الخميس، 1 أغسطس 2013

أبو حالوب ...!!

أبو حالوب ...!!

‏23 مايو، 2010‏، الساعة ‏05:49 صباحاً‏
أبو حالوب ...!!

معن عبد القادر آل زكريا
14/03/2008


أبو حالوب ...!!

لبيد بن رشيد بن بكتاش البغدادي الدمشقي

الساكن في مقهى الروضة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة ...!!



•· أبو حالوب البغدادي العراقي الدمشقي الذي اتخذ من مقهى الروضة عنواناً له .

•· استأجر كرسياً في مقهى الروضة سنة 1979 ، ثم صار وأن تملّكه بحكم القانون (ثمانٍ وعشرون سنة مرور زمن) . وما زال يشغله لغاية أمسية البارحة .

•· أرسله والده إلى الاتحاد السوفيتي سنة 1975 للتخصص في موضوع الصحافة والطباعة وفرز الألوان ، فتعلم من اللغة الروسية كلمة (دوبري دين - صباح الخير) ليعود بعدها إلى العراق ثم ينسى كل ما تعلمه .

•· من أجل أن يقيم أوده عمل في أشغال عديدة ، منها غسل الأطباق في نادي المشرق بأجرة يومية قدرها (200) ليرة سورية ، فضلاً عن تناول وجبة واحدة مجانية . وعمل بعدها لمدة يوم واحد في إحدى المطابع في دمشق ، ثم أقسم بالطلاق أن لايعمل بعدها في أية مهنة .

•· له قدرة عجيبة على تذكّر أسماء أصدقائه ومعارفه من العراقيين ، متتبعاً أخبارهم أينما حلّوا أو ارتحلوا .

•· لا يقبل مشاهدة التلفزيون ، حتى وإن عُرضت على شاشته المقابلات الكثيرة التي أجريت معه أو تلك التي تحدّثت عن حياته ... مردّداً قولاً مأثوراً خاصاً به ... الله كريم ... انشوفها بعدين ... ما مستعجلين ...!!

•· أكثر مهنة استراح لها في حياته هي الجلوس عشر ساعات في مقهى الروضة يومياً ، كي يفتتح الزبائن أنظارهم بوجهه ويرد عليهم تحية الصباح وتحية بعد الظهر بكل أريحية .

أصعب شيء على الكاتب أو القاص أو الروائي أو الصحافي وضع أساسات قصة أو مقدمة رواية أو تدبيج مقالة يصبُّ فيها عصارة قلبه ويفتتح بها شارعاً جديداً ، ويقدم لصاحبها (المكتوب عنه) إفطاراً شهياً ، له ولقرّاء الكتاب أو الجريدة أو الجورنال .

وما أصعب على الكاتب من أن يثبّت أول (معلومة) يدخل فيها قلب الموضوع (كبساً) و (تمحيصاً) و (توصيلاً) كي ما تفعل فعل تيارات كهربائية تكهرب الجو في ما بين (الكاتب) و (المعلومة) و (القرّاء) ...

بل قل كيف تأتّى لماركيز - على سبيل الاستطراد - أن يسجل الصفحة الأولى من رائعته (الحب في زمن الكوليرا) ... ! ليبدأ بعدها السيل العرم ... ومنها رائحة اللوز المقلي ... الذي يذكرنا بأيام مراهقتنا ... وقلاوون اللذات الناقصة ...!

هذا هو حالي (مع البدء) بتثبيت قصة أبو حالوب البغدادي الدمشقي الذي مضى عليه عشرون سنة وثمان يجلس في المكان نفسه ويقابل زبائن عراقيين وعرب من مختلف المهن والأعمار والجنسيات والأعراق ... لأن في البدء ... كانت الكلمة .

•· كيف أبدأ الحديث عن (أبو حالوب) الذي كنتُ قد تعرّفتُ عليه بواسطة ولدي المقيم في الشام منذ سنة . وكان أثناء إجازته في زيارته للأسرة في الموصل قد حكى لي عن (أبو حالوب) وجعلني أتحرّق شوقاً من أجل لقائه . فلما زرتُ دمشق ، عرفته عن قرب وأصحابي الكثر الذين رافقوني في هذا التعرّف ... وجدتُ في هذا الكهل / الطفل وجهاً تنقش عليه الغربة كل تفاصيل عدوانيتها من كونكريت (اللاأمل) توجهاً إلى شاطئ يعجّ بالمجهولية والاغتراب ... وجدتُ فيه بحق ... شخصية النظام الدولي الجديد ...



أبا حالــوب ...

•· ماذا دهاك وأنت ترسل قذائفك المزلزلة من مسطحات أهوار الكلام ومن معمقاته ، تعجن الرذاذ المتطاير من فيك بجرعة من عصير الليمون دفع حسابه أحد رواد محطات الحياة الكثر القريبين من قطار يومك ... أو أولئك البعيدين عنك ...!

أي قميص هذا الذي ترتديه وهو يقبع على ظهرك وعلى كتفيك متمايلاً على جدارات الأردان المتهاوية ... وأي بنطال هذا الذي كُتب عليه أن يرى

السنوات المقددة من خيوط أقمشة أزمنة (حرب المسقوف) ... ومنسوجاً من أردية الأسرى العثمانيين في (جنق قلعة) ...؟!

•· أقول ، كم مرة غامرتُ فيها واستجمعتُ شجاعتي أسأل عن من هذا الذي صافحه أبو حالوب بحرارة ثم اندلف إلى عمق مقهى الروضة يذوب بين مئات الكراسي المرصوصة بزبائن تئن أفواههم من برابيق الأركيلة ، يتقافزون وزهر الطاولي من مثل هررة في شباط ...!

•· أسألك أبا حالوب ... كيف تأتى لك أن تجيب على استفسار ذاك الشخص وأنت تقف مجاملاً وديبلوماسياً تذكّره بأسمه الكامل وبكنيته وتذكر له أن الصحافي فلان كان قد سأل عنه ذات ثلاثاء مضى ... وأن الممثلة العلانية تجلس هناك في العمق (مجمع الفنانين) تريد لها كاتب سيناريو محزوق لمسلسل تحلم به ...

•· أبو حالوب ... رجل يخرج من محل سكناه مقهقهاً ... ويعود إلى محل سكناه مقهقهاً. وما بين القهقهة والقهقهة يطيب له أن يستريح بابتسامات عريضة وهو يراجع المواقف اليومية التي عاشها في مقهى الروضة منتظراً انفراج الوضع / رحيل العمر / ذوبان الزمن .

•· وسط هذا الجو المفعم بالإبداع والنشاط الاجتماعي يعيش أبو حالوب يومه المنقوش بعشر ساعات ، فضلاً عن ساعتين يحتسي فيهما ليلة الخميس على الجمعة علبة بيرة واحدة يقول عنها أن هذه حصتي من هذه الفانية ... لا أشرب غير شراب المعلمات ...!

•· أبا حالوب ... أي غذاء مهضوم تقدمه لك تلك الساندويتشه اللعينة وأنتَ تقضم حافاتها بروتينية رتيبة تمالق فيها ثقوب الحياة الشرهة على استحياء وعلى رقصات رنّات أجراس الكنائس القريبة ... دون أن تفكر بعرضها على لجان مجلس الأمن الداعر ...! ثم تستميحنا العذر لهنيهة وأنت تتقافز من مثل صغار الجديان في الشوارع المجاورة (للروضة) تستبق منك خطاك كريشات بطنك وهي (تقرقر) من مثل قطة مسكونة بالجوع تصطلي تحت فحم منقل شتاءاتنا الطفولية ...



•· أبا حالوب ... قل لي بربك ... كم لاجئاً عراقياً ... بل قل لي كم مسافراً إلى
كندا أو إلى السويد أو إلى استراليا أو إلى هنغاريا ... يكدون الخطى نحو طاولتك الناظرة / المنتظرة في يوم مخطوط في لوح قدرك ذي الساعات العشر يسألونك دليلاً لصديق مهاجر غاب رسمه بين طيات ثلوج بحور الشمال ، أو تراهم يطلبون عنوان مأزوم مطارد تزوج بسيريلانكية ... تستحمل (الراشديات) كما ادعى صاحبها ... ثم داحت به الأيام ...

أبا حالوب ... أهو قدرك أم ماذا ؟ وأنت تصاحب الزبائن كل يوم كل يوم ... تستقبل ... تودع ... وذراعاك طائشتان في هواء الاتجاهات الأربع هاشّاً باشّاً ، وكأن المشهد يناديك بأن تمنحه لحظة هدوء وترقب وانتظار ... ناهيك عن اغترافك من زمزم الواجب المقدس في شريعتك (استقبال رواد المقهى وتوديعهم) ... منذ عشرين سنة وثمان ...

•· أتدري أبا حالوب ... أن هجرك التلفزيون هو طلاق كاثوليكي ، اكتسبت فيه أزمنة اضافية فوق عمرك المهزوم ، في عصر تزاحمت فيه كل الشرائع الفجّة لعالم ما انفك يئنُ من آلام جراحات مثخنة ، وفضائيات تمارس العُهر اليومي دونما كلل ...!



•· أبا حالوب ... سلام عليك وأنت تمثل دور مسيح هذا العصر ، تُصلب كل يوم بكل إذعان ... تقف على حافة الكراسي ، حتى بعد جلوس الآخرين مثل (خبز الإذرة) في تنور جدتي ... الذي لا يشيل ولا يحط ... ثم تفاجأني بأن لغة الكلام لم تنضب عندك بعد ...! وأنا نشف ريقي من كثرة إجاباتك الممطوطة تشرح في كل قواميس لغات العالم السبع شيئاً ، وكأنك تفتش في قوابيط مطوية في مخازن تجار البالة ...

•· أبا حالوب ... أراك تجلس في مقدمة منصة المقهى / المسرح ، تكرر البروفات في كل جذاذة زمن تمر على الروزنامة ... دون أن تتوافر لديك فرصة دعوة متفرجين كثر... وعندما يحضر المتفرجون ، تحاول أن تؤسس حوارٍ سابقٍ / لاحقٍ بين البرهة (المنفلتة من بين يديك) - وجود أكثر من متفرج - وخوفك من أن تفقد لحظة انزياح ستائر الافتتاح لأول مرة في مسرح اللامعقول ...!!.

•· صدقني أخي أبو حالوب ... انك في كل مقابلة لي معك تعطيني في أول ثانية وضيوفي الذين جلبتُهم للاستئناس بصحبتك (اهتماماً بروتوكولياً أكثر مما يجب !) ثم تقوم تتسلل إلى داخل جوف الفعل / الإيماءة ... وسرعان ما يصيبك الملل ... تتركنا ونحن في قمّة اللحظة الساطعة ... تتركنا مثل تفاعيل قصيدة معمّدة بالتخاريف .
نعم كل شخص منا له حصة من ملل مختلف ... وكل شاعر يدّعي انه غيمة زخرف القهر أركانها ... وكل منا له أنينه المرصع بالنشيد الوثني .

•· أبا حالوب ... ربما يكون المسرح أحد أصعب الفنون . فمن أجل ارتباطات ثلاث يتحتم في وقت واحد وبانسجام تام تحقيق الوصل بين الممثل وحياته الداخلية ، وبين الممثل وشركائه الممثلين ، وبين الممثل والجمهور ... فأين يا ترى أراك في مسرح مقهى الروضة ...؟! وقد اختزلتَ الزمن كله في تحقيق ارتباط واحد مشكوك في خيطه (أنت) ... الذي هو الجمهور ...



أبا حالوب ... أنا أعلم أنك تملك جيشاً من الحواس السبع ، وأنك تحمل كثيراً من الذكريات مصفوفة إلى جوار أوسمة متآكلة تترصرصُ على صدرك الذي ما انهزم يوماً قصاد حروب خمس ...

•· في كتاب (النبي) لجبران ... قال : أن العطاء حاجة من حاجات الثمرة لا تعيش بدونها . وأن الفادي يعلمنا من خلال إعطائه التفاحتين لرفيق يوحنا في بطمس ... أن المعطي يشبع ويكتفي بفعل العطاء نفسه .

•· أبا حالوب ... لك وجه مثل وجه أي شاعر حقيقي ... إلا أن سحرك يكمن في صوتك وفي إشاراتك وفي نظراتك ... وليس في مادة خطابك ... أما مظفر النواب ، فهو الوجه الآخر للشاعر الحقيقي الذي يمتلك مادة الخطاب ... لأنه كثير الإبهام ... بعيد الخيال ... وافر التلبس ... فـ (النواب) في هذه اللحظة من انشداه الزمن لا يحتاج إلى لغة جديدة كيما يرى عموداً من النور أو جبلاً من البلور ... فالقلب يعرف ما لا ينطق به اللسان وما لا تسمعه الآذان ... بل هو يستخلفك على قضاء حاجاته ، بصفتك وجهه الآخر ...

•· قال الشاعر احمد شاملو :

جعلتُ الموتَ نشيداً

أشدُ نبضاً من الانسان

جعلتُ الحب نشيداً

أكثر دوياً من الموت

أطرى من الغابة

جعلتُ الورقة نشيداً

أشدُّ نبضاً من قلب البحر

جعلتُ الموج نشيداً

أكثر دوياً من الحياة

جعلتُ الموت نشيداً



•· أبا حالوب ... وا حسرتاه ...

حين دلفت المقهى (فينوس الشام) صحبة (وصيفتها) ... لمحتُكَ لحظتئذٍ أنك لم يكن لك خيار وقد أطرقتَ لنداءِ صمتِك . خلتك لحظة ... أنك تشعّ من كثرة الانطفاء . وحين ظننتُ أنه صار عليّ لزاماً اكتشاف بعض أسرارك ... انفتح الباب على مصراعيه ، وذابت (فينوس) في شارع الصالحية . ثم وجدتك بعدئذٍ في لحظة انبهار صوفي ... كأنك تتوسد أذرع آلهة أغريقية ، تطوّف بالندى وبالربيع وجه الزمن مثل كل أطفال البراري... فأنت في رحيل لا ينتهي ، وغدٍ ... لا مُنتظَر ...

•· أبا حالوب ... إستمرْ في الجلوس هناك ... في قلب الذكرى ، إبقَ مكسواً من الداخل بورقة سيلوفين فضية من مثل علبة سيكاير باردة ، تسكنك السعادة وأنتَ تشم رائحة التبغ الفيرجيني ... وتتجلل بالطمأنينة وأنتَ تذكر بغداد وهي موضوعة على راحة كفك اليمنى ... لأنك باليسرى ستكون منشغلاً عني بمصافحة جلدي الميت ، المعبق برائحة العرق والكمّون ...

وحينما يصيح القطار ... طوط ... طوط ... ستتركني بعدك ... لأنك ستترك نفسك بعدك ظلاً في مقهى الروضة ... وزبائنه سيظلون منشغلين عني وعنك ... يتقافزون وراء زهر الطاولي ... من مثل هررة شباطالسيد معن آل زكريا والشخصية العراقية المخضرمة ابو حالوب في مقهى الروضة دمشق

السيد معن آل زكريا والشخصية العراقية المخضرمة ابو حالوب في مقهى الروضة دمشق
*الموضوع منشور في صفحة الاستاذ معن ال زكريا الفيسبوكية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...