تلعفر حرجا بسبب تأخر وصول قوات المدفعي ، فإضطر الدبوني الى مغادرة البلدة الى تل قريب ولم يمض على وجوده هناك طويلا حتى بدأت طلائع الحملة تصل ، وكان يتقدمها ثلاثة فرسان منهم الضابط محمد علي سعيد الذي كان يحمل قنبلتين يدويتين فتوجهوا نحو دار مساعد الحاكم السياسي حيث القيت قنبلة على المتحصنين فقتلوا جميعا .
كما القي القبض على الميجر بارلو الذي كان قد غادر مقره ليلة 3/4 حزيران 1920 الى قرية قبك وذلك في محاولة منه لمعرفة ما يجري هناك .وقد اجتمع في قبك بسليمان اغا الجرجري الذي حاول اعتقاله لكنه تمكن من الهرب .وقد اصدر عبد الحميد الدبوني أوامره بلزوم التحري عن الميجر بارلو والقبض عليه وعدم الاعتداء على حياته وخصص مكافأة مالية قدرها (50) ليرة ذهبية لمن يأتي به حيا .
وفي صباح 4 من حزيران القي القبض على الميجر بارلو قرب تلعفر ، وقد أُقتيد الى تلعفر ورأى في الطريق بعض السيارات المصفحة الانكليزية التي ارسلت من الموصل للاستطلاع فحاول التخلص من آسريه ولكنهم تبعوه واطلقوا النار عليه فقتل . أما السيارات المصفحة ، فقد نصب لها كمين في تلعفر وتم الاستيلاء عليها وقتل من كان فيها من دون ان يسلم أحد منهم وكان عددهم ضابطين و(14) جنديا .وقد وصف المر هالدين في كتابه (عصيان في بلاد مابين النهرين )
The Insurrection in Mesopotamia 1920 .London .1922 p39
الحادثة في كتابه وصفا دقيقا ، واشار الى ان السكان هم الذين ترصدوا للسيارات المصفحة بالحجارة .
وصل جميل المدفعي مع قواته بعد ظهر يوم 4 من حزيران 1920 وقد استقبل السكان القوة بالتهليل والتكبير والهتاف ، وامر جميل المدفعي بإنزال العلم البريطاني من فوق دائرة مساعد الحاكم السياسي ، ورفع العلم العربي لاول مرة على أرض العراق بمراسيم شعبية .
كما اوعز بأن تُسلم الخزينة الى لجنة شكلها لهذا الغرض وقد اختلفت الروايات حول المبلغ الذي كان موجودا فيها فذكر  جميل المدفعي في رسالة الى جمعية العهد في الموصل ان المبلغ كان (40000 ) روبية .اما  عبد الحميد الدبوني فقال انها كانت تحتوي على ( 75000 ) روبية و(50) ليرة ذهبية .وقال المؤرخ عبد المنعم الغلامي ان ما كان في الخزينة مبلغ مقداره ( 80000 ) روبية و(95) ليرة ذهبية وذكر مصدر آخر انها ( 82000 ) روبية .
اما الحاكم السياسي للموصل الكولونيل نولدر ، فيعترف في تقريره المشار اليه بقوله : " ان خسائنا كانت فادحة " . ويقدر الخسارة بمبلغ (300000) روبية ويقول ان مجموع دخل قضاء تلعفر في السنة الماضية كان حوالي (350000 ) روبية لكنه لم يشر الى المبلغ الذي كان موجودا في الخزينة عند نشوب الحركة .
وزع  جميل المدفعي بعض الاموال " على العشائر في القصبة وخارجها وأمن استراحتهم ودعا الموظفين في القضاء وطيب قلوبهم " . ويشير علي جودت الايوبي في مذكراته الموسومة (ذكريات ) الى شيء من هذا القبيل فيقول   : وكان من الضروري صرف بعض الاموال على تجهيز القوة ورؤساء العشائر تشجيعا لهم لمساندة الحركة الوطنية  وذكر ان بعض الضباط الذين ساهموا في الحركة رفضوا إستلام أي مبلغ بل اكتفول بالصرف من جيبهم الخاص .واضاف ان الصرف كان يجري تحت اشراف الهيئة الوطنية وتسجل مفرداته في دفتر خاص من قبل المحاسب  محمود الجراح مع إخبار مركز جمعية العهد .
كان سقوط تلعفر بمثابة الاشارة التي حركت جميع عشائر وسكان المنطقة .وتوجهت مجموعات مسلحة الى طريق الشرقاط – الموصل لقطع طرق المواصلات البريطانية وباتت كل الطرق المؤدية الى الموصل في خطر .وقد أصدرت السلطات المحتلة بلاغا ذكرت فيه ان عدة هجمات وقعت في 9 من حزيران على طريق الموصل – الشرقاط .
إتخذ جميل المدفعي من بناية مدرسة تلعفر الاولى (القديمة ) مقرا له ، وبقي مع قواته في تلعفر ( 3) أيام وفي اليوم الرابع تحركت القوة نحو الموصل لتحريرها .
وفي قرية ( أبو ماريا ) ، عقد اجتماع حضره الضباط وكبار رؤساء العشائر تقرر فيه ان يكون يوم الاربعاء 8 حزيران موعدا للهجوم على الموصل .
كما جرت اتصالات بين جميل المدفعي الذي كان يوقع بياناته ب( قائد جيش العراق الملي الشمالي ) و(الملي أي الوطني ) ، وبين جمعية العهد للاتفاق على تحديد موعد قيام الجمعية بالحركة .
وقد اكدت جمعية العهد في رسالتها المؤرخة في 5 من حزيران 1920 ضرورة  التسيق بين هجوم القوة على الموصل ، وقيام الجمعية بالحركة المسلحة .وقد وجه المدفعي وبعض رؤساء العشائر إنذارا الى الحاكم السياسي في الموصل بإسم جميع العراقيين " بوجوب الانسحاب من العراق ، وإعطاءه الاستقلال وان لم تخرجوا فسنخرجكم بحد سيوفنا " . وقد أجاب الحاكم السياسي على الانذار بأنه سينقل مضمون ذلك الى حكومته .
قامت جمعية العهد بتهيئة الإستعدادات اللازمة للقيام بالحركة . وقد وزعت المنشورات التي تؤكد على المحتلين .وقسمت المدينة الى خمسة قطاعات رئيسة ووزعت اعضاءها ومؤيديها على هذه المناطق لضمان السيطرة على المدينة سيطرة تامة وقامت بتوزيع الاسلحة والاعتدة .
شعرت السلطات البريطانية في الموصل بتلك التحركات فأصدر الحاكم السياسي بلاغا الى السكان نشر في جريدة ( الموصل ) بعددها الصادر  في 7 من حزيران 1920 حذر فيه السكان من الاقتراب من الاسلاك الشائكة التي احيطت بها المدينة بعد الساعة الثامنة مساءَ ،وفرض على السكان منع الدخول أو الخروج من المدينة في الوقت المذكور ،وأنذر المخالفين بأنهم يعرضون انفسهم لنيران الحرس .
كما استدعى الحاكم السياسي في اليوم ذاته ( 20) شخصا من المدينة ، وهددهم بضرب المدينة عند حصول أية حركة مخلة بالامن  ، وطلب منهم ان يخبروه بأسماء اعضاء جمعية العهد .وقامت الشرطة بتحري بعض الدور والقت القبض على عدد من الاشخاص وفي مقدمتهم معتمد اي مسؤول جمعية العهد محمد رؤوف الغلامي وطلبت من السكان تسليم جميع انواع الاسلحة الى السلطات المختصة .
وصلت قوات المدفعي قرية تويم  وباتت ليلتها فيها .وفي صباح 8 من حزيران 1920 تحركت من تويم  ووصلت بعد مسيرة  ساعة ونصف قرية ابو كدور التي تبعد عن الموصل حوالي (50) كيلومترا في حين تم الاتفاق بين القوة المسلحة وجمعية العهد ان يكون الوصول الى الموصل يوم 8 حزيران 1920 .
