البيئة والتنمية المستدامة بين عولمة السوق وتدخّل الدولة*
م.
د. عبدالله فاضل الحيالي
رئيس
قسم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية/ مركز الدراسات الإقليمية
جامعة
الموصل
مستخلص البحث
يأتي
الإهتمام بقضايا البيئة وتلازمها مع التنمية المستدامة ليضيف زخماً جديداً إلى
الجدل الدائر حول حدود تدخل الدولة في ظل العولمة، لاسيما بعد أن واجهت عولمة
السوق قدراً من الإخفاق الّذي يتمثل بتزايد التكاليف الإجتماعية، وعدم قدرة
المنافسة على تحقيق الكفاءة الإقتصادية، وإستنزاف المضامين الإقتصادية للبيئة،
ونشر التلوث، والتحلل البيئي في الإقتصادات النامية، الّتي تعاني من ضعف في
دفاعاتها البيئية. الأمر الّذي يدعو إلى توكيد أهميّة تدخل الدولة في المحافظة على
البيئة، وضمان حق الجيل الحالي والأجيال القادمة من الموارد المتجددة وغير
المتجددة، وإعتماد سياسة بيئية فعالة لتحقيق التنمية المستدامة، ومناشدة الأمم
المتحدة بوضع معايير لحماية البيئة، وإلزام الدول كافّة بتطبيقها، ومقاضاة من
يخالف ذلك عبر هيئة قضائية مختصة بالبيئة.
المقدمة
منذ
بواكير الألفية الثالثة، يواجه الاقتصاد العالمي، إهتماماً متزايداً لقضايا
إقتصاديات البيئة وتلازمها مع التنمية المستدامة. وجاءت هذه الاهتمامات لتضيف
زخماً جديداً إلى الجدل الدائر حول حدود تدخل الدولة في ظل نشر العولمة وإنفاذها،
لاسيما بعد أن واجه اقتصاد السوق قدراً من الإخفاق لم يسعفه من تحقيق حالة التوازن
الاقتصادي والاجتماعي، وتوازن النظام البيئيEcosystem . ويتمثل فشل السوق بالتصرف في أرباح مؤسساته
التي أخذت بالتحول من المنافسة الاحتكارية إلى احتكار القلة في العديد من النشاطات
الاقتصادية للرأسمالية المعاصرة، مما ترتب عليه اتجاه العوامل المؤدية إلى تعظيم
الأرباح في هذه الأنماط السوقية نحو استنزاف المضامين الاقتصادية للبيئة، من دون
الاهتمام بالعلائق التوازنية على وفق التحليل الحدي للعوامل المستخدمة في تكوين
رأس المال وتراكم معدلاته في الاقتصادات المتقدمة، وبذلك أخذت حصة العمل (الأجور)
بالانخفاض. وفي السياق نفسه وقعت العديد من الاقتصادات النامية أسيرة سوء تخصيص
الموارد الطبيعية، والعبث في عناصر البيئة تحت ضغط متطلبات التنمية الاقتصادية(1).
ويأتي ذلك متزامناً مع دور العولمة في تبديد الموارد الطبيعية، وإساءة
استخداماتها، والتعامل معها بصفتها سلعةً ومصدراً جديداً لتعظيم الأرباح. وعُدَّت
عولمة الأسواق بوصفها التحدي الأكبر في إستنفاد الموارد الطبيعية، ونشر التلوث،
والتحلل البيئي على الصعيد العالمي. وقد أفرزت مشكلات البيئة التي تتخطى الحدود،
تحديات فكرية إقتصادية حيال دور الدولة، لاسيما أن هذه المشكلات نادراً ما تكون
نتاج سياسات إقتصادية ذات إرادة وطنية واعية، بل هي في الأساس نتاج تأثيرات جانبية
غير متعمدة لعمليات إقتصادية وإجتماعية أوسع نطاقاً. وان الاستجابات إزاء ما على
البشرية فعله من أجل بيئة نظيفة وطبيعية، أدت في بعض الأحيان الى توسيع نطاق تدخل
الدولة للحؤول دون تفاقم تلك المشكلات. زد على ذلك، أن الدولة تلعب دور الطرف القانوني
في أيّة معاهدة دولية حول البيئة، منطلقةً في كثير من الأحيان من تصورها لما يقع
في نطاق سيادتها، وما يجب عليها تقديمه من تنازلات لمقتضيات العولمة(2).
ومن هنا باتت الدعوات تترى، في ظل هذا المناخ الاقتصادي باحتدام الجدل حول دور
السوق، وتدخل الدولة في إدارة إقتصاديات البيئة وتوجيهها، وذلك ينبع من حقيقة أن
قضايا البيئة لم تعد من المشكلات المعاصرة المعقدة حسب، وإنما هي قضايا تقترن
بحياة الإنسان ومستقبله، وأن تهديد البيئة، هو تهديد للحياة الإنسانية بأسرها،
وإذا ما تراجع الاهتمام بها، فأن كوكب الأرض سيتحول إلى مركز للنفايات السامة
والانبعاثات الغازية الملوثة والتحللات البيئية التي يصعب معها العيش بصورة
طبيعية. والأنكى من ذلك، أن مشكلات البيئة لم تعد تقتصر على الأجيال الحاضرة حسب،
بل تتعدى ذلك إلى الأجيال القادمة. وليس من قبيل المصادفة، أن أخذت مشكلات
إقتصاديات البيئة تتقدم لتتزاحم على الصفوف الأولى، في ذاتية مستقلة، وحركة إهتمام
وتحديث علميين، تتفاعل مع عناصر التنمية المستدامة مؤثرةً فيها ومتأثرة بها. وهي
هنا، تعد بوصفها المعبر عن حيوية الدولة وانطلاقتها في تحقيق أهدافها الطموح في
الارتقاء بمختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
أهمية
البحث ومشكلته
تكمن
أهمية البحث في توجيه إهتمام راسمي السياسات، وصناع القرار الاقتصادي،
والمهتمين بالبيئة على مختلف تخصصاتهم، والحكومات بالحفاظ على البيئة من الهدر
والتحلل، وضرورة إستدامتها على وفق سياسة بيئية على نسق السياسات الاقتصادية:
النقدية والمالية والتجارية وغيرها، تتولى الدولة، أو هيئة تمثل البيئة وضع قواعد
تراكم رأس المال الطبيعي وأسلوب إستثماره للحفاظ على حصة الأجيال القادمة(3).
وتنبع مشكلة البحث من أن الاهتمام بالتنمية الاقتصادية لم يعد يقتصر على
كفاءة تخصيص الموارد، وعدالة توزيع الدخل، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، بوصفها
سبلاً لتحقيق رفاهية الفرد الاقتصادية والاجتماعية، ما لم يرافقها إهتماماً
موازياً بالبيئة والمحافظة عليها من الاستنزاف، والعمل على الاستغلال الأمثل
للموارد الطبيعية، وإعادة تدويرها إلى المجتمع بقصد المحافظة على توازن النظام
البيئي، وضمان حصة الأجيال الحاضرة والقادمة.
هدف البحث
يهدف البحث الى تسليط الأضواء على دور تدخل الدولة في
المحافظة على البيئة، وتحقيق التنمية المستدامة، بعد أن منيت آلية السوق بعدم
قدرتها على ضمان تحقيق المنافسة والكفاءة في الاقتصادات النامية التي تعاني من ضعف
في دفاعاتها البيئية.
فرضية
البحث
تنص
الفرضية على: ((أن التعويل على دور تدخل الدولة في الإدارة الاقتصادية والبيئية،
من شأنه الإسهام في تحقيق آثار إقتصادية وبيئية مستدامة مرغوباً فيها في الدول
النامية)).
منهجية
البحث
يعتمد
البحث منهجية التحليل الوصفي القائم على مضامين النظرية الاقتصادية في محاولة
تقديم إطار نظري إقتصادي لدور تدخل الدولة في الجوانب ذات العلاقة بالبيئة
والتنمية المستدامة.
وبغية
تحقيق هدف البحث، فقد جرى تقسيمه الى خمسة مباحث رئيسة، يتناول الأول، نظرة
الإقتصاد السياسي لقضايا البيئة وإقتصادياتها، في حين يهتم الثاني بجدل مريدي
إقتصاد السوق، وتدخل الدولة في قضايا البيئة والتنمية المستدامة، ويركز الثالث على
تحليل طبيعة العلاقة بين البيئة والعولمة، وينصب الرابع على عرض أهم الإصلاحات
الأساسية في نظام الإقتصاد البيئي، ويعالج الخامس العلاقة بين البيئة والتنمية
المستدامة، ويخلص البحث بعدد من الاستنتاجات والتوصيات.
المبحث الأول: الاقتصاد السياسي للبيئة
أثارت نقاشات
الاقتصادي ((إجناسي ساكس)) نظرة متكاملة في مجال الربط بين الاقتصاد السياسي
وقضايا البيئة. فهو من ناحية يرفض - كما ترفض الدراسات الاقتصادية المعاصرة في فكر
التنمية - مسألة كون التنمية، يمكن أن تقاس بالعائد المتحقق من الدخل القومي، وما
يؤول إليه من زيادة متوسط دخل الفرد بوصفه معياراً للرفاهية الاقتصادية
والاجتماعية، بغض النظر، عما تفعله التنمية من تخريب بيئي، وهدر للموارد الطبيعية
في الأمد الطويل، ومن ثم فأن التنمية المطلوبة تعني أولاً وقبل كل شيء نوعية
الحياة للإنسان، وعلى رأسها تكامل البيئة، وحفظ مواردها الطبيعية في الأجل البعيد(4).
وفي الاتجاه نفسه، إهتمت الأمم المتحدة بعلاقة البيئة والتنمية، وصدر عن ((اللجنة
العالمية للبيئة والتنمية))، المعروفة بـ ((لجنة بورنتلاند)) سنة 1987 تقريراً يضم بين دفتيه ولادة مفهوم التنمية المستدامة، فحواه أن تضع الخطط
الاقتصادية في حسبانها عدم الجور على البيئة من جهة، وعلى حاجات الأجيال القادمة
من جهة ثانية، وإيجاد حالة من التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية
البيئة. فالإفراط في إستخدام الموارد الطبيعية، من اجل تلبية الحاجات الآنية، يكون
على حساب العوائد المستقبلة، خاصة إذا ما رافق إستخدام الموارد الطبيعية تلويثاً
للبيئة وتدميراً للثروات الطبيعية(5). ويأتي ((مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة
والتنمية)) الذي عقد في ((ريو دي جانيرو)) في البرازيل في حزيران سنة 1992 ليؤكد جملة مبادئ لعل في طليعتها أن حماية البيئة مكون أساس من مكونات
عملية التنمية، وأن البشر هم صلب أهداف التنمية المستدامة(6). وعرّف
المبدأ الثالث الذي تقرر في المؤتمر التنمية المستدامة بأنها: ((ضرورة إنجاز الحق
في التنمية)(7). بحيث تحقق على نحوٍ متساوٍ حاجات التنمية والبيئة
لأجيال الحاضر والمستقبل. وأشار المبدأ الرابع الذي أقره المؤتمر نفسه إلى أنه
((لكي تتحقق التنمية المستدامة، ينبغي أن تمثل حماية البيئة جزءاً لا يتجزأ من
عملية التنمية، ولا يمكن التفكير فيها بمعزل عنها.)). وهذان المبدآن اللذان تقررا
بوصفهما جزءاً من جدول أعمال مؤتمر الأمم المتحدة الحادي والعشرين، ينطويا على بعض
الدلالات العميقة للغاية فيما يخص إستخدام الموارد الطبيعية وإدارتها، والنظام
البيئي. وضرورة تلبية حاجات الجيل الحالي، وحاجات أجيال المستقبل، فضلاً عن تحقيق
التوازن بين التنمية وصيانة البيئة. وفي ضوء ذلكم التعريف تم الجمع بين المخاوف
البيئية والاقتصادية معاً، إذ انه لا يمكن إستمرار حماية البيئة بشكل فعال من دون
التنمية الاقتصادية، ولا يمكن إستمرار الأخيرة من دون حماية البيئة(8).
وأعقب ذلك ((مؤتمر برلين)) بغية متابعة مقررات ((مؤتمر ريو دي جانيرو))، وخرج
بجملة توصيات لعل في مقدمتها: الحد من الاحتباس الحراري، وخفض نسبة الغازات السامة
ولاسيما غاز ثنائي أوكسيد الكربون(9). وفي كانون الأول 1997 عقد ((مؤتمر كيوتو)) في اليابان، أسفر عن إتفاقية، تعهدت فيها الدول
المتقدمة بإقلال غاز ثنائي أوكسيد الكربون بحلول سنة (2012) إلى نحو (%50)، وهي دون مستوياتها في سنة 1990، كما أقر فرض عقوبات على الدول التي تخرق الحصص المقررة لها من دون أن
يتبنى أية آلية لفرض مثل هذه العقوبات(10). وفي القمة العالمية المخصصة
للتغيرات المناخية التي عقدت في 28 تشرين الثاني 2005 بمدينة ((مونتريال)) في كندا، نجح المشاركون في الاتفاق على تمديد إتفاقية
((كيوتو)) إلى ما بعد سنة (2012) لمواصلة مكافحة الاحتباس الحراري. وطالبت القمة (40) دولة متقدمة بالحد من إنبعاث غازات الاحتباس الحراري لديها بنسبة (%5,2) في المتوسط خلال المدة (2008- 2012)(11).
المبحث الثاني: البيئة بين إقتصاد السوق وتدخل الدولة
إن إخفاق السوق
في معالجة المشكلات البيئية لا يزال قائماً(12). إذ توجد سمات عدة
لاقتصاديات البيئة وبخاصة مشكلات البيئة المختلفة، والتي يمكن ملاحظتها ضمن محتوى
إخفاق السوق عندما لا يتحقق الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية النادرة، والتعامل
مع السلع البيئية على أنها سلع غير إقتصادية. إن حالة فشل السوق الذي يؤدي الى
ظهور مشكلات بيئية متنوعة، والتي كان مصدرها عوامل خارجية من مثل الاستغلال
الاقتصادي غير الكفء بيئياً، إذ أن الكثير من المنافع التي تحصل عليها مجموعة من
الأفراد، تلحق أذى بمجموعة أخرى من الأفراد، أو تحملهم تكاليف لم يكونوا مسؤولين
عن تحملها، فضلاً عن أن توظيف السلع البيئية ضمن محتوى سلع وخدمات السوق، لم يكن بالمستوى
الذي يجعل التفاعل بين قوى العرض والطلب بالمستوى الذي يحدد أسعارها بالشكل
المطلوب، وأن تجزئتها تصبح من المسائل الصعبة، زد على ذلك أن حقوق الملكية التي
تحصل عليها مجموعة من الأفراد، تحقق لهم أرباح مرتفعة، في حين لا يحصل آخرون على
ذلك(13). كما أن مفهوم المشكلات البيئية وطبيعتها تكمن في أن السلع
البيئية لها خواص السلع العامة من حيث عدم إمكانية الاستغناء أو التقليص أو
كلاهما، فهي سلع منتشرة مجاناً تستخدم لمن يرغب في إستخدامها من دون تحمل أي
تكاليف تذكر(14). لذا فأن تحويل مؤسسات القطاع العام الى شركات خاصة،
والتي تسعى الى تقليص تكاليفها بقصد زيادة الأرباح، فأن ذلك ينتج عنه قدر كبير من
التلوث البيئي، والذي يعني أن التكاليف الاجتماعية أخذت بالتزايد، وأن حالة
المنافسة لا تؤدي الى تحقيق حالة الكفاءة الاقتصادية في الدول النامية التي تكون
قدرتها على حساب التكاليف البيئية غير دقيقة، أو قد تتجاهل ذلك بهدف الحصول على
رأس المال الأجنبي الذي تفتقر إليه. وستكون عندئذٍ الشركات الخاصة أكثر ضرراً
للبيئة من المؤسسات العامة، فضلاً عن ظهور مشكلات بيئية جديدة يتضرر منها العالم
برمته. زد على ذلك، أن السلع البيئية تختلف عن العديد من الموارد الاقتصادية
الأخرى، كونها تفتقر الى حقوق الملكية للموجودات البيئية - كما مر بنا سلفاً -، إذ
لا توجد جهة تمتلك حقوق الملكية، وعليه فأن من الصعوبة تحديد التكاليف المباشرة
التي تنشأ من استخدام المنتجين الأفراد لهذه الموجودات، لذا سيتم استخدامها وإلحاق
أضرار بيئية(15). وفي هذا المجال ينبغي المحافظة على البيئة من خلال
تقليص إنبعاث غاز أول وثنائي أوكسيد الكربون والغازات الأخرى التي أقرتها إتفاقية
((كيوتو)) للمناخ، والمحافظة على التوازن الحياتي والطبيعي والتطورات البيئية
الملازمة لها، ومعالجة المياه وتحسين نوعيتها ومعالجة الصرف الصحي، وأن يكون موضوع
البيئة مدرجاً على جداول أعمال معظم الحكومات في دول العالم كافة(16).
ونظراً لعجز آلية إقتصاد السوق عن انجاز جميع وظائف إقتصاديات البيئة، تأتي أهمية
تدخل الدولة في الحفاظ على البيئة من التدهور لان السياسة البيئية المركزية ضرورية
من جوانب عدة، إذ أن استخدام السلع البيئية من لدن البعض من أفراد المجتمع، لا
يعني تمتع الآخرين الكامل بها، وهذا ما يجعلها ليست سلع عامة خالصة، لذا فأن معظم
الأفكار الاقتصادية التي جاءت في مفهوم إقتصاد السوق وآلياته، لا تعطي مسوغاً لعدم
التدخل الحكومي في معالجة فشل السوق وزيادة الكفاءة الاقتصادية، ولكن يفترض أن
يكون التدخل الحكومي بأسلوب ملائم في مجال التطبيق العملي مع احتمال كون تدخل
الدولة قد يواجه هو الآخر فشلاً إذا لم يأخذ الخواص البيئية –التي مرت بنا آنفاً-
في الحسبان(17). وإرتباطاً مع ما مر ذكره سلفاً، وفضلاً عن فشل إقتصاد
السوق، والملكية الفردية للمؤسسات الاقتصادية في معالجة الكثير من مشكلات البيئة،
التي باتت تهدد حياة الإنسان من الجيل الحالي والأجيال القادمة من مثل ظاهرة
الاحتباس الحراري، وتحلل غلاف الأوزون، وعدم قدرة القطاع الخاص وعجزه عن مواجهة
هذه الظواهر(18). فأنه إذا ما وجدت قيود على الشركات الخاصة في ظل
إقتصاد السوق وضرورة الالتزام بها، وبخاصة التكاليف البيئية التي تندرج ضمن تكاليف
المنشأ، وكذلك إعتماد السماحات الغازية المنبعثة، فأن هذه المعالجة غالباً ما تكون
غير مجدية للدول النامية التي لا تستطيع خفض التكاليف الإنتاجية فيها، لأن ذلك
سيؤدي الى رفع أسعار السلع، وتدني قدرتها على المنافسة في السوق العالمية، لذا فأن
تدخل الدولة سيكون ضرورة أفضل من عدمه، لاسيما في هذه المجالات، وأن إدخال الضرائب
البيئية التي تفرضها الدولة سواء أكانت ضريبة متنوعة، أم بشكل سماحات لإنبعاث
الغازات أفضل من الناحية العملية، بالرغم من وجود بعض الصعوبات. فضلاً عن ذلك، فأن
الفضلات السامة الناتجة من خلال النشاطات الاقتصادية المختلفة، قد إحتلت إهتماماً
بيئياً مهماً في السوق العالمية للفضلات، والتي تظهر بشكل ناتج عرضي لاستخلاص
المواد الفائضة بعد الاستخدام وتصنيعها، وربما يكون المثال الأكثر خطورةً وتلويثاً
هو الذي يشمل صناعة الطاقة النووية. فهذه الأشكال من الفضلات لها المقدرة في تلويث
الماء النقي والهواء، وقد تكون التأثيرات في البلد المنتج أو بلدان أخرى، وبذلك ستظهر
حالة أخرى من التلويث وهي هدر إقتصادي إقليمي أو عالمي، فمن الممكن أن تتحمل أطراف
ثالثة الضرر والتكاليف(19). ونستنتج من كل ما تقدم تواً، أن تبني الدول
المتقدمة آلية إقتصاد السوق، في ظل سيادة الحرية الاقتصادية، ونظراً لامتلاكها
دفاعات بيئية متطورة، لا يعني بالضرورة قدرة الدول النامية على ولوج إقتصاد السوق
بالطريقة نفسها.
المبحث الثالث: العلاقة بين البيئة والعولمة
يخطئ من يظن أن
الكينزية فكر نقيض في وجه تطور العولمة، فهذه تعد مغالطة تاريخية كبيرة. فبالرغم
من أن حدود عمل الأدوات الكينزية، كما وصفها ((جون مينارد كينز)) في كتابه:
((النظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود))، كانت على المستوى المحلي للاقتصاد
الرأسمالي، وهو إنما أراد أن ينقي الفكرة من الشوائب. والدليل على فهمه للعالمية
الرأسمالية أنه بدخوله في مفاوضات ((بريتن وودز)) سنة 1944، إستطاع أن يفرض قيوداً تعبر عن تدخل مؤسساتي عالمي، وليس تدخل حكومي
داخلي، وهو بذلك انتقل بفكره من المحلية إلى العالمية(20). وثمة من
يعتقد من كبار الرأسماليين المستفيدين من العولمة بأن آلية السوق ليست حقيقة
مطلقة، وهم بذلك لا يعبرون عن معارضتهم للعولمة، وفي هذا السياق يقول ((جورج
سوروس)): ((إذا ما أعطيت لقوى السوق سلطة تامة لاسيما في الميادين الاقتصادية
المالية البحتة سينتج عن ذلك فوضى قد تقود في النهاية إلى إنهيار النظام الرأسمالي
العالمي))(21). ويقول أيضاً ((إن إعمام آليات السوق على جميع الميادين،
يعد بكل توكيد تدميراً للمجتمع))(22). ويذهب ((فرنسيس فوكوياما)) أبعد
من ذلك حين يعترف في كتابه: ((نهاية التاريخ والرجل الاخير)): ((من أن الدولة
صاحبة السوق الموجه تعمل من الناحية الاقتصادية أفضل من الدولة الديمقراطية ذات
السوق الحرة تماماً))(23). إن تأثير العولمة في الدول النامية يكون ذا
إتجاهين: الأول، يؤدي إلى نمو قطاعات إقتصادية جديدة وبضمنها قطاع الموارد
الطبيعية، والثاني، يؤدي الى تخفيض في بعض القطاعات المحلية التي لا تستطيع تحقيق
الكفاءة الاقتصادية المطلوبة(24). وسيؤدي ذلك الى تهميش هذه الاقتصادات
التي تشكل قاعدة عريضة في إستخدام القوى العاملة، ومن ثم ستزداد معدلات البطالة،
الأمر الذي سيعمل على الإسراع في إستنزاف الموارد الطبيعية،(25) التي
سيزداد الطلب عليها، وكذلك لتعويض الانخفاض الحاصل في القطاعات المحلية تفادياً من
زيادة معدلات الفقر، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة التحلل البيئي لهذه الدول(26).
وتوصلت إحدى
الدراسات إلى أن العولمة الاقتصادية دفعت إلى تسريع التغيير البنيوي في العديد من
الدول النامية، مما انعكس بآثار سلبية في البيئة نتيجة رغبة هذه الدول بجذب رؤوس
الأموال الأجنبية، وهذا أدى إلى نقل الكثير من حالات إخفاقات السوق للدول المالكة
لرؤوس الأموال إلى الدول المستقبلة لها(27). وتم في الدراسة نفسها
توصيف أنموذج قياس إقتصادي تطبيقي يضم (154) دولة، لتقدير انحدار معلم البيئة معبراً عنه بغاز
ثنائي أوكسيد الكربون على متغيرات العولمة الاقتصادية (الناتج المحلي الإجمالي،
وصافي تدفق رؤوس الأموال، وحركة التجارة الدولية)، بوصفها متغيرات توضيحية. وخرجت
الدراسة بنتيجتين رئيستين إحداهما إيجابية، إذ تعمل العولمة الاقتصادية على زيادة
الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم المحافظة على البيئة، من خلال الحصول على تقنيات
حديثة ومتطورة، من شأنها إعادة تدوير المخلفات الصناعية. والثانية سلبية ناجمة
بسبب تغاضي أغلب الدول النامية عن حساب التكاليف الاجتماعية وبضمنها التكاليف
البيئية. كما أن تدفقات رؤوس الأموال من الدول المتقدمة إلى الدول النامية غالباً
ما تتجه نحو الاستثمارات التي تعمل على التحلل البيئي، وذلك بسبب ضعف الدفاعات
البيئية(28).
وقد تصاعد
الاهتمام بدراسة الخلل الذي أحدثته العولمة في البيئة على الصُعُد الوطنية
والإقليمية والدولية، فلم تعد البيئة الطبيعية قادرة على إستيعاب النفايات السامة
والتي بلغت نحو (700) مليون طن سنوياً، وارتفاع درجة حرارة الأرض بين (1,5- 4,5) درجة مئوية نتيجة لانبعاث غازات الدفيئة التي تؤدي إلى ظاهرة الاحتباس
الحراري، وتآكل طبقة الأوزون بسبب الغازات المتصاعدة من جراء النشاطات الصناعية.
ناهيك عن ظاهرة التلوث الكيمياوي والتسمم الناتج عن إستخدام المبيدات الزراعية
بواسطة الشركات الزراعية العالمية، التي تستثمر في الدول النامية. وتشير الإحصاءات
الرسمية إلى أن هناك (10) شركات عالمية كبرى لإنتاج المبيدات الزراعية، وتكشف
تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية عن إصابة نحو مليون عامل زراعي في أمريكا
اللاتينية نتيجة تلك الكيمياويات(29).
المبحث الرابع: الإصلاحات الأساسية في نظام الإقتصاد
البيئي
ثمّة جملة من
الإصلاحات الأساسية التي ينبغي إدخالها في نظام الإقتصاد البيئي، بغية تخفيض كل من
مدخلات النظام الطبيعي ومخرجاته المتمثلة بالنفايات والملوثات والغازات. ففي
القطاع الصناعي، ينبغي إعتماد تقنيات من أجل حماية البيئة، إبتداءاً من زيادة
كفاءة تصميم المنتج، مروراً بعمليات التصنيع، وإنتهاءاً بالسيطرة النوعية. كما أن
إتباع الأساليب المقتصدة في الزراعة، وتخطيط إستخدام الأرض، والممارسات المناسبة
في البناء والتشييد، يمكن أن تؤدي في مجملها إلى إقلال تعرية التربة. كما يعد الاستخدام
الأمثل للأراضي، وتخطيط عمليات النقل، أمراً ضرورياً لخفض انبعاث الغازات الملوثة
والآثار المترتبة عليها. وتعمل تقنية الإتصالات الحديثة على إقلال رحلات رجال
الأعمال، وخفض التلوث الناجم عن وسائل الانتقال ورحلات العمل الفعلية(30).
وعملت التحسينات التقنية التي تم إدخالها على المحركات وحبس الإنبعاثات الناتجة عن
حرق الوقود وتحسين نوعية البنزين إلى خفض عوادم السيارات وإقلال مصادر الإنبعاثات
الملوثة بدرجة كبيرة من خلال حلول هندسية(31). كما تم إعداد تقنيات على
شكل مقاييس لخفض الرحلات التي تقطعها السيارة مما إستلزم تغيير سلوك السائقين. كما
يتعين أيضاً تطوير سياسات إستخدام الأرض من أجل تشجيع خفض الرحلات التي تقطعها
السيارة، وتشجيع إستخدام وسائل النقل العامة، والدراجات الهوائية، فضلاً عن السير
على الأقدام(32). وفي مجال إقلال إنبعاثات الغازات من عوادم الطائرات،
فبالرغم من منافع دعم التقنيات الحديثة من لدن الدولة، لم يعد كافياً وحده من وجهة
نظر شركات الطيران العالمية، فقد طالب أحد المسؤولين الكبار في "شركة
لوفتهانزا " للطيران الحكومة الألمانية بلعب دور أكبر من أجل إتخاذ قرارات
على الصعيدين المحلي والأوربي، من شأنه إقلال إنبعاث الغازات من دون تحميل شركات
الطيران عبئاً أكبر. وأوضح أن الطائرات لا تستطيع أن تسلك أقصر الطرق من أجل إقلال
إستهلاك الوقود، وذلك بسبب قوانين حماية المجال الجوي المختلفة لكل دولة، إذ تضطر
الطائرات دائماً إلى إعتماد طرق أطول، لذا ينبغي توحيد القوانين في هذا المضمار،
ومن شأنه خفض إنبعاث الغازات أثناء الطيران الذي يعد مصدراً مهماً من مصادر تلويث
الهواء(33). وتشير بعض التقديرات إلى أن نحو (%50) من الأراضي الزراعية في المدن تكون مغطاة بالسمنت والإسفلت لخدمة
السيارات وأماكن الوقود. ولأجل الحفاظ على الطاقة، وخفض التلوث وتغير المناخ،
ينبغي الإهتمام بزراعة أشجار الظل، إذ يترتب على زراعتها تبريد المباني وعزلها عن
حرارة الشمس، وتبريد السيارات التي تعمل بالبنزين، مما يؤدي إلى خفض الإنبعاثات
الناتجة عن تبخره، وكذلك زيادة التنفس النباتي، مما يزيد من الأوكسجين في الغلاف
الجوي(34). وطالب أحد المسؤولين في قسم الطاقات المتجددة في "شركة
ايون" العملاقة للطاقة الحكومة بإيجاد أرضية قانونية تسهّل بناء محطات توليد
الطاقة المتجددة لا يزال حديث العهد، لكنه يحمل مقومات عدة تبشر بالنمو والإزدهار،
وأضاف أن الطاقة المتجددة ليست أمراً ضرورياً لحماية البيئة حسب، بل إنها ستلعب
دوراً كبيراً في المستقبل، إذ أن من المنتظر نضوب مصادر الطاقة التقليدية من مثل
النفط والفحم خلال العقود القادمة، مشيراً إلى دراسات حديثة بيّنت أن الطلب المتوقع
على الطاقة سيزداد بنسبة (%60) بحلول سنة (2030)(35). ومن أجل المحافظة على البيئة
وإستدامتها في الدول النامية، يتطلب إجراء بعض التغييرات على الطاقة المتولدة من
الكتلة الحيوية الخشبية (وهي نفايات المواد الحيوانية والنباتية التي تستخدم
بصفتها وقوداًَ) إلى شكل آخر من أشكال الطاقة المتجددة(36).
ولم يعد دور
الدولة يقتصر على البعدين السياسي والإقتصادي، وإنما هناك بعداً إجتماعياً لحماية
البيئة. وفي هذا السياق يقول أحد المسؤولين في الأمم المتحدة عن "برنامج
الإنسان بوصفه بُعد في التغير المناخي" "إنّ من الصعب تطبيق التقنيات
الجديدة، ما لم يتحقق تغيير في وعي البشر" وهو ما يسعى البرنامج لتحقيقه من
خلال المؤتمرات العلمية، ودورات التوعية بمخاطر التغيرات المناخية. ويرى أن
مسؤولية التصدي للتغيرات المناخية لا تقع على عاتق الدولة، أو جهة بعينها حسب،
وإنما على عاتق الجميع، ولا يمكن النجاح في هذه المهمة إلا عبر تنسيق الجهود
الدولية، وساق مثالاً لما يعتقد أنه تغيير نوعي ناجح في طريقة التفكير، مشيراً إلى
حملة من أجل الإستغناء عن غاز الفريون المستخدم في صناعة البرادات والثلاجات
لتأثيره السلبي في ثقب الأوزون. وقال أن تضافر جهود السياسيين والإعلاميين
وإستجابة الشركات، أدّى إلى خلق وعي عالمي بمخاطر المشكلة في ثمانينات القرن
العشرين، ومن ثم إيجاد علاج لها. وبمناسبة إنعقاد اللقاء السنوي لمنتدى التنمية
المستدامة للإقتصاد الألماني econsense (الأربعاء 12 تشرين الثاني 2008) تحت شعار: "تقنيات من أجل حماية البيئة."
أعلن المتحدث بإسم المنتدى إطلاق موقع على شبكة المعلومات الدولية، يقدِّم معلومات
وافية عن أحدث التقنيات الصديقة للبيئة تحت عنوان www.klimatechatlas.de، كما قدّمت شركات عدة أحدث ما
لديها في هذا المجال، وعرضت "شركة Heidelbergcement
"إختراعاً فريداً من نوعه وهو أحجار للبناء مطلية بمادة كيميائية تستطيع
القيام بعملية شبيهة لعملية التمثيل الضوئي التي تقوم بها النباتات، فتقوم بإمتصاص
غاز ثنائي أوكسيد الكاربون وغيره من الغازات الضارّة من الجو. ويمكن إستخدام
المادة الكيميائية في طلاء الطرق، وقد أُستخدمت هذه الطريقة في إيطاليا وفرنسا
وأثبتت فعاليتها في إقلال إنبعاث الغازات الضارة في الجو. وقدمت "شركة Siemens" ديودات ضوئية LED يمكن
إستخدامها لتحل محل المصابيح التقليدية، إذ توفّر نحو (%80) من الطاقة، كما أن عمرها الإفتراضي يزيد عن عمر المصابيح العادية بنحو (50) مرّة. ويمكن إستخدامها في المطارات وغيرها من الأماكن. كما قدمت
"شركة RWE" الألمانية للطاقة
وبالتنسيق مع وزارة الإقتصاد والتقنية الألمانية عدّاداً ذكياً للكهرباء يستطيع
توضيح إستهلاك الكهرباء في المنزل على شكل مرتسمات بيانية يستطيع المستخدم من
خلالها معرفة حجم الطاقة المستخدمة، وقد جرى تطبيقه على نطاق واسع في مدينة
"مولهايم" الألمانية(37). وبعد أن تم إستعراض بعض جوانب
الإصلاحات الأساسية في نظام الإقتصاد البيئي، يثار التساؤل الآتي: كيف يمكن
التأثير في الإصلاحات المطلوبة لحماية البيئة المتمثلة بزيادة التصميم الأمثل
للمنتجات، وعمليات التصنيع، والإحلال الإقتصادي للمنتجات، في ظل التحولات العالمية
بشكلٍ مطّرد نحو إقتصاد السوق الحر في ظل العولمة؟.
يقترح بعض
الإقتصاديين أنه لا بد من توجيه هذه التحولات والبدائل الإقتصادية من خلال الحوافز
الإقتصادية المختلفة، وإدراك المصنِّع ووعيه بالبدائل. وتعتمد الدول الرأسمالية
الأوربية أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية على سياسة ضريبية لتخفيض إستهلاك
الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك، تطالب القوانين البيئية على نحو مطّرد بفرض
رسوم على المواد الملوِّثة بوصفها حافز سلبي يفرض على الملوِّثين. وتشير اللجنة
العالمية المعنية بالبيئة والتنمية التابعة للأمم المتحدة إلى "أن التنمية
المستدامة تتطلب تغيير مضمون النمو الإقتصادي لكي يكون أقل إعتماداً على المواد
الطبيعية وحوافز الطاقة، ويكون أكثر عدلاً في آثاره"(38). أنّ ما
أثارته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التابعة للأمم المتحدة من قضايا ليست
بالجديدة في حقيقة الأمر، إذ كان كل من الإقتصاديين وأنصار البيئة يناقشون قبل
إنبثاق هذه اللجنة العالمية بسنوات طوال، قضية تغيير مضمون النمو لجعله أقل ميلاً
للطابع المادي والإستخدام المكثف للطاقة، وأكثر عدالة في آثاره، وعلى العكس من
"إقتصاد راعي البقر" "Cowboy
Economy" التقليدي
الذي يدعم الإستغلال والتهوّر والنفايات، قدّم الإقتصادي "كينيث بولدنج"
مصطلح "إقتصاد سفينة الفضاء" "Spaceship Economy"، لأن سفينة الفضاء المحدودة تحتاج إلى الإعتماد المتبادل بين
البشر والنظم، وأي عالم محدود يحتاج إلى أن يعمل الناس معاً داخل الحدود التي
يفرضها النظام الطبيعي، ويحتاج إلى كفاءة ومهارة عالية في إستخدام الموارد
الإقتصادية، والحرص على إستخدام البيئة(39). وخلاصة القول، لو تمّ
إبتكار أساليب تقنية جديدة ودائمة، وإجراء تغييرات إقتصادية كبيرة، وإتباع سلوكيات
بيئية أخلاقية مسؤولة، فقد تشهد السنوات القادمة على الأرجح تحسناً في نوعية
الحياة والبيئة، وإنتعاشاً في التنمية المستدامة وإقتصاد البيئة بما يعود بالنفع
على الجميع.
المبحث الخامس: العلاقة بين البيئة والتنمية المستدامة
إذا ما عدَّت
البيئة والموارد الطبيعية بوصفها بداية الدراسات الإقتصادية الحديثة، فإن المنطق
والعقلانية يشيران إلى ضرورة أن يأخذ التحليل الإقتصادي في الحسبان، العلاقة
الوثيقة بين البيئة والتنمية في ضوء مفهوم التنمية المستدامة، من خلال التركيز على
مجموعة من المعايير التي تعتمدها التنمية المستدامة، بوصفها الوسيلة الفعالة
لتطوير إقتصاديات البيئة، وذلك يتوقف على مجموعة من العوامل الإقتصادية لعلّ في
مقدمتها حالة إخفاق السوق في رؤية المشكلات البيئية، إذ أن نظام إقتصاد السوق قد
أظهر فشلاً في آلية الأسعار، وتأديته لوظيفة توجيه الموارد الإقتصادية للمجتمع نحو
الإنتاج المستدام، مما أدّى إلى ظهور التحدّيات البيئية التي يعزى السبب فيها إلى
فشل السوق في التعامل الأمثل مع التكاليف الإجتماعية ومنافعها، والسلع العامّة،
وحقوق الملكية، وهو الأمر الذي أوجد حالة الإقتصاد غير الكفء الذي يتنافى مع أهداف
النمو الإقتصادي. ولهذا فإن زيادة الكفاءة الإقتصادية، ورفع معدلات النمو
الإقتصادي، لا يسهمان في زيادة الناتج المحلّي الإجمالي، ما لم يؤدِّ ذلك إلى
المحافظة على البيئة من التحّلل والضّرر(40). وبادرت وزارة التجارة
الأمريكية في الآونة الأخيرة بوضع مَعْلَم جديد للناتج المحلي الإجمالي، وذلك بطرح
إستهلاك الموارد الطبيعية، وتكاليف التلوث، وإضافة الفوائد الناجمة عن تحسين نوعية
البيئة(41). وفي ضوء ذلك سيجري تعديل مفهوم الحسابات القومية في حساب القيمة
المضافة بحيث يصبح نظام حسابات قومية معدَّل بيئياً. ولأجل أن تكون الحسابات
القومية معبِّرة تعبيراً صادقاً ودقيقاً عن التنمية المستدامة، لابد أن يرتبط
التوازن الإقتصادي العام بمفهوم جديد يحقّق التوازن الذي يعمل على ربط الإقتصاد
والبيئة معاً، وفي هذه الحالة تصبح الحسابات القومية معدَّلة بيئياً(42).
إنّ نظام حسابات من هذا النوع يأخذ في الحسبان التكاليف البيئية (النفايات،
والإنبعاثات الغازية، ... الخ) من جانب، والمنافع البيئية من جانب آخر، وسيؤدّي
إعتماد هذا الأسلوب إلى إعادة توزيع التكاليف والمنافع بين بنود الإنفاق على
الناتج، وسيتحمّل ذلك الجانب من الإنفاق الرأسمالي بصورة مباشرة أو غير مباشرة بعض
جوانب التكاليف البيئية، مما يؤدي إلى الحد من سلوكه الإستنزافي للموارد البيئية
وبخاصّة غير المتجددة منها في سعيه إلى تعظيم أرباح إحتكار القلّة. وبتعبير محدّد،
أنّ حساب التكاليف البيئية في إطار الحسابات القومية سيترتب عليه إرتفاع التكاليف
الحديّة للوحدات المنتجة، وفي إطار التحليل الجزئي، فإن كبار المنتجين الذين
يبالغون في إستخدام الموارد البيئية سيضطرون إلى خفض إستخداماتهم من هذه الموارد
طبقاً لتساوي التكاليف الحديّة والإيرادات الحدية لوحداتهم المنتجة، وهو الأمر
الذي يخفِّض نسبياً تزايد معدّل تراكم رأس المال مقارنةً بنظام الحسابات القومية
السائد (بدون حساب التكاليف البيئية)، الذي لا يأخذ في الحسبان أعباء إستخدام
الموارد البيئية وتكاليفها في صورها المختلفة. كما أنّ الدول النامية بحاجة إلى
تحليل إقتصادي بيئي، لأنّ مواردها الطبيعية في مرحلة إستنزاف في الماضي والحاضر،
فضلاً عن ظهور نشاطات إقتصادية تشكّل خطراً على البيئة، كما تكون للدول النامية
تراكمات مادية يمكن تخصيص جزء منها للصيانة والمحافظة على البيئة، وضرورة إعتماد الإستغلال
العقلاني لموارد هذه الدول وبخاصة النفطية منها بحيث تنتج ما يمكنها من صيانة
البيئة والمحافظة عليها وعلى كوكب الأرض بمجمله، لأن خطر التلوث هو قاسم مشترك بين
دول العالم من مثل الأمطار الحامضية، وتلوث سواحل البحار بالبقع الزيتية، وتلوث
المياه وغيرها، قد يصدر عن دول ولكنه يصيب دولاً أخرى(43). من حاصل ما
تقدّم توّاً تبقى مسألة الاهتمام بالبيئة والتنمية المستدامة من مسؤولية الدولة من
خلال تكوين مؤسسات متخصصة في مجالات إقتصاديات البيئة، تعمل على رسم سياسات فعّالة
من شأنها تحقيق التنمية المستدامة وتوزيع عوائدها بطريقة عادلة تضمن إستدناء
التفاوت بين حاجات الجيل الحاضر، وأجيال المستقبل، فضلاً عن أنّ العوائد الناجمة
من إستغلال البيئة، يجب أن يجري توظيف جزءاً منها للمحافظة على البيئة وصيانتها.
الإستنتاجات والتوصيات
أولاً:
الإستنتاجات
توصلت الدراسة إلى جملة من الإستنتاجات ندرجها
على النحو الآتي:
1. نظراً
لعجز آليّة السوق عن إنجاز جميع وظائف إقتصاديات البيئة تأتي أهمية تدخل الدولة في
الحفاظ على البيئة من التدهور. وأن معظم الأفكار الإقتصادية التي جاءت في مفهوم إقتصاد السوق وآلياته، لا
تعطي مسوِّغاً لعدم التدخل الحكومي في معالجة إخفاقات السوق وزيادة الكفاءة
الإقتصادية، ولكن يفترض أن يكون تدخل الدولة بإسلوب ملائم يأخذ الخواص البيئية في
الحسبان.
2. تختلف
السلع البيئية عن العديد من الموارد الإقتصادية الأخرى، كونها تفتقر إلى حقوق
الملكية، وعليه فأنّ من الصعوبة تحديد التكاليف المباشرة التي تنشأ من إستخدام
المنتجين الأفراد لهذه السلع، لذا سيتم إستخدامها بعيداً عن العقلانية، وإلحاق
أضرار بيئية غير مرغوب فيها.
3. أنّ
سعي الشركات الخاصة إلى إستدناء تكاليفها بقصد تعظيم الأرباح، يترتب عليه قدر كبير من هدر الموارد الطبيعية، وتحلل البيئة
وتلوّثها، والّذي يعني زيادة في التكاليف الإجتماعية، زد على ذلك أن حالة المنافسة
لا تؤدّي إلى تحقيق الكفاءة الإقتصادية في الدول النامية التي تكون قدرتها على
حساب التكاليف البيئية غير دقيقة، وعندئذٍ تكون هذه الشركات أكثر ضرراً للبيئة من
مؤسسات الدولة العامّة.
4. دفعت
العولمة الإقتصادية عبر آليّة التغيير البنيوي في الدّول النامية إلى آثار سلبية
في البيئة، نتيجة رغبة هذه الدّول بجذب الإستثمارات الأجنبية، مما أدّى إلى نقل
الكثير من حالات إخفاق السوق إلى الدّول النامية المستقبِلة.
ثانياً:
التوصيات
خلصت الدراسة إلى جملة من التوصيات ندرجها
على النحو الآتي:
1. توكيد
أهميّة تدخل الدولة في المحافظة على البيئة، وضمان حصّة الأجيال القادمة من
الموارد المتجددة وغير المتجددة، والعمل على رسم سياسات بيئية فعالة تضمن تحقيق
التنمية المستدامة وتوزيع عوائدها بطريقة تهدف إلى إستدناء التفاوت بين أفراد
المجتمع.
2. إستحداث
ضرائب بيئية تضمن خفض إستهلاك الموارد الطبيعية وإستدامة الإنتاج، وفرض رسوم على
المواد الملوِّثة للبيئة بوصفها حافز سلبي يفرض على من يعبث بعناصر البيئة، ويعمل
على الإضرار بها.
3. ضرورة
إعتماد التكاليف البيئية في عملية تسعير السلع والخدمات بغية العمل على خفض مستوى
التحلل البيئي وبخاصّة في الدول النامية التي تتميّز بضعف دفاعاتها البيئية.
4. قيام
الأمم المتحدة وأجهزتها البيئية بوضع معايير للحماية البيئية تخضع لها دول العالم
كافّة، وإعتماد أسلوب المقاضاة من خلال هيئة قضائية تقوم بمهمة المحافظة على
البيئة من التحلل والتدهور.
Environment & Sustainable
Development Between Market Globalization & State Intervention
Dr. Abdullah Fadhil
Al-Hayali
Lecturer / Head of Economic
& Social Studies Dept./ Regional Studies Centre /
Abstract
Taking care with environment issues & their connection with sustainable
development has come to add a new impulsion to the controversy regarding state
intervention in the shadow of globalization specially after market globalization
had faced some of the failure which is represented by the increase of social
costs, non-ability of competition to achieve economic efficiency &
exhaustion of economic contents for the environment, spread of pollution &
environmental dissolution in developing economies which suffer from weakness in
its environmental defenses. This has led to the emphasis of importance of state
intervention to protect environment & to ensure the right of the current generation & the
rights of the coming generations of the newly & non-newly resources as well
as adapting an effective environmental policy to achieve sustainable development, asking the United
Nations to present criteria to protect the environment & obliging all states
to apply this policy as well as punishment should be taken against those who do
not follow throughout a judicial court
specialized for environment.
هوامش البحث ومصادره
(1)
د.
سالم توفيق النجفي، ود. أياد بشير الجلبي، "البيئة والتنمية المستدامة
(مقاربات إقتصادية معاصرة)" ، مجلة تنمية الرافدين، المجلد (25)،
العدد (73)،
كلية الإدارة والإقتصاد، جامعة الموصل، الموصل، 2003،
ص38.
(2)
د.
عمار علي حسن، "البيئة والعلاقات الدولية ... مفاهيم وإقترابات حديثة"،
مجلة السياسة الدولية، المجلد (41)، العدد (163)،
مؤسسة الأهرام، القاهرة، كانون الثاني 2006،
ص88.
(3) Alan Griffiths and Stuart Wall, Applied Economics, 7th
ed., Longman, Inc,
(4)
د.
علي نصار، الإمكانات العربية – إعادة نظر وتقويم في ضوء تنمية بديلة، الطبعة
الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1983،
ص21.
(5)
د.
عمار علي حسن، المصدر السابق، ص88.
(6)
د.
صلاح عبدالرحمن الحديثي، "مدخل لدراسة البيئة وعلاقتها بحقوق الإنسان والأمن
الدولي"، مجلة دراسات قانونية، العدد الثاني، بيت الحكمة، بغداد، 2000،
ص 48.
(7) Agenda (21), UN conference on Environment and
Development,
للإطّلاع
ينظر:
ف.دوجلاس
موسشيت، "منهاج متكامل للتنمية المستدامة"، مبادئ التنمية المستدامة،
الطبعة الأولى، تحرير ف. دوجلاس موسشيت، ترجمة بهاء الدين شاهين، الدار الدولية
للإستثمارات الثقافية، القاهرة، 2000، ص 17.
(8)
سي
دوك لي، وفيكتور س. لي، "ما بعد ريو دي جانيرو: التحدّي البيئي الجديد"،
مبادئ التنمية المستدامة، المصدر السابق، ص88.
(9)
عماد
خليل ابراهيم و د. عبد الله فاضل الحيالي، "رؤية في العلاقة بين الديمقراطية
وحقوق الإنسان وأثرها في التنمية المستدامة في ظل العولمة"، مجلة الرافدين
للحقوق, المجلد (13)، العدد (47)،
السنة (16)،
كلية الحقوق، جامعة الموصل، آذار 2011،
ص 295.
(10)
د.
جعفر ضياء جعفر، وعادل ج نعّوم، "إقتراح لإدماج العوامل المؤثرة في مناخ
العالم في مؤشر التنمية البشرية"، مجلة المستقبل العربي، العدد (280)،
مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002،
ص 59.
(11)
سالي
سامي، "القمة العالمية المخصصة للتغيرات المناخية"، مجلة السياسة
الدولية، المصدر السابق، ص 89.
(12)
ريتشارد
موسجريف، وبيجي موسجريف، المالية العامة في النظرية والتطبيق، ترجمة محمد حمدي
السباخي، دار المريخ للنشر، الرياض، 1992،
ص 20.
(13)
د.
أياد بشير الجلبي، ود. قيس ناظم غزال، "البعد الإقتصادي لخصخصة الدول النامية
وأثره في إقتصادات البيئة"، بحوث الندوة العلمية الأولى (خصخصة الإقتصاد
العراقي: الواقع، الإشكالية، المستقبل)، الطبعة الأولى، جامعة الموصل، مركز
الدراسات الإقليمية، مطبعة الموصل، تشرين الثاني 2004،
ص ص 109-110.
(14) Stephen C.R. Munday, Current Developments Economics,
Macmillan
(15) Theodore Ponayotou,
Instruments of Change Earth, Scan Publications Ltd.,
(16) د. أياد بشير الجلبي، و د.قيس ناظم
غزال، المصدر السابق، ص 111.
(17) المصدر نفسه، ص ص 111-112.
(18) Todd Sandler, Global Challenges,
(19) د. أياد بشير الجلبي، و د. قيس ناظم
غزال، المصدر السابق، ص ص 112-113.
(20) د. محمود خالد المسافر، العولمة
الإقتصادية: هيمنة الشمال والتداعيات على الجنوب، بيت الحكمة، بغداد، 2002،
ص ص 78-79.
(21) George Soros, The Crisis of Global Capitalism, Little
Brown and Company,
(22) Michael Schossudouvsky, The Globalization of Poverty,
Impact of IMF and World Bank Reform,
(23)
فرانسيس
فوكوياما، نهاية التاريخ والرجل الأخير، ترجمة وتعليق د. حسين الشيخ، دار العلوم
العربية، بيروت، 1993، ص 144.
(24) Stephen C.R. Munday, op. cit., p. 61.
(25) Barry C. Field, Environmental Economics: An Introduction,
2nd ed., McGraw-Hill, Printed in
(26)
د.
عبدالرزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة
العربية، بيروت، 2001، ص 10.
(27)
د.
سالم توفيق النجفي، ود. أياد بشير الجلبي، المصدر السابق، ص 16.
(28)
المصدر
نفسه، ص ص 127-141.
(29)
د.
عماد خليل إبراهيم و د. عبدالله فاضل الحيالي، المصدر السابق، ص 294.
(30)
ف.
دوجلاس موسشيت، المصدر السابق، ص 26.
(31)
فيكتوريا
إيفانز، "وجهات نظر حول جودة الهواء وإستخدام الأرض والنقل: دراسة حالة من
كاليفورنيا"، مبادئ التنمية المستدامة، المصدر السابق، ص 188.
(32)
المكان
نفسه.
(33) www.klimatechatlas.de
.
(34)
فيكتوريا
إيفانز، المصدر السابق، ص 191.
(35) www.klimatechatlas.de
.
(36)
ف.
دوجلاس موسشيت، المصدر السابق، ص 26.
(37)
المصدر
نفسه، ص 27.
(38) United Nations. World Commission on Environment and
Development, Our Common Future,
(39) K. Boulding, "The Economics of the Coming Spaceship
Earth", in Environmental quality in a Growing Economy, H. Jarret, Ed.,
Johns Hopkins Press, Baltimore, 1966.
نقلاً عن: ف. دوجلاس
موسشيت، المصدر السابق، ص 30.
(40)
د.
أياد بشير الجلبي، ود. قيس ناظم غزال، المصدر السابق، ص 99.
ف.
دوجلاس موسشيت، المصدر السابق، ص 24.
(41) Alan Griffiths and Stuart Wall, op. cit., p. 220.
(42)
د.
سالم توفيق النجفي، ود. أياد بشير الجلبي، المصدر السابق، ص 53.
_________________________________________________________
*مجلة (دراسات اقليمية) يصدرها مركز الدراسات الاقليمية - جامعة الموصل ، السنة (8) العدد ( 25) ، كانون الثاني 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق