مرب من الزمن الجميل :الاستاذ ادريس عبد المجيد الذنون
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
حظيت الموصل في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بنخبة من الاساتذة المربين الذين يمكن عددهم مدارس تربوية قائمة بذاتها .. فقد اسهم هؤلاء في ترصين العملية التعليمية والتربوية بشكل متميز ولم يتوقفوا عند الدرس العلمي البحت ،، بل توسعوا ليكون درسهم وطنيا قوميا اخلاقيا كان له دوره في البناء الفكري والثقافي لأجيال عديدة وضعت على عاتقها فيما بعد مهام قيادة البلد سواء في الميدان المدني أو في الميدان العسكري ومن حسن الحظ ان أولئك المربين لم يكونوا بعيدين عن الاتصال بمن سبقهم من الاساتذة الذين قادوا المسيرة التعليمية والتربوية في العراق منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 وبذلك امكن للمؤرخ ان يقف على مجهودات عدد كبير من المجاهدين الذين أرسوا أسس التربية والتعليم في العراق على مبادىء علمية ووطنية وقومية .
لقد كان المرحوم الاستاذ ادريس عبد المجيد الذنون (1932 - 1991) واحدا من ابرز الاساتذة المربين الذين تولوا مسؤولية تربية الاف الطلبة ليس في مدارس الموصل والعراق بل وفي بعض الاقطار العربية الاخرى .. كانوا ينظرون الى الوطن العربي وكأنه قطر واحد وكانوا يلعنون الحدود المصطنعة التي اقامتها الدول الاستعمارية صباح مساء .. كانوا يعلمون طلبتهم ان بلاد العرب من بغداد الى تطوان ومن نجد الى اليمن .. وطن الجميع .. ولا بد ان تتوحد في يوم من الايام .. كان حلم الوحدة يتردد على السنتهم في كل دروسهم ومحاضراتهم .. كان الاستاذ الذنون يدرس التاريخ والجغرافية بأسلوب مشوق يقترب الى حد كبير من اسلوب مربين سابقين تتلمذ على ايديهم ونذكر من بينهم الاستاذ عبد الرحمن صالح والاستاذ احمد الصوفي والاستاذ سعيد الديوه جي.
ولد ادريس عبد المجيد الذنون في الموصل سنة 1932 واكمل دراسته العليا في (دار المعلمين العالية) ببغداد .. وبعد تخرجه عين في متوسطة تلعفر مدرسا للتاريخ والجغرافية والواجبات المدنية والاخلاقية .. وقد بقي في تلعفر حتى 26 كانون الاول 1956 . ثم نقل الى المتوسطة الغربية وقد إنتمى الى التيار القومي العربي خلال هذه الفترة وعكس في دروسه افكار وعقيدة هذا الحزب الامر الذي دفع السلطات الحكومية انذاك الى نقله الى ثانوية عين سفني وقد ظل هناك حتى نقل الى الاعدادية الشرقية يوم 24 ايلول 1959. شغل المرحوم الذنون منصب معاون الاعدادية الشرقية لكنه نقل الى محافظة ديالى مدرسا في متوسطة الانتصار ثم في ثانوية بعقوبة واعيد الى المتوسطة المركزية بالموصل ودرس في متوسطة الفاروق حتى أحال نفسه على التقاعد في كانون الاول 1978 .
من خلال مراجعة سجل خدمات هذا المربي الكبير اتضح لنا ان لديه العشرات من كتب الشكر والتقدير ، وكلها تؤكد على اخلاصه في العمل وشعوره بالمسؤولية وتحقيقه نسبا عاليا في الامتحانات العامة واهتمامه بالواجب ولم نجد سوى عقوبة واحدة (الفات النظر) وجهت اليه في 25 كانون الثاني 1960 بسبب مشرف وهو (مخالفته للتعليمات المبلغة اليه بشأن التقييد بمفردات الكتاب والمقرر وتدريسه في موضوع الواجبات المدنية) كان يخرج عن المفردات المقررة ويصر على اذكاء نار الحماسة القومية والشعور الوطني الحقيقي بين طلابه .. كان يتحدث عن الدكتاتورية ومساوئها وعن مضار التعصب ومخاطره ويشيد بالوحدة العربية أمل الملايين .. وكان طلابه يتفاعلون معه خاصة وانه كان يمثل امامهم قدوة ورمزا في القوة والشجاعة والبطولة والفروسية. عمل الذنون مفتشا في قسم رعاية الشباب بمنطقة جدة التعليمية بالسعودية منذ 18 تشرين الاول 1964 حتى 19 ايلول 1968 كما عمل مدرسا للعلوم الاجتماعية بمعهد المعلمين بالمدينة المنورة وله مؤلفات في التاريخ والجغرافية معظمها لا يزال مخطوطا . كما ترك عددا من المقالات التي كان يكتبها في جريدة الفجر .. وقد اهتم بالشباب واعجب بجماعات الفتوة ، وهي جماعات شهدتها بغداد ابان العصر العباسي تتنافس في البر والمؤاساة واعانة الضعيف والحث على العمل والتكافل بين افراد المجتمع وخاصة في الظروف الصعبة والاستثنائية وكان المرحوم الذنون يرى ان التربية الاجتماعية اسلوب من اساليب التربية الحديثة بها ينشا الشباب تنشئة متزنة متكاملة واعدادهم للحياة اعداد صالح تجعل منهم مواطنين صالحين ناضجين علميا ووطنيا واجتماعيا . وقد دعا الى الاهتمام برعاية الشباب وحث الاغنياء على اشاء مؤسسات وقفية خيرية تقوم بوظيفة تربوية وتعليمية انسجاما مع ما كان يفعله سلف المسلمين حين كانوا يحبسون الاموال ويوقفونها لانشاء المدارس والمكتبات والمستشفيات وارسال الطلبة الى الخارج من اجل الحصول على الشهادات العلمية . وكان الاستاذ الذنون يكره الفراغ ويقول ان الفراغ اذا لم يستغل استغلالا لصالح الشباب ادى الى اضرار بليغة لا حصر لها .. رحم الله الاستاذ الذنون وجزاه على كل ما فعله في حياته تجاه طلابه كل خير ، فلقد كان بحق انموذجا للاستاذ المخلص الذي تهمه مصلحة مجتمعه ووطنه وامته وحري بنا ان نتذكره ونذكر به ابناءنا واحفادنا ونلتمس من زملائنا في سلك التعليم ان يكونوا مثله في الصدق والاخلاص والتضحية والشعور بالمسؤولية تجاه مهنة التدريس المقدسة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق