المؤرخ جزيل عبدالجبار الجومرد لــ الزمان أخطاء المستشرقين أنارت طريقي لدراسة التاريخ
المؤرخ جزيل عبدالجبار الجومرد لــ الزمان أخطاء المستشرقين أنارت طريقي لدراسة التاريخ
حوار أجراه عمر عبدالغفور
الكتابة كانت في مقدمة الانجازات التي قدمها الإنسان طوال مسيرته التاريخية وكان للعراقيين اليد الطولى في هذا الشأن على العالم ولما كان التاريخ قد جعل من الكتابة وسيلة لتوثيق عصوره ومؤشرا لدرجة الوعي في إي حضارة كما كان للموصلين دور مشرف في كتابة التاريخ العربي الإسلامي فمنهم رجال تصدوا لهذا العمل فذاع صيتهم في الأفاق… من بينهم ضيفنا ووالده اللذان ساهما في الكتابة عن التاريخ بل والمشاركة في صناعته انه أستاذ التاريخ العربي الإسلامي الدكتور جزيل الجومرد ووالده وزير خارجية العراق السابق الدكتور الراحل عبدالجبار الجومرد فحلت الزمان ضيفا على أستاذ التاريخ في قسم التاريخ بجامعة الموصل وكان معه هذا الحوار
قد تنشأ الرغبة والولع بدراسة التاريخ لدى امرئ ما نتيجة عدة عوامل، او دوافع تتفاوت من شخص إلى آخر، كيف تولد مثل هكذا رغبة قد تجعل احدنا يكرس حياته لدراسة الماضي، هل مثلا الإعجاب بالبطولة والأبطال يحفز بذلك الاتجاه، هل انتم مثلا كان ذلك حاديا لكم للتوجه لدراسة التاريخ ومن ثم تدريسه؟
الاهتمام بالتاريخ أمر حتمي لدى كل إنسان، طالما انه يمتلك ذاكرة تؤسس لاتجاهات عواطفه، ورسم خطوط أفعاله وردود أفعاله، وتحدد المكروهات لديه، والمفضلات عنده، من أمور الحياة بشكل عام. لذلك فان كل منا مؤرخ بمستوى أو آخر من مستويات التوظيف لمعرفته بالماضي التاريخ وتوفير تفاصيله وتناوله أو متابعته. ولكن البعض يستغرقه أمر التاريخ اهتماما وبحثا وجمعا وتوظيفا، ومن ثم قد يقوم بروايته، بل حتى كتابته، ومن ثم تلقينه ، والى حد قد يشغل احدنا به نفسه كهواية أساسية شاغلة أو حتى وظيفة يتخذها حرفة كأي من الحرف التربوية الأخرى. والشغف بالبطولة والبطل واحد من دوافع الاهتمام بالتاريخ، وقد يكون أولها، فنحن نعلم جيدا أن قصص البطولة والأبطال تكاد تكون أول قصص الأمم وأساطيرها المكونة لهويتها في شتى بقاع الأرض عبر أزمان سبقت تدوين التاريخ ثم رافقته.
وكما ذكرت، فحيث أن الأمم في أزمان تكونها الأولى،وفي بواكير أيام تحديد ملامح هويتها، تعمد إلى المجيد من أعمال الآباء، تحوك حوله من نسيج الأخيلة ما يغدو أساطيرا تستوعب الرؤى والأحلام والآلام..الخ، لكي تؤسس لخصوصية كينونتها ووجودها، فإن البشر كأفراد يفعلون الفعل ذاته في مرحلة الطفولة واليفاعة، فعند الأطفال تكون قصص البطولة والأبطال جزءا مهما من الخيوط الأولى لنسيج ثقافتهم في بواكيرها، لتنمو وتنمو وتنمو مع معطيات التجربة، يغذيها نمو الملكة العقلية تباعا لكي تكوّن يوما الإنسان في أحسن أحوال نضجه. وكأي من رفاق طفولتي أعجبتني حكايات البطولة والأبطال وتعلقت بها، حكايات البطولة والأبطال في شتى صورها ووسائل عرضها، في القصص الطفولية المتوافرة في منتصف القرن الماضي، قصص من أمثال قصص المرحوم عبد الحميد جودة السحار عن الشخصيات الإسلامية البطلة الأولى من صحابة وقادة فاتحين وصالحين..و مسلسلات الإذاعة وأفلام السينما…وبتأثير من ثقافة المرحوم والدي، الذي كان شاعرا وفارسا خيّالا ورياضيا في شبابه، قبل ان يعرف بكونه قانوني أكاديمي وسياسي ومؤرخ، والذي كانت أعماله التاريخية، التي أخذت الحظ الأوفى من جهد قلمه، جلها في تراجم رجال متميزين من التاريخ العربي الإسلامي، حيث كان يشجعني على القراءة المتنوعة وخاصة قراءة سير الرجال الأفذاذ، وربما أثرت ذائقته التي تتقاسمها عناصر الإسلام والعروبة والوطنية بحكم الانتساب والمعاناة، زائدا النزعة نحو الحداثة المتأتية من تجربة العيش والدراسة لعقد من الزمان في باريس في السوربون ، في تنويع خيارات القراءات للأدب البطولي لدي، كمثال، اذكر انه قدم لي مبكرا قصة عنترة بن شداد ثم روايات حمزة البهلوان ثم فارس بني هلال.. إثناؤها كنت أقرأ قصص الكسندر ديماس وميشال زيفاكو..، حيث البطولة بطولة الذراع المسوس بالأعراف والأخلاق والكياسة..ولا احسب أنني في صغري كنت واعيا بإجراء مفاضلة بين قوة عنترة وخصب شاعريته العربية وبين سيف بوريدان وكياسة فروسيته الإنسانية. وربما، لا اعلم، أن والدي كان قلقا أن لا ترجح كفة بوريدان على صاحبنا عنترة فيما لو سولت لي نفسي إجراء مثل هكذا مقارنة عن وعي أو بدونه..ثم تلت مرحلة الفهم الأوسع للبطولة..حيث البطل أديب أو عالم أو شاعر..بعد أن يكون سياسيا نبيلا أو مفكرا إنسانيا.. ومن هنا كان لذلك الكتاب الكبير الذي ألّفه المفكر الاسكتلندي توماس كارليل الأبطال أثره الكبير في نفسي لاحقا.. وربما كان من أسباب ولعي بالتاريخ والمضي في دراسته.. ورغم أنني لم أكن لأفكر في يفاعتي أن اطلب التاريخ كتخصص أكاديمي يوما دون غيره من خيارات الشباب، كدراسة القانون أو العلوم السياسية.. فلابد أن لتلك التوجهات المبكرة أثرها فيما تلا من أيام عندما التحقت بكلية الآداب في جامعة الموصل لدراسة التاريخ سنة 1971.
نظرا للدور الطلائعي الذي تلعبه الرموز التاريخية في تكوين مستوى العقل الإنساني فان التعرف على هذه الرموز أصبح ضرورة تحتم علينا إن نكتب عنهم ونعرف الأجيال الجديدة بهم وأنت كتبت عن صلاح الدين الأيوبي وكان موضوع دراستك العليا على صله بتلك الشخصية ما سبب اهتمامك بذلك ولماذا إستهوتك شخصية صلاح الدين الأيوبي؟
كما قلت سابقا إن الأبطال وسيرهم، وأحيانا كرموز قومية أو أممية إنسانية، يشكلون جزءا أساسيا من مجمل الهم التاريخي للأمم في أي مكان وزمان. لم أكن انوي عندما قدمت إلى جامعة سانت اندروز في اسكتلندا في بريطانيا أول مرة للتحضير للدراسة العليا سنة 1977 أن انصرف إلى دراسة شخصية ما..عندئذ كنت أسعى وأنا شاب، وبتأثير إصرار الفلسفة المنهجية لكتابة التاريخ على الأهمية القصوى لحيادية المؤرخ تجاه موضوع بحثه، وبتأثير مقولة المؤرخ المحدث الشهير كروتشه باستحالة الحيادية العلمية لدى كاتب التاريخ على وجه الإطلاق، أن ظننت ردحا من الزمن أن دراسة تراجم الأشخاص مبعث الإعجاب هو بحد ذاته تصريح مبكر بالانحياز بمجرد إعلان اختيار الموضوع..هذه الفكرة تغيرت فيما بعد لدي..وقتها كان احد أساتذة جامعة سانت اندروز ، ديفيد جاكسون ،يعمل على انجاز كتاب مهم جديد عن صلاح الدين الأيوبي في جهد مشترك مع البروفسور مالكولم ك لايونز ، . Saladin : The Politics Of The Holly War صدر فيما بعد بالانكليزية بعنوان وهو حلقة هامة من سلسلة دراسات، بحوثا أو كتبا، أنجزت بأقلام مستشرقين بريطانيين عن صلاح الدين وما يتعلق به عبر ما يقرب من قرن من الزمن، وقد اقترح الرجل علي في حينها دراسة سيرة شخصية سياسية رائعة من الشخصيات العربية المتميزة التي أحاطت بصلاح الدين ووضعت ملامح ومرتكزات دولته السياسية والإدارية، ذلك هو القاضي الفاضل، عبد الرحيم بن علي اللخمي العسقلاني البيساني ت 596هـ ، والذي أنتج كما هائلا من الأعمال الأدبية والرسائل السياسية القيمة ذات اللغة الأدبية المتميزة والتي رادت مدرسة في الكتابة في القرن السادس الهجري، ومعظم تلك الرسائل، بل العشرات، لاتزال غير محققة تحقيقا منهجيا دقيقا، ولكن وقتها لم أكن لأقيّم الموضوع حق قيمته، وانصرفت الى دراسة نصوص ومنهج بعض المؤرخين المحليين للعصر الأيوبي في بلاد الشام..ومن ثم قادني ذلك تباعا لتطوير اهتمامي بصلاح الدين خاصة.
صلاح الدين ابن أيوب، أو كما يعرفه التاريخ بالأيوبي نسبة إلى والده أيوب بن شادي، شخصية تاريخية فذة. والرجل ينتسب إلى الأرومة الكردية. ولكن ذلك لا يجعل من شخصيته البطولية مجرد صفة إقليمية، صلاح الدين شخصية بطولية عالمية بامتياز، ونحن إذ نعتز به ككردي الأصول عراقي المولد عربي الثقافة والوطن مسلم الديانة عالمي الإنسانية فإننا لا نكون على خطأ في أي من هذه المفردات. كان جنديا مسلما من طراز رفيع في أمور حربه كما في أمور سلمه، ورغم إن شهرة الرجل جاءت من كونه قائدا عسكريا متميزا، فانه يناظر في شهرته الحربية شهرته كرجل محبة وتواد ورحمة وسلام. احترمه إتباعه وخصومه على حد سواء، ولم يعرف عنه وهو العسكري الذي يحتاج إلى كل وسائل السلطة كي يحقق النصر في ميدان النزال، انه كان مستبدا متفردا بالقرار، ولم يروى من جملة ما روي عنه فعل عنف غير مبرر تجاه فرد أو فئة. كنت اطمح إن افرغ يوما إلى دراسة متسعة عن هذا البطل وحياته ومعاركه وسياساته. لكن كثرة الكتابات التي أنجزت عنه تبعث على التباطؤ في طرق موضوع اكتظت رحابة بالدارسين. أقلقتني كثيرا يوما رغبة إدارة جامعة صلاح الدين في تكريت إغلاق مركز الدراسات الذي يحمل اسمه.أقلقتني ألاّ تكون تلك البادرة مقدمة لإختزال تلك السيرة المتميزة في اطر إقليمية ضيقة، وقد نُبذت الفكرة ولم تتم وبقي المركز. رمز كصلاح الدين، يمكن إن يكون رمزا تجتمع حوله أمم. ويسعدني أنني كتبت عن صلاح الدين وأشرفت على رسائل عدة متميزة بهذا الصدد إحداها كانت لباحث غدا متميزا، وهو الدكتور ناصر عبد الرزاق ملا جاسم عام 1992 بعنوان صلاح الدين الأيوبي في كتابات المستشرقين الناطقين بالانكليزية .
البدايات
متى بدأ اهتمامك بالتاريخ، قراءة ثم كتابة ثم اتخاذه احترافا أكاديميا؟
نشأت في بيت يهتم بالثقافة بشكل عام وبالتاريخ بشكل خاص. ولكني لم أفكر بالتخصص في دراسة التاريخ قبل أن أجد نفسي أملأ استمارة التقديم لجامعة الموصل 1970 1971، في البداية كنت أتوق أكثر إلى إن انصرف لدراسة القانون أو العلوم السياسية، إن لم يكن العسكرية التي ملت لها في أواخر فترة المراهقة، خاصة وإنني كنت أمارس الرياضة بشكل جاد وبالخصوص العاب الساحة والميدان.. عدم وجود كلية لأي من القانون أو العلوم السياسية يومها في جامعة الموصل، دفعني الى قسم التاريخ، وقد بذل وقتها المرحوم والدي جهده كي اختار دراسة التاريخ التي كان يفضلها كثيرا،رغم انه كان بالاحتراف قانوني ناشط سياسيا، وكان قد انصرف هو نفسه في نهاية الخمسينات من عمره إلى الانشغال بكتابة تاريخ الموصل المطول بعد سلسلة من الكتابات القانونية والتاريخية. بعدها نمت رغبتي في دراسة التاريخ وازدادت حقا، وعندما أنهيت دراسة البكالوريوس بتفوق كان والدي قد توفي ولكنه أوصى الأسرة بما يمكنها من إمكانية مادية إن تعينني على أتمام دراستي للدكتوراه في الخارج حيث لم تكن الدراسات العليا قد نضجت تماما في العراق، وخاصة في الموصل، حيث لم تكن قد بوشرت بعد. كنت إثناء دراستي المبكرة قد قرأت كثيرا من كتب المؤرخين العرب الممتازين ككتب المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري و صالح أحمد العلي و جواد علي و فاروق عمر فوزي .. كما كنت معجبا بكتابات المؤرخين العالميين في وقتها، كفيشر و سبول و تايلر و رنسيمان و كرانت و هامرتن ..، كما كنت كثير الاطلاع على ما توافر من كتب المستشرقين، أثناء الدراسة أو خارجها، وكانت قد أفادتنا فائدة جمة محاضرات أستاذنا، الدكتور عماد الدين خليل، النقدية الرصينة لعيوب أعمال أولئك المستشرقين، ولمحاسن بعضها الاخر، وكذلك فعلت محاضرات أستاذنا المتميز المرحوم الدكتور عبد المنعم رشاد، والأستاذ المرحوم خضر جاسم الدوري. وهكذا.. ورغم إنني تنقلت في أكثر من قسم تاريخ في المملكة المتحدة في جامعة مانشستر وجامعة كيل … بعد وصولي إليها، فان المطاف انتهى في جامعة سان اندروز الاسكتلندية.. ومن ثم كان عملي على الدكتوراه في موضوع التاريخ الأيوبي في بلاد الشام فترة الحروب الصليبية. بعدها عدت الى العراق وعملت في جامعة الموصل بحثا وتدريسا منذ ثمانينات القرن الماضي.
كنت على مقربة من تجربة المستشرقين البريطانيين بماذا تخبرنا عن الموضوع؟
في الوقت الذي بدأت دراستي العليا سنة 1976 كان الاستشراق والدراسات العربية الإسلامية في أوربا بشكل عام، وبريطانيا بشكل خاص، قد بدأت بالتراجع،كان عصر عمالقة المستشرقين البريطانيين ك ارثر جيفري و ادوارد بروان رينولد نيلكسون توماس ارنولد .. وهنا نذكر الأكثر شهرة، قد ذهب منذ زمن، كان الجيل الذي تلاهم وعلى رأسهم هملتون كيب ، ارثر اربري .. قد ذهب أيضا أو كاد. كان الآخيرون من هذه المجموعة قد غادروا نسبيا ذلك النمط الاستشراقي المغالط والمستفز للعرب والمسلمين، وبدأت صيغ جديدة من الطرح بلغة أكثر حيادية وصقلا، وغابت مفردات خشنة من الخطاب الاستشراقي،ولكن بحلول الستينات انتهى هذا الجيل..وربما أخر الكبار الذين كانوا قد بقوا منتغومري وات أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ادنبره الاسكتلندية، وأحد أخر المتبقين من الجيل الأقدم البروفيسور دوكلاس دنلوب وكانا أكثر حيادية وبحثا عن الحقيقة من جيل ولى كان يوما مستفزا متحيزا كالفرنسي لامانس والانكليزي مركوليوث . لقد قدر لي إن احضر بعض محضرات منتغومري وات في جامعة ادنبره قبل تقاعده، عندما كنت، قادرا، بسبب قرب المسافة النسبي بين جامعة سانت اندروز و ادنبره من القدوم كمستمع عند حدوث محاضرة عامة أو مشتركة بين الجامعتين. كان قد بقي مستشرقين ودارسين ممتازين آخرين ولكن ليس بشهرة من ذكرته ك جون ماتوك في جامعة كلاكسكو و ركس سميث في جامعة درهام وكذلك بيتر سلكليت في نفس الجامعة، والذي تخصص في دراسة تاريخ العراق الحديث، والمعروف بميوله اليسارية والذي كان صاحب مجموعة دراسات ومقالات لا تخلو من لغة عدائية تجاه نظام الحكم العراقي آنذاك. كان هناك أيضا بعض الأساتذة العرب ممن احتلوا مقاعد تدريسية في بريطانيا، وخاصة من الفلسطينيين والمصريين، مثل وليد عرفات في جامعة لانكستر الذي اثأر على نفسه عاصفة أنهكته ضراوتها عندما كتب بحثا يشكك فيه في رواية مصير يهود بني قريضة ، كذلك كان عبد الحي شعبان في جامعة اكستر والدباغ في درهام وعباس كليدار في جامعة لندن ..وبعض هؤلاء لم يكن على نفس الدرجة من حيث علاقته بأقرانه من المستشرقين البريطانيين. ولي مشاهدات على ذلك، وليد مثلا كان البعض يمتعض من مجرد ذكر أسمه، شعبان وده بعض المستشرقين الشباب وأعانوا في إعداد فهارس كتبه، مثل هيو كندي الذي هو في أيامنا هذه احد اكبر المستشرقين البريطانيين ومؤرخيهم، ويعمل في مدرسة الدراسات الشرقية في جامعة لندن بعد ان أمضى مدة طويلة من حياته العملية في قسم تاريخ العصور الوسطى في جامعة سانت اندروز . وزميلة كمبر الذي عمل ايضا،مثل كندي مدة طويلة في سانت اندروز في قسم الدراسات العربية والشرقية ، وكندي كان رجلا لا يجد غضاضه في خلق صداقة مع الدارسين العرب والتفاعل مع حياتهم السياسية وتاريخهم بايجابية، وهو الشيء الذي لا يجيده أكثر المستشرقين. المشكلة الأكبر هي في جامعة لندن وبالذات في مدرسة الدراسات الشرقية فمنذ إن غادرها جيل توماس ارنولد وهاملتن كيب وربما امدروز ، لم يستقر فيها مشاهير المستشرقين، باستثناء كاون و هولت وكان وسط السبعينات ربما الأكثر شهرة في التاريخ الإسلامي وخاصة مصر المملوكية وسودان المهدي.. ولكن كان هناك البروفيسور المثير للجدل الذي لا ينقطع، حتى اليوم، حول بحوثه وكتبه ومحاضراته وتلميحاته برنارد لويس . وقتها كان برنارد لويس قد غادر للتو عام 1976 إلى أمريكا بعد سنوات طويلة من العمل في جامعة لندن،و كان قد اشرف على دراسة العديد من الدارسين من العرب والعراقيين واذكر من العراقيين الدكتور عبد المنعم رشاد والدكتور فاروق عمر فوزي والدكتور عبد الجبار ناجي والدكتور عبد الامير دكسن والدكتور حسام قوام الدين السامرائي.. وكان انتقاله موضوع الساعة بين طلبة مدرسة الدراسات الشرقية في لندن. وقد تجاوز عمرة التسعين اليوم. وبحكم نقاشاتنا وحوارنا المستمر مع الدكتور عبد المنعم رشاد حوله وحول غيره من المستشرقين.
المستشرقون البريطانيون وقعوا في أخطاء كثيرة في دراستهم للإسلام،ولكن منهم من قدم خدمات جلى وكان منطقيا علميا، أسهم في تحقيق التراث كامدروز و ادوارد لين وبرتن وحتى ليونز و جاكسن وبعضهم كان رائدا في مواضيع تلقفها الدارسون العرب والمسلمين وطوروها كما هو الحال مع رينولد نيكلسن و جورج هنري فارمر و هملتون كيب و منتغومري وات . وفي الوقت الذي كاد الاستشراق القديم أن يحتضر، بعد ذهاب من ذكرناهم، وان تتوقف أنفاسه، عاجله المفكر العربي الأصل المسيحي الارثوكسي العقيدة، البنيوي المنهج ادوارد سعيد بضربة قاضية عندما اصدر كتابه الشهير الاستشراق بحدود سنة 1978..كل ذلك في نفس الوقت الذي ظهرت فيه أسماء جديدة مثل باتريشا كرونا وزميلها مايكل كوك والذين تتلمذا على كل من لويس والمستشرق الامريكي الوافد الى جامعة لندن انذاك جون ونزبره .
جهود استشراقية
كان الطلبة العرب وقتها في جدل مستمر حول شخصية كل من لويس وونزبره ومواقفهم السلبية من التاريخ العربي الإسلامي وسرعان ما ازداد الجدل في نفس ألسنه 1977 عندما صدر الكتاب الذي احدث رد فعل سلبي في أوساط الدارسين والأكاديميين العرب والمسلمين وحتى كثير من المستشرقين في بريطانيا وهو كتاب الهاجرية الهاكريزم الذي إلفه كل من بتريشيا كرونا و مايكل كوك برعاية لويس وونزيره. وقد قدم وقتها الكتاب فرضية متعسفة مختصرها الشديد انه لا يجب التعويل على المصادر العربية الإسلامية المبكرة في دراسة نشأة وتكوين الإسلام وتاريخه لانها من وجهة نظر المؤلفين تمثل زاوية رؤية إسلامية محابية لذاتها.. لذا فالأصدق عندهما هو دراسة الإسلام المبكر من خلال المصادر العبرانية والسريانية والارامية فهي معاصرة ومحايدة ، من وجهة نظرهم. وهي في مجموعها لاتتجاوز الجمل القليلة الغامضة لغة، والمعبرة عن قصص ساذجة ينتاب لغته أكثرها الغموض، وتقبل التأويل. وبالتالي خرجا بنتائج كما اشتهيا لها إن تكون.. وسرعان ما راج الكتاب ودخل في تكوين المناهج والكتب في الجامعات..وشغل الأمر الطلبة المسلمين وقتها، ومما يشهد له إن من أهم المستشرقين الذين تصدوا للكتاب وقتها وتابعوه نقدا بشغف، البروفيسور سارجنت من كامبرج، والذي أظنه دفع ثمن مواجهته تجاهلا وإغفالا.. وربما حتى إحالة إلى التقاعد مبكرا. هذا الاتجاه، رغم إن كوك لا يبدو انه استمر فيه بنفس الحماس، تبنته ورعته كرونا ولا تزال،حتى اليوم، وكلاهما حظيا برعاية لويس وأظنه أسهم في إمكانية انتقالهما إلى جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة حيث الاثنان هناك باتريشيا كرونا لازالت تروج لاستبعاد المصادر العربية الإسلامية والى رفض كل مسلماتها وقلب كل الرؤى التي يمكن إن تستخرج منها بزعم التنقيحية في مواجهة التقليدية ورغم إن البعض، من الجيل الذي زامنها او الذي تلاها، بحكم التاثر بها نتيجة الترويج لنظرية كرونا سار على خطاها لكنه اجتهد فصحح او حاول التراجع نسبيا كالبروفيسور الامريكي الفريد دونر صاحب الفتوحات العربية الإسلامية فان باتريشيا لا تزال وحتى قبل أيام تهاجم دونر بلغة خشنة فيها من لكنة الارهاب عبر الانترنت والفيسبوك وتحاول إن تسقط عنه ميزة كونه تنقيحي وتهدد باحتسابه تقليدي رجعي
ظهرت في ثقافتنا العربية المعاصرة العديد من التيارات الفكرية من بينها تيار الثقافة المستعاد من الثقافة العربية الإسلامية عن طريق النقل وتيار الثقافة المستعارة من الثقافة الغربية التي أتتنا نتيجة الهيمنة الغربية وتيار الثقافة المستفاد وهي تدعو إلى التناقح بين الثقافة العربية الإسلامية مع الحضارات الأخرى هل يمكن إن نسقط هذه المفاهيم نفسها على دراستنا للتاريخ؟ وما هو اثر ثورة المعلومات على فهمنا للتاريخ؟
مشيئة
اولا، انا من المؤمنين قطعا بان التاريخ تحكمه مشيأة الله سبحانه وتعالى، فما نذكره من تفسير او تأويل للتاريخ، لايعني التجاوز على ذلك الايمان او سؤء فهمه، ولكنما المعني بذلك عندنا هو الاجتهاد في تفسير وشرح اليات حدوث الحدث التاريخي، واسباب حدوث الاحداث واعمال البشر من سياسات ومنجزات، كما تبدو للمعاين لها وبقناعة جازمة انها محكومة بالمشيئة الالهية. ولا شك إن علم التاريخ كأي حقل معرفي تتغير أساليب البحث فيه وتتنوع مناهج التناول والتفسير، بالإضافة إلى تجدد فلسفات التأويل التي تؤطر لفهم مساراته وسبل سيرورته. وهو يخضع في تجدد عروضه او تقديمه الى الجمهور إلى الجهد الذاتي النابع من دراسته كحقل معرفي ذو إمكانيات حفز منهجي توفره تجارب بشرية متواشجة، أو، من خلال الاستعارة لمفاهيم منطقية ومعارف قياسية ومناهج يحثية من حقول المعرفة المنوعة المجاورة لعلم التاريخ، فترفده بالمتجدد من سبلها وفلسفاتها ومناهجها وطرئقها في التحليل. التفاسير القديمة، ومنها ما افرزته ايديولوجيات وضعية، قد انجزات،بنسب متفاوتة القيمة المعرفية، انجازات مهمة لفهم حركة التاريخ وما تزال تقدم بهذا الخصوص فرص فهم فلسفي لحركة التاريخ رغم ضمور النزوع الإيديولوجي الوضعي وحلول فرص التطبيق العلمي التجريبي بدل الايديولوجي النظري. ان طرائقا تاؤيلة جديدة على مستوى فهم النصوص التاريخية الموروثة قد تطورت. التناول الفقه اللغوي، التناول السميائي، والنهج البنيوي ثم التفكيكي أنتجت ثمارا مثيرة أثرت الذخيرة التاؤيلة للنص التاريخي الموروث ووسعت افاق المعرفة نتيجة ذلك بالماضي.، زاد فهم شخصية المؤرخ ودوافعه ورؤاه وانتماءاته وولااته، وكذلك سايكلوجية الراوي والرواية، ثم القاري كمتلقي ومكانه من النص.
وعلى مستوى تنامي المعرفة البايولوجية، وسبر اعماق البنى المعقدة للجينات، وتحليل دي ان اي الخلايا، كلها وفرت سبلا جديدة لفهم اوسع للحياة، وفيما يخص علم التاريخ والاثار، طالت الرمم القديمة والبقايا البايولوجية المدفونة للانسان، فحلت الغاز موت بعض المشاهير او الجموع..وبينت اوجه اجرام خافية وأدركت صلات قرابة غائبة من حساب المؤرخين.. لقد وظفت هكذا معارف لتحقيق اكتشافات تاريخية ولتحقيق علم بالماضي ظن المؤرخون يوما استحالة استحضاره..مما اتاح الفرص لقراءات جديدة لسجلات كانت طي الأثير.
تطور المعرفة بالفيزياء وتضخم حجم التطبيقات العملية لإمكانات المعرفة الفيزياوية..غير مقاييس العلماء التقليدية، رافقه تطور علم الضوء والبصريات..وإنتاج عدسات هائلة الإمكانية..ومن ثم كاميرات فائقة القدرة على التصوير المتباطئ والمتعاجل بتفاوتات سُرَعيّة تحسب بأجزاء أجزاء الثانية..وفر فرص رصد ومراقبة وإدراك لم تتح للبشرية من قبل.
اتساع طاقات الحواسيب، ونمو إمكانيتها التحليلية الكمية، والتطبيقات الافتراضية.إمكانية توفير نصوص بالملايين في خزائن افتراضية،و نقلها عبر المكان بأسرع من إحساس الإنسان بالزمان فعلى مستوى توفر المادة الخام للدراسة التاريخية،من وثائق وصور ومراجع، وحتى إمكانية أجراء حوارات عير شبكة الانترنيت فان التكنولوجية الحديثة لما بعد التسعينات قدمت إمكانيات لم يكن الباحثون ليحلموا بها، فالمكتبات الافتراضية والاراشيف، وقواعد المعلومات الهائلة،وخزانات الكتب النادرة الهائلة العدد المخزنة الكترونيا جاهزة اونلاين، زائدا الألبومات الخرافية في إحجامها للصور الشخصية الخاصة والرسمية وللأحداث الجماعية، والفيديوهات والأفلام القديمة والبالغة الحداثة لشتى الامور توفرت كما لم يحلم احد ان تتوفر للاستخدام الخاص والعام بالسهولة الموجودة اليوم… كلها لم تكن أساسا ليتخيل مؤرخ الأمس انه يستطيع إن يحصل على بعضها.. مصادر أو مراجع، مثل مقالات صدرت قبل خمسين سنة في بلد أخر كانت تتطلب سفرا مضنيا لمراجعتها، اليوم توفرت بواسطة أجهزة المسح والإرسال عبر البريد الالكتروني أو عبر وسائط المكتبات الافتراضية في ثواني . اذكر إن بعض البحوث التي رصدتها إثناء دراستي في بريطانيا في الثمانينات بقيت أسعى للحصول عليها عبر أصدقاء أو مؤسسات علمية لسنوات دون جدوى، توفرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في ثواني عبر المكتبة الافتراضية كال جي ستور ..زائدا إمكانية تقديم مرتسمات كاملة افتراضية ثلاثية الابعاد لأبنية او منشاءات لم يتبق منها سوى فتات أضراسها وإتاحة الإحساس بوجودها فيزياويا.. كلها غيرت من إمكانيات ومستوى النتائج العملية للبحث العلمي بعامة، والتاريخي منها بشكل خاص. في حال اجتماع كل أو بعض المتاحات العلمية والتقنية المتطورة أعلاه إلى بعضها يمكن تقديم التاريخ وإيضاحه وتفسيره وإدراكه كما لم يتصور المؤرخ مهما كلن حالما يوما فيما مضى..صارت الأفلام الوثائقية المصورة بأعظم دقة وتقنية نتيجة التطور التقني تقدم أفلاما في ساعة او ساعتين عن موضوع تاريخي لم تكن عشرات المجلدات التي تستغرق مئات ساعات القراءة ان تقدمه، وأحسن مثال نظرية المؤرخ والجغرافي الأمريكي المعاصر الكبير جارد دياموند عن نشأة وتطور وانهيار المجتمعات في مجلدين ضخمين قدمت في فيلمين وثائقيين من ساعتين بإيضاح ودقة أكثر مما استطاعه المجلدون… بقدر تعلق الأمر بالمؤرخين فان إمكانيات السبر والتأويل والإلمام وتوفر الخبرات وفرص التثبت من احتمالات الحدس، كلها نمت واتسعت، واتضحت تفاصيل خافية التعقيد، وبالتالي تناغمت ثمار البحث. كل ذلك جعل دراسة التاريخ أكثر تعقيدا وتنوعا ولكن أوفر حصيلة وأوضح عرضا وإفهاما..
*https://www.azzaman.com/archives/35080
24-5-2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق