الخميس، 17 نوفمبر 2022

التربية والتعليم في العراق ..البواكير والمسارات والنتائج ....................ا.د. ابراهيم خليل العلاف

                                                           الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف
 


التربية والتعليم في العراق ..البواكير والمسارات والنتائج

ا.د. ابراهيم خليل العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

أولا ، اتمنى لتجمعكم العلمي هذا ، التوفيق ، وانتم تتصدون لموضوع مهم نحن اليوم بأمس الحاجة الى الوقوف عنده وكل الامم عندما تواجه حروبا وغزوات وحصارات تبدأ بإعادة صياغة منظومة التربية والتعليم فيها ؛ فالتربية والتعليم اساس متين للبناء السياسي ، والاقتصادي ، والاجتماعي ، والعلمي ، وركيزة قوية  للتقدم نحو المستقبل ، بخطوات علمية ، واثقة ، ولازلت اتذكر ما كتبه الكاتب البريطاني  السير ريتشارد نافجستون  في اعقاب الحرب العالمية الثانية في كتابه الشهير ( التربية لعالم حائر ) ، كما لازلت اتذكر ما فعله الاميركان عندما وجدوا تميز طلبة يابانيين على طلبة امريكيين في الرياضيات فألفوا لجنة من الكونكرس اصدرت تقريرها  المعروف  :  (   أُمة في خطر)  .

على كل حال ، فان العراق بولاياته العثمانية الثلاث الموصل وبغداد والبصرة وكان يسمى  في الادبيات والمدونات الرسمية العثمانية (الخطة العراقية) شهد دخول التعليم الرسمي الحديث مع تولي الوالي المصلح المتنور مدحت باشا لولاية بغداد 1869-1872  ففي عهده عرفت الولايات العراقية المدارس بصيغتها الحديثة الرسمية وعلى النمط الغربي الذي يختلف عن النمط الديني وعندما تأسست المدرسة الحديثة وفيها جدول أسبوعي  ومنهج وكتب مقررة واوقات محددة اخرج التعليم في العراق من قبضة رجال الدين وابتدأ مدحت باشا بمدارس الصبيان اي المدارس الابتدائية ثم  المدارس الرشدية اي المدارس المتوسطة وبعدها المدرسة الاعدادية ( اعدادي مكتبي ) .وعين لها المدراء والمعلمين والمرشدين والمرشد كان يسمى (المبصر) ولكن بالرغم من كل مابذل فنسبة المتعلمين العراقيين عندما انتهت الحرب العالمية الاولى لم تزد على ال (1% ) .  وكان التعليم باللغة التركية  واستمر هذا حتى سنة 1913 عندما تعاظم الوعي القومي العربي وابتدأت المطالبات بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية على الاقل في المدارس الابتدائية .

في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1918  اصبح العراق في تشكيلاته الادارية ( الوية  ) والالوية تتكون من اقضية ومن نواح وقرى واهتم  المحتلون الانكليز بالتعليم   بقدر ما يلبي احتياجات دوائرهم ، وكثر عدد المدارس في العراق وظهرت الحاجة الى المعلمين فتم تلبية الطلب عن طريقين اما من خلال فتح دور ومعاهد للمعلمين ، او من خلال استقدام المعلمين والمعلمات من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين وحتى من تونس وهكذا سار النظام التعليمي في العراق خلال عهد الاحتلال  1914-1920 مع ملاحظة ان سلطات الاحتلال عمدت الى ما يمكننا تسميته ب( نكلزة ) الادارة التعليمية وذلك باستخدام عدد كبير من الموظفين الانكليز في الادارة التعليمية امثال (هنري بومان) و( الكابتن جيروم فارل ) و(سميث ) و(رايلي ) و(ماكرك ) و(كلين ) و(بيز) وغيرهم .كما سعت هذه السلطات الى نشر اللغة الانكليزية والتأكيد عليها ودفع التلاميذ العراقيين الى تعلمها  وللأسف حاولوا ايضا تشجيع مدارس الطوائف الدينية الاهلية  التي تعود للطوائف المختلفة ، ولم تهتم كثيرا بالتعليم الثانوي والتعليم العالي وطبعا كانت تظن ان الاهتمام  بهذين النوعين من التعليم يخلق طبقة مثقفة واعية هذا فضلا عن تقتيرها الشديد في الصرف على المدارس واخيرا العمل على عدم تنامي فكرتي الوطن والوطنية .

لكن كل ذلك تغير بعد الثورة العراقية الكبرى ثورة العشرين 1920 التي اجبرت السلطات المحتلة الى تغيير سياستها والسعي باتجاه اقامة دولة عراقية يحكمها العراقيون وفي 21 من اب سنة 1921 توج الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق واستمر الملك فيصل ينهض بالتعليم ويهتم به ويزور المدارس وكان يأخذ  ويطالب من السلطات الانكليزية التي تحولت الى ما يسمى نظام الانتداب  واعتبر الملك فيصل الاول 1921-1933 التعليم الركيزة الاساسية للتقدم والبناء تقدم العراق وبناء دولته الحديثة وكان سعيه هذا قد نجح في ادخال العراق عصبة الامم دولة مستقلة في الثالث من تشرين الاول سنة 1932 وفي كل سنوات حكمه اتسعت دائرة الاهتمام بالتعليم الابتدائي والتعليم المتوسط والتعليم الثانوي والتعليم المهني واهتم بتعليم البنات واصبحت الفتاة العراقية تدرس كما يدرس اخيها الفتى العراقي وقد كان لمدير المعارف العام المربي والمفكر العربي القومي الاستاذ ساطع الحصري دور كبير في تأسيس قاعدة التعليم المدني في العراق .

كما ظهرت في عهد الملك فيصل الاول الرغبة في فتح مؤسسات للتعليم العالي الجامعي فتأسست الى جانب كلية الحقوق والتي تعود في تأسيسها الى سنة 1908 اي في العهد العثماني (دار المعلمين العالية ) سنة 1923 ووريثتها اليوم كلية التربية ابن رشد بجامعة بغداد كما تأسست  ( الكلية الطبية الملكية ) سنة 1927 فضلا عن معاهد للزراعة والهندسة وغير ذلك. وقد حرص الملك فيصل الاول على الاستفادة من الخبرات الاجنبية لترقية التعليم فاستقدم لجنة تسمى (لجنة مونرو) من جامعة  كاليفورنيا وعقد ايضا المؤتمر التربوي الاول سنة 1932 وتم ايضا الافادة من بعض الخبراء لدراسة امكانية فتح جامعة في بغداد وتحقق ذلك سنة 19657-1958 وكان الدكتور متي عقراوي  اول رئيس لجامعة بغداد .

خلال الثلاثينات من القرن الماضي شهد العالم والعراق من ضمنه احداثا خطيرة وكان انقلاب بكر صدقي في العراق سنة 1936 وتدخل الجيش في السياسة وتنامي التيار القومي وانعكس ذلك على التعليم فظهرت منظمات الفتوة وكتائب الشباب وانتهى الامر بالصدام بين الجيش العراقي الفتي والقوات البريطانية الغازية التي تقدمت من البصرة واعادت احتلال العراق لقمع الحركة التحررية في نيسان – ايار 1941 والمعروفة عند الناس بحركة رشيد عالي الكيلاني  .واحتلت القوات البريطانية العراق ثانية 1941 وعدوا ساطع الحصري مسؤولا عن تربية جيل يكره الانكليز لذلك اسقطت عنه الجنسية العراقية مع عدد من المدرسين العرب وتم استقدام مستشارين تربويين انكليز بهدف اعادة صياغة التربية والتعليم في العراق وفق ما كان يريده الانكليز والسلطة الملكية القائمة  .وقد تعاظمت المقاومة الشعبية وكان الطلبة نقطة الارتكاز في هذه المقاومة وانتهى الامر بوقوع ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي بعد التعاون بين جبهة الاتحاد الوطني من جهة وتنظيم الضباط الاحرار من جهة اخرى .

اهتمت قيادة ثورة 14 تموز 1958 بالتربية والتعليم ووسعته واعتمدت مبدأ ديموقراطية ومجانية التعليم فكثرت المدارس وازداد الاقبال على التعليم  وازدهرت جامعة بغداد ونمت وتطورت  وشرع قانون جديد لها سنة 1958 واستقبلت اعدادا من الطلبة في كلياتها التي وصل عددها الى (12) كلية وثلاثة معاهد واعطت قيادة الثورة للتعليم وللتعليم العالي الاسبقية في مشاريعها فعلى صعيد ابنية جامعة بغداد اختير المعمار العالمي المعروف ( الاستاذ والتر كروبيوس)  بوضع تصاميم ابنية جامعة بغداد واستمر العمل بالاستفادة من الخبراء والاساتذة الاجانب بذات الاتجاه الذي كان في العهد الملكي من اجل التقدم والتطوير واستقطبت جامعة بغداد خلال سنة 1961 مثلا (657) طالبا وطالبة من مختلف انحاء العالم يدرسون فيها هذا فضلا عن انني وكنت طالبا فيها خلال تلك السنوات ارى العديد من الاساتذة العرب والاجانب يدرسون فيها وحتى في قسمي الذي انتسب اليه وهو قسم التاريخ .

لا أريد ان أُثقل عليكم بتفاصيل الاعداد والارقام  ، وكلها موجودة ومتوفرة ومتاحة .. لكن اقول ان مسيرة التربية والتعليم خلال السنوات من 1958 الى سنة 1980 كانت مسيرة مُشرفة من حيث الكم والنوع من حيث الشكل والمضمون  وابلغ مثال على ذلك تهنئة  منظمة اليونسكو للعراق في سنة 1979  بمناسبة خلوه من الامية  ومنحته خمسة جوائز مكافأة له على  ما قدمه في مجال محو الامية .

 وكان المعلمون والمدرسون والاساتذة كانوا على مستوى  متقدم من الوعي ، والمهنية ، والوطنية ، وكان الجميع يدرك خطورة الدور الذي يلعبه جهاز التربية والتعليم والمتمثل بما ينشره من افكار وثقافات بين صفوف النشء والشبيبة وبما يقوم عليه من خطط وبرامج ويحققه من مستوى علمي له اثره في تحديد مستقبل البلد .

قد يسألني سائل ولماذا توقفت بنا عند سنة 1980 ؟  واقول نعم سنة 1980 هي بداية نشوب الحرب العراقية – الايرانية  والتي استمرت ثمان سنوات من 1980 الى 1988 هذه الحرب ، استنزفت الكثير من امكانيات العراق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وانعكس ذلك على مستوى التعليم بكافة ضروبه ، واعقبت الحرب هذه حرب اخرى وحرب تلد اخرى جاءت حرب الكويت 1990 ، وجاء الحصار  ووصل التعليم في العراق الى وضع لا يحسد عليه ، ثم جاء الاحتلال الأمريكي 2003  وما لحق به من احداث اضرت بالتعليم وبالتعليم العالي وبالتعليم المهني في العراق .

كثيرا مما يتطلب منا الوقوف طويلا عند هذه المشكلة التي تناقشونها اليوم في مركزكم العامر لتجدوا لها حلولا واقول   :    (العراق في خطر ) طالما التعليم في خطر ، والتعليم هو المستقبل ولكن هل نركن الى هذا ونتوقف طبعا لا  ...من واجبنا ان نحدد سبب تدني مستوى التعليم وما هي المعالجات ؟

بدون الدخول في التفاصيل مما لا يسمح به الوقت ، اقول ان لتدني التعليم في العراق اسباب منها  انه لم ينل ما يستحقه من اهتمام منذ 1980 وحتى اليوم فما يخصص للقوات الامنية اكبر بكثير مما يخصص للتعليم .كما ان  جهاز التربية والتعليم والتعليم العالي وخاصة بعد 2003 افتقر الى فلسفة اجتماعية وسياسية يستند اليها  ويقينا ان هذا كان سببا في فشل الجهاز الاداري الذي يقود وزارة التربية وحتى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في رسم سياسة تعليمية وتربوية واضحة المعالم .ولا اريد ان ادخل في تفاصيل هذه النقطة لكن اقول ظهرت محاولات لإعادة بناء التعليم العالي والبحث العلمي قبل بضع  سنوات وضمن ستراتيجية حددتها اليونسكو وحضرت انا وعدد من زملائي مبعوثين من وزارتنا ندوة في بيروت وناقشنا خططا كفيلة بتطوير التعليم العالي والبحث العلمي باتباع اساليب البحث والابتكار ووضعت الدراسة على الرف للأسف الشديد .

ايضا من اسباب التدني هو الوضع الامني ، وعدم الاستقرار وكذلك الوضع الاقتصادي والبطالة والفقر ونسبه المرتفعة .

ما الحل ؟ الحل في رأيي ورأي الكثيرين من المختصين وببساطة شديدة هو ان تكون للدولة ستراتيجية تعليمية وتربوية واضحة المعالم .ما هي الاهداف التي نبتغيها من التعليم ؟ما هي المنطلقات الخاصة التي نريد اعتمادها للنهوض بالتربية والتعليم ؟ هل للدولة سياسة عامة وفلسفة اجتماعية تريد ان تنعكس على التربية والتعليم ؟

طبعا ثمة مسألة مهمة اريد ان اقولها وهي ان العراق بحاجة الى الاستقرار بحاجة الى الامن بحاجة الى التصالح بحاجة الى الوحدة بحاجة الى ان تتكاتف الايدي من اجل ان نعيد للعراق بهاؤه وقوته وعنفوانه وشبابه والتربية والتعليم هما من عناصر هذه الاعادة .

النقطة المهمة الاخرى هي اننا للأسف لم نعتد على معالجة مشكلاتنا بشمولية وتوسع فتجزئة المشاكل ليست طريقا صحيحا ولابد ان نعالج الوضع الاقتصادي ليتحسن الوضع الاجتماعي ونعالج الوضع الاجتماعي ليتحسن الوضع الثقافي وهكذا فثمة ارتباط بين البنى التحتية والبنى الفوقية فما نحدثه من تطور في البنى التحتية سوف ينعكس بالضرورة على البنى الفوقية من تعليم وادب وفكر وفنون .

وعليه لابد ان تتشكل لجنة عليا من قبل رئاسة مجلس الوزراء لوضع فلسفة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية للدولة واضحة المعالم وان تتولى هذه  اللجنة  دراسة اوضاع التعليم بكافة مستوياته من رياض الاطفال  الى الدراسات العليا والبحث في مشكلاته وترسخ اسسه والافادة من الخبراء الاجانب من خلال استقدامهم واستشارتهم فالتعليم في العالم قد تغير اليوم هناك اساليب في التعليم والامتحانات عديدة ونحن لانزال عند الاساليب التقليدية .

هذه اللجنة ينبغي لها ان تدرس اسس وتاريخ مسيرة التعليم  في العراق منذ اواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم وان تعقد ندوات وحلقات نقاشية في كل المحافظات وفي بغداد وتستنير بالأساتذة المختصين والتربويين خاصة وتعمل على وضع الحلول لإقالة التعليم في العراق من عثراته وتوجيهه اي توجيه التعليم وربطه بخطط للتنمية المستدامة على مستوى العراق كله وبما يضمن توفير القوى البشرية الفاعلة والمؤهلة حقيقة لكي تلبي احتياجات المجتمع لا ان تقذف لنا سنويا بالألاف من المتخرجين الذين لا يجدون لهم فرصة في سوق العمل .

اتمنى لمؤتمركم التوفيق والنجاح.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...