وقد مكن هذا البطء في الحركة من تلعفر السطات المحتلة من إنجاز استعداداتها فأتمت حفر الخنادق في الجهات الغربية عن مدينة الموصل ووضعت حولها الاسلاك الشائكة ونصبت المدافع في الاماكن المهمة .
ارسلت قيادة الفرقة ( 18) في الموصل رتلا في مساء 5 حزيران 1920 بقيادة اللفتنت كولونيل (ساريل) وكان مؤلفا من (150) من حملة السيوف و(1500) من حملة البنادق مع بعض الوحدات الاخرى المساعدة .
وقد إتخذت القوات البريطانية من تلة ( السحاجي) مركزا لحركاتها العسكرية .اما العشائر فقد إنتشرت في جبهة عريضة طويلة حتى موقع الثلاثات .
تقدمت قوة بريطانية بقيادة الكابتن ( كاون ) تحت حماية المدفعية بإتجاه تقدم العشائر للاستطلاع والمشاغلة .وعندما اقتربت من موقع الثلاثات اصطدمت بها العشائر ولم يمض وقت طويل حتى انسحبت العشائر من الميدان .وقد ساهمت بعض الطائرات البريطانية بقصف مواقع القوات العشائرية في تلول ( أبو كدور ) مما دى الى حدوث إرتباك في صفوف العشائر .
أما القوة الرئيسة فقد انسحبت الى قرية تويم بعد ان سمعت بهزيمة القوات العشائرية وبقيت هناك حتى بعد عودة بعض طلائعها ثم إنسحبت القوة بكاملها الى قرية الشيخ ابراهيم .
أما القوات البريطانية ، فقد شعرت في بادئ الامر ان انسحاب العشائر وتفرقهم في اتجاهات مختلفة ما هو الا مكيدة الغاية منها إستدراجهم ثم الانقضاض عليهم لذلك لم تحاول تتبعهم مما سهل لقوات المدفعي الانسحاب نحو قرية (تويم ) .
نشرت السلطات البريطانية في الموصل بلاغا  نشرته جريدة ( الموصل ) بعددها الصادر يوم 9 من حزيران 1920 جاء فيه : "هاجمت جنودنا صباح أمس (8حزيران ) قوات العرب قرب تلعفر فكبدتهم خسائر لم يعلم مقدارها بعد واضطرتهم الى التقهقر ..." .
تركت القوات العربية قرية الشيخ ابراهيم وقضت ليلتها في مكان لايبعد كثيرا عن تلعفر .وفي فجر يوم 9 حزيران تحركت متجهة نحو الفدغمي .اما القوات البريطانية فقد أعادت احتلال تلعفر واعملت فيها التدمير والقتل والتخريب ويشير الى ذلك ارنولد ولسن في كتابه (العراق بين ولائين ) بقوله: " تحرك رتل من الموصل في 5  من حزيران وفي 9 منه وصل تلعفر ... وفي طريقه الى هناك اتلف كثيرا من الحاصل المحصود (أي الحنطة والشعير ) وطارد اهالي تلعفر كلهم البريء والمذنب منهم على حد سواء " .
كما نشرت السلطات البريطانية بلاغا في جريدة ( الموصل ) في عددها الصادر في 11 حزيران 1920 جاء فيه : " إحتلت جنودنا تلعفر ...ودمرت بيوت الخائنين واتلفت مزروعاتهم .وقد انهزم العرب شر هزيمة ... أما الذي يدعو نفسه وكيل الشريف فقد ركب عربة وجد بها قاصدا دير الزور لايلوي على شيء" .
لقد اعرب الحاكم السياسي في تقريره المشار اليه عن أسفه لعدم القاء القبض على جميل المدفعي .وقال ان السيارات المصفحة لم تتمكن من تعقيبه لنقص في الاطارات ولولا ذلك لكان أسره محتما .وقال إن اجازات الرتل البريطاني كانت مدهشة .واضاف يقول : " ولو تهيأ للقوة العراقية المسلحة أن تصل مدينة الموصل لما كنت أشك في إندلاع العصيان فيها ..." .
لقد فشلت حركة تلعفر والحركات التي اعقبتها في تحقيق هدفها وهو (طرد الانكليز من الموصل ) ..ولكنها ساهمت الى حد بعيد في إثارة الهياج  والتمرد  داخل البلاد ضد الاستعمار البريطاني . كما بثت الحركة الحماسة في نفوس السكان للمطالبة بالاستقلال وادت الى إيصال العراقيين في الموصل الى العالم بعدم موافقتهم على الانتداب البريطاني .
كان لحركة تلعفر وامتداداتها في مناطق العراق الاخرى وتوسعها وتحولها الى ثورة عارمة شاملة بلغت الذروة في الرميثة وفي وسط وجنوب العراق كافة اثر كبير في حمل الانكليز على تغيير سياستهم . ولعل اصدق مثال على ذلك البيان الذي نشر ببغداد بتاريخ 17 حزيران 1920 والذي جاء فيه ما يؤكد رغبة الحكومة البريطانية في " جعل العراق حكومة مستقلة " وتقرر اعادة السر بيرسي كوكس لتنفيذ هذه المهمة .
 وقد اشار الحاكم السياسي في الموصل في تقريره المشار اليه الى شيء من هذا القبيل عندما قال : " ويخامرني قليل من الشك بأن البيان الخاص بسياسة الحكومة البريطانية والذي يقضي بإقامة حكومة عربية في العراق تحت الانتداب سوف يُفهم هنا في الموصل من قبل البعض بأن الحركات الاخيرة هي التي اجبرتنا على ذلك وسوف يفتح المجال عندئذ لمطالب أخرى " .
كما ساهمت حركة تلعفر والحركات المسلحة الاخرى في تقوية إعتقاد العراقيين في الوسط والجنوب ، بأن  الوضع العسكري البريطاني كان ضعيفا ، وان الانكليز لم يستطيعوا الثبات طويلا .وكان ذلك من العوامل التي ادت الى نشوب ثورة العشرين الكبرى بنطاقها الواسع وأهدافها الواضحة .

في رسالتي للماجستير الموسومة (ولاية الموصل :دراسة في تطوراتها السياسية 1908- 1922 ) والتي قدمتها الى كلية الاداب – جامعة الموصل ونوقشت سنة 1975 ناقشت اسباب فشل حركة تلعفر والحركات المسلحة الاخرى التي نشبت في شمال العراق وضمن اقليم كردستان اليوم وقلت ان بطء سير حركة قوات المدفعي من دير الزور الى تلعفر ومنها الى الموصل من العوامل التي مكنت الانكليز من قمع الحركة .كما ان عدم قدرة القوات العشائرية على مواجهة القوات البريطانية لعدم التكافؤ في النواحي الفنية والتسليحية والتظيمية كان من اسباب الفشل فضلا عن عدم قيام جمعية العهد في الموصل بإعلان تحركها ضد السلطة اعطى للانكليز الفرصة للتحرك والانقضاض على الحركة .كما جرت تلك الحركات في مناطق منعزلة   عن بعضها ولم تكن هناك قيادة موحدة ولم تمتلك الحركة برنامجا للتحرير ومع هذا فإن السلطات البريطانية حسبت للحركات تلك حسابا ولو تحرك الجميع مرة واحدة  لحصلوا على نتائج مثمرة وقد اشار المؤرخ الاميركي فيليب ويلارد آيرلند الى ذلك بقوله :" ان القوات البريطانية انعزلت في الموصل وصعب تزويدها بالعتاد ، والمؤن واضطر وكيل الحاكم الملكي العام ببغداد يوم 14 تموز 1920 ، عندما ضعف الأمل بورود الامدادات من الهند للمحافظة على طرق المواصلات ولمعالجة الوضع الخطير في جنوب العراق نتيجة لنشوب الثورة في 30 من حزيران 1920 الى الاقتراح بالتخلي عن ولاية الموصل بأجمعها ولكن الاقتراح رفض "  .
___________________________
* ابراهيم خليل العلاف ، حركة تلعفر 1920 من خلال تقرير سري بريطاني ، مجلة (الجامعة ) تصدرها جامعة الموصل ، السنة (8) العدد (4) كانون الثاني - يناير 1978  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق