الجمعة، 25 نوفمبر 2022

تاريخ الحركة العمالية في العراق بقلم : أ.د.إبراهيم خليل العلاف

                                                  ابراهيم خليل العلاف


تاريخ الحركة العمالية في العراق*




أ.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس  -جامعة الموصل

 

مستخلص البحث

ارتبطت الحركة العمالية في العراق، بالتطورات التي حدثت من منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولاسيما فيما يتعلق بالإصلاحات العثمانية وحركة التحديث التي ابتدأت في الدولة العثمانية والولايات العراقية التابعة لها ومدى تأثير تلك الإصلاحات من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وخاصة في تغير العلاقة بين شيوخ القبائل والفلاحين ومما زاد في تخلخل العلاقة إندماج الاقتصاد العراقي بالسوق الرأسمالية وتحوله الى اقتصاد السوق وجاء ظهور النفط  وتوسع منشات السكك الحديد ومعامل الجيش وما افرزه ذلك من تحولات أبرزها ظهور طبقة عاملة عراقية استطاعت سنة 1929 من تنظيم نفسها في اتحاد الصنائع العراقي ولقد تطورت التنظيمات العمالية لكن مما يؤسف له إنها وقعت ضحية الصراعات بين القوى السياسية الأمر الذي أبعدها في كثير من الأحيان عن ممارسة دورها المهني والنقابي والدراسة تتابع كل ذلك وتطمح الى أن يأخذ عمال العراق المبادرة ويطوروا تنظيماتهم النقابية لتنحو منحى مهنيا حقيقيا.

 

 

 

 

 

 

 

ارتبطت الحركة العمالية في العراق، بالتطورات التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولاسيما فيما يتعلق بالإصلاحات العثمانية وحركة التحديث التي ابتدأت في الدولة العثمانية والولايات العراقية التابعة لها ومدى تأثير تلك الإصلاحات وخاصة في مجال إصلاح نظام الأراضي، وتطبيق قانون الولايات وتغلغل رأس المال الأجنبي وإنشاء البنوك وظهور طبقة وسطى أخذت تبحث لها عن دور سياسي ،واختلال العلاقة في المجتمع العراقي بعد تملك شيوخ العشائر والملاكين الغائبين للأراضي وتغير العلاقة بين الشيخ وأفراد عشيرته في الديرة.

ومما زاد في حدة العلاقة وتغيرها حدوث الثورة الدستورية في 24 تموز 1908 وسقوط نظام حكم السلطان عبدالحميد الثاني 1876-1909 وتنامي الشعور القومي، وتأسيس أحزاب وجمعيات تنادي بالاستقلال وتشكيل دول قومية. وكان للحرب العالمية الأولى ودخول الدولة العثمانية للحرب إلى جانب الألمان والدول الوسطى ضد بريطانيا وحليفاتها اثر كبير في سقوط الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا لولاية البصرة 1914 ولولاية بغداد 1917 ولولاية الموصل1918  وظهور العراق دولة حديثة مؤلفة من الولايات الثلاث وتأسيس الجيش العراقي ومبايعة الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق في آب 1921 واجراء انتخابات المجلس التأسيسي (البرلمان)، وتنامي الحركة الوطنية وتطور الصحافة وصدور قانون لتشجيع الصناعة وتطور الزراعة والتجارة وانقسام المجتمع إلى ثلاث طبقات الأولى ثرية والثانية متوسطة والثالثة فقيرة.

لقد كان للتغيرات التي شهدها المجتمع العراقي وخاصة بعد اندماج الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الرأسمالي منذ أواخر القرن التاسع عشر واتساع حركة الاستيراد والتصدير وغزو السلع والبضائع الأوربية للسوق العراقية اثر كبير في تغير طبيعة الاقتصاد العراقي من اقتصاد طبيعي يعتمد على الإنتاج لسد الحاجة المحلية إلى اقتصاد السوق الذي يعتمد الربح.

وقد أسهمت في أحداث كل تلك التغيرات عوامل داخلية وأخرى خارجية. فبعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 برزت ظاهرة نشوء واتساع تجارة التصدير إلى أوربا وكانت صادرات العراق تتمثل بالحبوب والصوف والجلود والحيوانات الحية ومنها الخيول والمواشي واتجه التجار الأوربيون إلى الاستثمار في العراق وخاصة في مجال البنوك وجعل العراق كله منتجا للخامات وسوقا لمصنوعاتهم. وكان لنمو تجارة التصدير اثر كبير في نشور طبقة وسطى عراقية اقرب ما تكون الى الطبقة البرجوازية وكانت شريحة المثقفين من ضمنها تدعو إلى اجراء تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فضلا عن المطالب المشروعة في تعزيز حركة الاستقلال وإفساح المجال للفئات والشرائح المحرومة لكي تنال حقوقها، وتعبر عن تطلعاتها.

لذلك لم يكن غريبا أن يضطلع البرجوازيون، وخاصة المؤمنين منهم بالفكر اليساري، بتبني مطالب العمال والحرفيين الذين حاولوا ان ينظموا أنفسهم في جمعيات وأحزاب تعمل من أجل وحدتهم وتطالب بحقوقهم وخاصة حقهم في الحرية والتنظيم النقابي وإصدار قوانين وتشريعات تحمي مصالحهم وتؤمن مستقبلهم في صنع القرار السياسي لبلادهم.

لقد شهد العراق منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبدء انفتاح الاقتصاد العثماني على السوق الرأسمالية الاوربية نتيجة حركة الإصلاحات العثمانية في مجالات الأرض (قانون الطابو) والنقل والصناعة تأسيس معامل صغيرة للثلج والنسيج والطابوق. هذا فضلا عن المعامل التي أنشأها الجيش ومعامل السكك الحديد في الشالجية ومعامل خاصة انشأها القطاع الخاص هنا وهناك من المدن العراقية وخاصة الكبرى منها بغداد والموصل والبصرة. ولعل ما قام به بعض أهالي البصرة قبل الحرب العالمية الأولى يقف مثالا على ذلك. ونقصد إنشاء معامل للدباغة الحديثة ومعمل لحزم عروق السوس بقصد التصدير. كما تأسست شركة لتجارة المراكب وأخرى للنقل في البصرة حوالي سنة 1896.

وفي 1908 دخلت السيارات العراق فتطورت اطرق المواصلات ونمت المدن واتسعت اطرافها، وتأسست شركات لنقل البضائع والمسافرين .كما تأسست مطابع حديثة في الموصل وبغداد والبصرة وعندما قامت الحرب العالمية الأولى كان في العراق بضعة عشر مطبعة حديثة ملحقة بها مسابك وصقل وتجليد وتهذيب يعمل فيها عدد لابأس به من العمال. وسرعان ما وجدت المكائن الحديثة طريقها إلى المدن العراقية ومن هذه المعامل معامل للثلج ومطاحن حديثة ومعامل لصنع المياه الغازية ومعامل للنسيج ومعامل لصنع الطابوق لكن الإنتاج الحرفي ظل يؤلف القاعدة الرئيسة للصناعة الوطنية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى. ومن هنا فقد انتظم الحرفيون وأصحاب المهن في تنظيمات مهنية ترجع بجذورها الى العصور الوسطى الاسلامية تعرف بالاصناف ومنها صنف الخشابين وصنف الصاغة وصنف العلافين وصنف السراجين.

ونستطيع اعتمادا على ماكتبه الاستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد في كتابه الموسوم: "الطبقة العاملة العراقية: التكون وبدايات التحرك " المنشور سنة 1981 ان نلخص الميادين التي تشكلت من خلالها الطبقة العاملة العراقية بثلاث هي: المعامل الحكومية والعسكرية ومنها معامل الحدادة في الدميرخانة بالكرخ ومعامل النقل النهري والمعامل التي رافقت إنشاء بعض السدود ومنها سدة الهندية هذا المشروع الذي افتتح في 12 كانون الاول - ديسمبر 1913 واشتغل فيه عمالا كثيرين تراوح عددهم بين الألف والثلاثة آلاف عامل في الأعمال الترابية وحدها وحوالي ألف عامل في صناعة الآجر الذي يتطلبه المشروع. والمعامل الأهلية والمعامل الأجنبية وخاصة المتعلقة بالنقل النهري كشركة بيت اللنج المعروفة التي يرجع تأسيسها إلى سنة 1840.

وخلال الحرب العالمية الأولى عانى العمال من شظف العيش ولم يكن هناك تحديد لساعات العمل وكان النساء والأطفال يشاركون الآباء العمل في ظروف صعبة للغاية .وقد قدر عدد العمال العراقيين الدائميين والموسميين في تلك الفترة بعشرات الألوف لذلك أصبح لهم وزن كمي في تركيبة المجتمع العراقي .ويقينا أن العمال كشريحة اجتماعية تأثرت بالاحتلال البريطاني ولم يقصر المحتلون في استغلال العمال العراقيين أبشع استغلال حتى كان على العامل ان يوقع تعهدا يؤكد فيه انه لايمانع في تعرضه إلى القانون العسكري اعتبارا من تاريخ استخدامه في مشاريع المحتلين وخاصة في السكك الحديد والحدادة والتنظيف وقيادة السيارات وصناعة الطابوق والقوارب وقد كانت الأجور متدنية ولم يمنع هذا العمال من أن يكون لديهم حس وطني معاد للانكليز وتشير الوثائق المتداولة عن تحركات معادية للاحتلال في البصرة من قبل عمال الميناء سنة 1916 ومن عمال في العمارة زاد عددهم عن 450 عاملا تركوا العمل وقامت سلطات الاحتلال بفتح النار عليهم وأودع عشرات منهم في السجن . ومن الغريب أن يتعاون ملاكوا المدن مع المحتلين في قمع العمال ومساعدة السلطات المحتلة على إعادة من تبقى من العمال إلى العمل قسرا .
ومن الطبيعي أن تساعد كل تلك الظروف العمال العراقيين على إدراك واقعهم، والإحساس بحاجتهم إلى التكتل والمطالبة بحقوقهم وتلك مرحلة مهمة من مراحل تاريخ الحركة العمالية العراقية.

بعد تشكيل الدولة العراقية سنة 1921 شهد العراق نهضة وطنية باتجاه الدعوة إلى تطوير الصناعة والزراعة وتشجيع التعليم وتنمية الحس الوطني والقومي. ولم يكن العمال بعيدين عن تلك النهضة فأبتدأوا
- وبالتعاون مع المثقفين من ذوي الاتجاهات اليسارية - يطالبون بحقوقهم وقد كانت البداية مطالبتهم بتأسيس ناد للعمال. ويقينا أن ثمة عوامل أسهمت في نضوج الشروط اللازمة لدفع العامل العراقي إلى التحرك ويأتي الوضع الاقتصادي الصعب والمتردي في المقدمة إلى جانب التطور الذي شهدته الحركة الوطنية العراقية وتبلور توجهاتها المعادية للاستعمار وما كان يسمعه العمال من أخبار عن تحركات العمال في بعض البلدان ومنها مصر وتركيا وإيران واليونان. ومن المفارقات أن الحكومة رفضت طلب تأسيس ناد للعمال العراقيين تقدم به كل من محمد صالح القزاز، ومحيي الدين محمد، وقاسم عباس، وهم عمال يعملون في السكك والمعمل العسكري في أواخر سنة
1924 ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أقدمت دائرة السكك على نقل احد مقدمي الطلب الى خارج دائرة السكك . كما أوقفت ما يستحقه الآخر من زيادة، علما أن العمال الأجانب كانت لديهم نواد خاصة بهم. ولم يفت هذا في عضد مقدمي الطلب وإنما تقدموا في مطلع سنة 1929 بطلب تأسيس جمعية بأسم: "جمعية أصحاب الصنائع". وقد اضطرت وزارة الداخلية إلى إجازتها في الأول من تموز سنة 1929 وفي 26 تموز 1929 اجتمعت الهيئة العامة لتنتخب قيادة للجمعية على النحو التالي :

1.      محمد صالح عبد الجبار القزاز رئيسا.

2.      احمد السيد محمد عامل بالسكك نائبا للرئيس.

3.      محمد مصطفى ملاحظ في المعمل العسكري سكرتيرا.

4.      نعيم فتوحي ميكانيكي في السكك أمينا للصندوق.

5.      يوسف السيد طه عامل ميكانيك بالسكك مراقبا عاما.

6.      عبدالجبار سلمان ميكانيكي بالمعمل العسكري عضوا مساعدا.

7.       محيي الدين محمد عامل بالسكك عضوا مساعدا.

واتخذت الجمعية سينما رويال مقرا مؤقتا لها ثم صار لها مقرا خاصا في الحيدرخانة فيما بعد.

كان للجمعية نظام داخلي مؤلف من 9 فصول و39 مادة. وقد حدد النظام اهداف الجمعية وأكد ابتعادها عن العمـل السياسي اليومـي وان لا دخل للجمعية بالدين وان غايتها الوحيدة " تهذيب أصحاب الصنائع من الوجهة الأخلاقية والصناعية والاجتماعية ونشر مبادئ الآداب الفاضلة بين إفرادها". وقد تخطت الجمعية حدود النظام وانحازت للوطن وأكدت على لسان مؤسسيها وخاصة القزاز إن غايتها الحقيقية " الدفاع عن حقوق العمال والكفاح دون مطاليبهم وصيانة مصالحهم من كل عابث... ". وقد قامت الجمعية بدور مهم في تطوير الحركة العمالية في العراق وكان القسم الأكبر من قاعدتها مؤلف من عمال السكك الذين كانوا يعانون من مشاكل كبيرة أسوة بعمال المصانع.

ومما يؤسف له أن الجمعية والحركة العمالية العراقية وقعت تحت تأثير عدد من المثقفين المرتبطين بالأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الشيوعي وفيما بعد حزب البعث مما افقدها شخصيتها النقابية وأوقعها في اشكالات كثيرة لم تكن هي مسؤولة عنها.

لم تكن جمعية الصنائع وحدها في الميدان وإنما تأسست جمعيات مماثلة منها جمعية تعاون الحلاقين 1929 وجمعية عمال المطابع العراقية 1930 وجمعية عمال الميكانيك 1930. وكانت هذه الجمعيات اقرب إلى الأصناف المهنية منها إلى الجمعيات العمالية الصرف.

ومن الأمور الملفتة للنظر أن للحركة العمالية صحافتها. ففي 29 حزيران 1929 صدرت ببغداد مجلة جمعية أصحاب الصنائع وباسم مجلة الصنائع.  أما في الموصل فظهرت لدى بعض المثقفين وأبرزهم المحامي احمد سعد الدين زيادة فكرة تأسيس حزب للعمال لكن السلطات رفضت فأقدم زيادة في الخامس من ايلول 1931 إلى إصدار جريدة باسم العمال في الموصل. وفي 8 ايلول 1930 صدرت جريدة العامل ببغداد، وجعلت شعارها: "ياعمال العالم اتحدوا ". وكان صاحبها عبدالمجيد حسن وكان عامل في مطبعة أهلية.

لقد استقطبت الحركة العمالية انتباه الماركسيين الأوائل كما يقول الأستاذ الدكتور عبداللطيف الراوي في حوار معه أجرته قبل رحيله جريدة طريق الشعب في أيلول 1975 خاصة بعد توسع القاعدة العمالية في المشاريع الكبرى وهي ميناء البصرة والسكك الحديد والمشاريع النفطية بعد سنة 1927 وكانت قضاياهم المعيشية وعمليات الاستغلال الواقعة عليهم من الشركات الأجنبية والمحلية في دائرة معالجاتهم ،أي في الصحافة أو في المجالس الخاصة بهم وقد ساندوا في مقالاتهم ونتاجاتهم الأدبية وخاصة القصة والشعر والرواية الحركة العمالية حتى أنهم أسهموا فيها بشكل مباشر ونذكر من هؤلاء المثقفين القاص محمود احمد السيد والقاص ذو النون ايوب.

كما تنامت الحركة العمالية في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي وحققت انتصارات مهمة في الإضرابات وفي إنشاء النقابات وتوحيد صفوف العمال غير أن هذه الحركة النشطة كانت تعمل في ظروف صعبة وقد تعرض عدد من القادة النقابيين للطرد من أعمالهم أو السجن أو النفي إلى أماكن نائية من العراق.

شهد العراق إضرابات عمالية منذ زمن مبكر من تاريخ الحركة العمالية ففي سنة 1876 اضرب عدد من العمال كانوا يقومون بإنشاء سدة في المنتفك بالناصرية إلا أنهم اجبروا على معاودة العمل واضرب عمال المدابغ في الاعظمية سنة 1912 وامتنعوا عن العمل وفاوضهم رئيس الصنف الشيخ عبدالرزاق الجلبي فعادوا الى العمل بعد تعهد أصحاب المدابغ على تحسين ظروف العمل. وفي عهد الاحتلال حدثت إضرابات كثيرة منها إضراب في العمارة سنة 1917 وقد قامت سلطات الاحتلال بفتح النار عليهم. وفي 1918 اضرب عمال البناء في النجف. وفي اليوم الثالث من كانون الأول 1930 اضرب عمال السكك وعددهم قرابة الـ 1000 عامل ورفعوا عريضة بمطالبهم وأبرزها تحديد اجورهم بما يستحقون ومنحهم أجورا خلال أيام العطل الرسمية وإلغاء الاستقطاعات عن أجورهم ووضع حد لتصرفات مسؤولي السكك الكيفية مع العمال العراقيين والتعامل معهم بأسلوب انساني. وقد منع المضربون من قبل الشرطة وحالوا بينهم وبين الوصول الى بناية وزارة الأشغال والمواصلات وبدأوا إضرابا ثانيا في شباط 1931 وتبنت جمعية الصنائع مطالبهم وكان اكبر من الإضراب الاول. وكان اضراب أواخر 1930 والذي عرف بإضراب الرسوم (زيادة رسوم البلديات) من اكبر الإضرابات التي قام بها العمال والذين كانوا يعانون من انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت منذ 1929 وقد اجتمع في مقر جمعية أصحاب الصنائع ممثلي 23 جمعية وصنفا وقاموا باحتجاجات حسبت لها الحكومة حسابا كبيرا. وقد اتسع الإضراب وشمل مدنا أخرى غير بغداد ومع أن الحكومة تعهدت بإلغاء الرسوم إلا أنها لم تبر بوعدها وتطورت الأحداث واضطر الملك فيصل الأول الى الإيعاز الى حكومة نوري السعيد بإلغاء الرسوم وتخفيض الجانب الأكبر من الضرائب الواردة في قانون رسوم البلديات. كما لجأت الحكومة الى إصدار قرارات توحي باهتمامها بشؤون العمال وخاصة القصابون والخبازون والبقالون وفي سنة 1932 احتج عمال شركة باتا للاحذية وعددهم مع أسرهم يربو على الـ 4000 وطالبوا بتحسين وضعهم.

وقعت الحرب العالمية الثانية 1939 -1945 فأسهمت ظروفها وانعكاساتها في تنمية وعي الطبقة العاملة العراقية وتزايد حجمها وبقدر تزايد دور الطبقة البرجوازية واتجاه عدد من الفلاحين من الريف نحو المدينة وخضوعهم للظروف الاجتماعية الصعبة التي كان يعيشها سكان المدن أنفسهم. وليس من شك في ان معظم هؤلاء التحقوا بالطبقة العملة وخاصة في حقل البناء والإنشاءات. ومع تطور وسائل الإنتاج تطورت الطبقة العاملة العراقية وازدادت أعدادها. ومع تطور صناعة النفط ونشوء بعض الصناعات الأهلية والحكومية، وغيرها من العوامل، التي وفرت مجالات رحبة لتطورها من جهة والى تشغيل قوى عاملة جديدة من جهة أخرى، موفرة مجالات واسعة، وحاجات كبيرة للأيدي العاملة الدائمية، ومحدثة تغييرات ملحوظة في تركيب المجتمع العراقي ويذكر الدكتور كاظم الموسوي في دراسة له بعنوان: "الطبقة العاملة العراقية ووضعها الاقتصادي والاجتماعي إلى أن إحصاءات سكان العراق أشرت بأن سكان المدن أصبحوا حسب إحصاء 1947 يشكلون ما نسبته %41 من مجموع سكان العراق البالغ عددهم حوالي 4,8 مليون نسمة.

ومن المؤكد - كما سبق ان قدمنا –ان الزيادة هذه كانت على حساب الريف وهذا مما انعكس سلبا على الزراعة . وثمة ما يشير كذلك إلى أن عدد المؤسسات التي شغلت 50 عاملا فأكثر بلغت 12 مؤسسة فقط في حين أن التي شغلت اقل من 50 عاملا بلغت 158 مؤسسة. وقد أكد خبير يعمل في الامم المتحدة في تقرير له يرجع الى سنة 1969 بان هناك نقصا وغموضا في الإحصائيات المتعلقة بالقوى العاملة العراقية لذلك لانملك تصورا واضحا عن حجم الطبقة العاملة العراقية خاصة وان اكبر مؤسسة صناعية في العراق وهي مؤسسة النفط كانت تدار من قبل الشركات الأجنبية وتمتنع عن إعطاء معلومات دقيقة ليس عن الإنتاج فحسب بل وحتى عن عدد العمال الذي يشتغلون لديها. ولم يختلف الحال بعد تطبيق مبدأ مناصفة الأرباح وتوفير عوائد مالية جديدة للعراق منذ سنة 1952 وتطبيق مشاريع الاعمار وتزايد عدد العمال وتوسع سوق العمل من الناحيتين الكمية والنوعية.

لقد أدى تطور إنتاج النفط وتوفر مجالات جديدة وفرص جديدة للعمل إلى أن عدد العاملين في صناعة النفط سنة 1957 وصل الى 12 الف شخص. اما في المؤسسات الصناعية الأخرى فقد بلغ العدد 264 الف شخص. ولاشك في أن هذا التوسع في إنتاج النفط (30 مليون طن 1954) وفر مجالات عمل لعدد كبير من الناس الذين انضموا الى الطبقة العاملة العراقية وما أن جاءت سنة 1958 إلا وقد ازداد عدد العمال العراقيين الى أكثر من مليون عامل. لكن هذا لم يحل دون تفاقم مشكلة البطالة واتساع سياسة القمع وما يلحق ذلك من أذى للعمال والذين غرق بعضهم بالديون وأصبح أرباب العمل يسومونهم سوء العذاب وكانت السجون تتلقف الكثيرين منهم وأصبحت النقابات والجمعيات العمالية عاجزة عن تقديم اي مساعدة مالية لهم ومما ضاعف الأمر سوءا عدم وجود صناديق للضمان الاجتماعي وعدم تأسيس صناديق للتقاعد وبالرغم من تحديد وقت العمل في قانون رقم 72 لسنة 1936 بثمان ساعات إلا أن وقت العمل الفعلي كان بين 12-16 ساعة يوميا وبالأجور اليومية نفسها. هذا فضلا عن تشغيل النساء والأطفال والأحداث دون السن القانونية في أعمال شاقة وبأعداد كبيرة .وقد دفع الوضع المزري هذا العمال الى التظاهر والاضراب الذي قمع بالقوة كما حدث في مذبحة كاور باغي بكركوك سنة 1946 ووثبة كانون الثاني 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وكان امتصاص نقمة العمال واحدا من أهداف إنشاء مجلس الاعمار والبدء بمحاولات إصلاحية للوضعين الاقتصادي والاجتماعي.

إن نضال الطبقة العاملة العراقية فرض على الحكومات وأصحاب المؤسسات والاحتكارات الرضوخ وإصدار تشريعات عمالية والموافقة على تأسيس نقابات وجمعيات عمالية.

فقد قامت الحركة العمالية بسلسلة اضرابية ومشاركة في التظاهرات والانتفاضات الجماهيرية، شملت الاضرابات اهم المؤسسات والمشاريع، بما فيها القواعد العسكرية البريطانية، وسكك الحديد والنفط والكهرباء والميناء.

ورغم أن صدور قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 تم بعد مماطلة وتسويف إلا انه أول تشريع صدر في العراق وظل ساري المفعول حتى بداية 1958 حيث صدر تشريع جديد رقم 1 لسنة 1958 ظل مجمداً حتى اندلاع ثورة 14 تموز 1958.

أضيفت للقانون ذيول وتعديلات لصالح العمال بعد نضال طويل متواصل، فقد تناول القانون قضايا العمال وحدد العلاقة بينهم وبين أصحاب العمل ونص على حق التنظيم النقابي على أساس الصناعات - النفط، السكك... - أو الحرف- النجارة، الميكانيك-... ولكنه قيده بقيود ثقيلة كإجازة وزير الداخلية وحسن السلوك من الشرطة، وجعله عرضة للتعطيل الإداري. وتناول القانون بشكل خاص تحديد ساعات العمل والتعويض عن العطل الذي يصيب العامل في كل الإحالات، مخولاً مجلس الوزراء إصدار قرارات بهذا الشأن، كتحديد ساعات العمل لأصناف العمال حسب صناعتهم وحرفهم وجنسهم وأعمارهم وغيرها.

إن اعتراف القانون بالتنظيم النقابي إقرار لواقع مارسه العمال قبل هذا التاريخ. ففي عام 1929 توّج نضال عقد من السنين بتأسيس عدة نقابات وجمعيات عمالية ومهنية، خاضت وقادت سلسلة طويلة من الإضرابات والنضالات العمالية. ورغم اعتراف قانون العمل بحق التنظيم النقابي إلا ان الطبقة العاملة منعت من ممارسته علنياً أكثر من ثمان سنوات، الى منتصف عام 1944، ولم تنل من تلك الحقوق المعترف بها قانونا إلا بعد نضال صعب حتى في المشاريع التي تمتلكها الدولة أو تديرها كالسكك والميناء، ومع ذلك فقد عد القانون مكسباً للطبقة العاملة وثمرة نضالها الباسل وتضحياتها منذ نشوئها، وتطوراتها، كانت نضالات الطبقة العاملة العراقية بتكوين نقابات عمالية لها، وانتقالها إلى مرحلة نوعية جديدة بإصدار قانون العمل عام وتعديلات عام 1937 وعام 1943 وغيرها، كانت مترابطة مع نضال الحركة الوطنية وتطور مسار الصراع الطبقي في العراق، وقوة ومكانة الطبقة العاملة في المجتمع.

لقد واجهت الحركة العمالية اضطهاد السلطات وتعرض قادتها للاعتقالات والتشريد والجوع والحرمان. ونشطت في نضالها.
واستطاعت الطبقة العاملة أن تحقق مكاسب جديدة عام 1944 باضطرار الحكومة على الاعتراف بالحقوق النقابية وإجازة نقابات عمالية إلا أنها لم تستطع فرض حقوقها كاملة على السلطات وأصحاب العمل والشركات الاحتكارية المهيمنة على اكبر المؤسسات الإنتاجية في العراق، نتيجة لعوامل عديدة، من أبرزها قلة خبرتها وتجربتها النقابية، حيث كانت تتسم لفترة طويلة بالحرمان من كل أشكال التنظيم، بالرغم من النمو الواسع لها، وما صاحبها من متاعب جدية وأوضاع صعبة وقعت تحت وطأتها فترة الحرب وماتلاها، وكذلك تسرب نفوذ أصحاب الإعمال الى قياداتها وعدم ضمها لجميع المشاريع الصناعية، وأكثرية العمال الماهرين، وغير الماهرين، الذين يشكلون نسبة الأكثرية بين الطبقة العاملة العراقية
ومن بين المكاسب العمالية التي تمكنت الطبقة العاملة العراقية تحقيقها، بعد تضحيات ونضالات متواصلة، إصدار" قانون الضمان الاجتماعي رقم 57 لسنة 1956. والذي كان أول قانون للضمان الاجتماعي للعمال في العراق. وكان في الحقيقة مسخاً لمبدأ الضمان الاجتماعي، فقد ألزم القانون رب العمل والحكومة بدفع ثلاثين فلساً يوميا مناصفة، وهو مبلغ تافه لا يستحق الذكر بالقياس إلى قدرته الشرائية. واوجب القانون عند دفع الإعانة إن لا يكون العامل مشتركا في إضراب وان يكون قد ترك العمل باختياره وان يكون حسن السلوك والسمعة.

إن مما يمكننا قوله أن الحركة العمالية ارتبطت بالحركة الوطنية لذلك حققت بعض المكاسب للطبقة العاملة وأبرزها الاعتراف بهذه الطبقة وجلب الأنظار إليها كقوة اجتماعية لها وزنها وإمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .ولم يكن بوسع السلطة الحكومية تجاهل مطالب العمال ومن ذلك إصدار قوانين للعمل منها قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 ومع أن المناهج الوزارية تضمنت الكثير من الأمور التي تهم العمال والطبقة العاملة إلا أن ما نفذ من هذه التشريعات والقوانين لم تأخذ طريقها الى التنفيذ وكان على العمال والوطنيين جميعا أن يعملوا ضمن هيكلية جديدة تمثلت بجبهة الاتحاد الوطني التي ضمت أحزابا عراقية عديدة وتنظيم الضباط الأحرار وقد كان من نتائج التعاون بين الجبهة وتنظيم الضباط الأحرار إسقاط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق صبيحة يوم 14 تموز 1958. وبدأت عندئذ مرحلة جديدة من تاريخ الحركة العمالية في العراق.

بعد ثورة 14 تموز 1958 سيطر الحزب الشيوعي على نقابات العمال واستطاع تسيسها، وزجها في أتون الصراع السياسي مع التيارات القومية. وقد انعكس ذلك سلبا على واقع ومستقبل الحركة العمالية وبعد سقوط نظام الزعيم الركن عبد الكريم قاسم في شباط 1963 اندفع حزب البعث بنفس الاتجاه من حيث تسييس النقابات  بل وصدرت قرارات جعلت الانتماء إلى النقابات ليس إلزاميا. كما حولت شريحة كبيرة من العاملين في مؤسسات ومصانع وشركات ودوائر الدولة إلى موظفين الأمر الذي انعكس سلبا على الحركة العمالية التي تعاني اليوم من التشرذم وعدم الانتظام والضعف في الدور ليس المهني وإنما السياسي والوطني كذلك ومع هذا ثمة محاولات تبذل من نقابات العمال والاتحادات النقابية المختلفة للم الشمل والعودة لممارسة دورها الفاعل في بناء العراق من جديد ومعالجة ما اعتور كيانه السياسي والاقتصادي والاجتماعي اثر الاحتلال الأميركي وإسقاط النظام السابق في 9 نيسان 2003 .
    

واليوم وبعد قرابة الـ 8 سنوات على سقوط النظام السابق يواجه الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق والذي ترجع جذور تأسيسه إلى سنة 1933 وينظم أعماله قانون رقم 52 لسنة 1987، مشكلات لعل من أبرزها فرض قرارات صدرت من مجلس الحكم منها قرار رقم 3 وقرار رقم 4 لسنة 2004 تم بموجبهما تقييد الحركة العمالية بقيود أضافية والإبقاء على القوانين السابقة ولاسيما قانون رقم 150 لسنة 1987 القاضي بتحويل العمال الى موظفين، وانعكاس حالات المحاصصة في التعامل مع الحركة العمالية والنقابية. وللأسف لم تتغير معاناة العمال ولم تحل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية.

كما صدر قرارين حكوميين في السابع عشر من نيسان 2011، سُحب بموجبهما الاعتراف بالاتحاد العام لنقابات العمال في العراق والنقابات التابعة له، وبدلاً من ذلك جرى تشكيل "لجنة تحضيرية وزارية تقضي بوضع اليد على جميع تنظيمات الاتحاد والأصول المالية والإشراف على الانتخابات النقابية المقبلة. في حين أصدر (المكتب التنفيذي للاتحاد القائم حاليا)  بيانا في الأول من نيسان 2011 أكد فيه على انه حريص "على ترصين وتوحيد العمل النقابي في عموم المحافظات من خلال توحيد خمسة اتحادات نقابية باتحادنا العام وإنهاء حالة التمزق والانقسام ومدافعا عن المصالح الجوهرية للطبقة العاملة وتمكنه من انتزاع اعتراف المؤسسات الحكومية العليا والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية باعتباره الممثل الشرعي والقانوني للحركة النقابية وباعتباره الوريث الشرعي للحركة النقابية العمالية منذ تأسيسها في بدايات القرن الماضي"... وثمة دعوات للحكومة من داخل العراق وخارجه بضرورة إعادة النظر في هذه القرارات والاعتراف رسميا بما يسمى اليوم (الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق) وهياكله التنظيمية، وتبني قانون الشكاوي العمالية المتوافق مع لوائح منظمة العمل الدولية، والى ضمان حق جميع العمال في تشكيل النقابات والانتماء إليها، وتنظيم انتخاباتها بعيداً عن التدخل الخارجي والتسييس النقابي الذي اكتوت بناره الحركة العمالية العراقية لسنوات طويلة مضت.

History of Labor Movement In Iraq

 

Prof. Dr. Ibrahim Khalil Al-ALaff

Head of Regional Studies Center,

University of Mosul

 

Labor movement in Iraq is related to the developments happened since late of 19th century, with regards to Otoman reforms and modernization movement both in Otoman Empire and the Iraqi provinces related to it and how such reforms had its effects on economic, social and political fields in changing the relationship between shykhs of tribes and peasants. What has weakened this relationship is the integration of Iraq’s economy with the capital market and transformed it into market economy. The emergence of oil, expanding rail – roads and military equipments in addition to the rise of Iraqi Labor class in which it had become able in 1929 to organize for itself an Iraqi society for private works. Workers organizations had developed but unfortunately, they were the victom of struggles within the political powers and thus they were far from practicing their professionals and trade unions. This study is following up this topic and wish that Labors in Iraq may take the initiative in developing their organizations.,…

*البحث منشور في مجلة (دراسات اقليمية ) يصدرها مركز الدراسات الاقليمية بجامعة الموصل السنة (8) العدد(25) كانون الثاني 2012           

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...