تقديم الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل لكتاب الاستاذ الدكتور حامد محمد السويداني الموسوم : (البراغماتية التركية)
ويقينا ، ومؤكدا ، أنني سعيد بما طلبه مني أخي ، وصديقي ، وزميلي ، وتلميذي القديم الأخ الأستاذ الدكتور حامد محمد السويداني رئيس قسم التاريخ بكلية التربية للعلوم الإنسانية سابقا ، والمؤرخ المعروف المتخصص بتاريخ تركيا الحديث والمعاصر ، وهو أن اكتب تقديما لكتابه الجديد ، وقال انه ينتمي الى مدرستي ومدرستي هي (المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ) ، وانا من جيلها الثاني ، ومن اهم خصائصها الموضوعية ، والتهميش ، والتنصيص ، والعودة الى الأصول والجذور، وعدم تبني تفسير أُحادي ، وانما الاخذ بتعدد التفسيرات لهذا ؛ فهي رصينة ، وقوية ، ومعتمدة .
وقد أُعجبتْ بعنوان الكتاب الذي أقدم له، وهو (البراغماتية التركية)، والكتاب بالأصل مجموعة من مقالات كتبها في موقعه الفرعي بموقع (الحوار المتمدن) الالكتروني وهذا شيء جميل، وهو ان تجمع ما تنشره من مقالات ينتظمها خيط فكري واحد في كتاب لتعم الفائدة، فبورك وبورك جهده .
والبراغماتية او البراجماتية ، او البراكماتية سبق لي ان كتبت عنها وقلت :" وانا اصدر كتابي الموسوم ( محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر ) عن دار قناديل للنشر والتوزيع في بغداد 2022 ، كان عليّ ان أقف عند ( البراكماتية او البراجماتية او البراغماتية ) ، كما تكتب عندنا في الوطن العربي .
وقد سألني احدهم مرة ، عن ماهية الفلسفة البراكماتية The Pragmatism ؛ فقلت سأكتب لك عنها مقالا مختصرا لكن اسارع للقول ان من اسس هذه الفلسفة ثلاثة ، اولهم ورائدهم هو جارلس ساندرز بيرس 1839-1914 ، وثانيهما وليم جيمس 1842-1910 ، وثالثهم جون ديوي1859- 1952 .
وملخص كلمة (البراغماتية) وتترجم احيانا ( الذرائعية) ، هو :" أن أي فكرة لا قيمة لها الا اذا كانت قابلة للتطبيق" ، يعني الفكرة ، ومعناها لا يكون تاما ، الا اذا اثرت في حياتنا العامة ؛ فالفكرة لابد ان تقود الى العمل ، والعمل المنتج الفعال المهم . وقد اشار الدكتور قيس هادي احمد استاذ الفلسفة الغربية في جامعة بفداد الى ذلك في مقالة له عن (تشارلس بيرس والفلسفة البرغماتية ) منشورة في مجلة ( آفاق عربية) العراقية عدد تشرين الثاني 1985 ويمكن الرجوع اليها وقال ان بيرس اول من ادخل كلمة (البراغماتية) ، وقد كتب ( بيرس ) في مجالات عديدة كان المحور الاساسي لجميع كتاباته هو ان جميع افكارنا ومعتقداتنا ان هي الا قواعد للعمل والسلوك اليومي ، والفكرة ماهي الا مشروع ، أو خطة للعمل قابلة للتطبيق المفيد ، وان لم تطبق وتفيد لا قيمة لها .
وقد انبثقت عن هذه الفكرة ، (الفلسفة البراغماتية) ، التي لا تعترف بالتأمل ، بل بالعمل الذي يقود الى تحقيق الفائدة والنتائج العملية ، والفائدة والمصلحة المباشرة هي المعايير الوحيدة للحقيقة .
وقد ارتبطت البراغماتية ، بالاتجاه العلمي والاتجاه العملي التجريبي ؛ بمعنى ان البراغماتية تسلك سلوك العلم ، وسلوك العمل والتطبيق . وقد خطا (وليم جيمس ) خطوات اوسع حين اضاف الى العلم والعمل العقائد فالعقائد حقائق لأنها ترضي رغبات وطموحات وحاجات الانسان وديوي فعّل الفكرة وجعلها اداة لخدمة الحياة وتنميتها عمليا وكذلك ادخل وليم جيمس تعديلات على فلسفة بيرس فبعد ان كانت الفكرة عند بيرس خطوة تمهيدية للعمل ولأحداث النتائج على ارض الواقع ادخل وليم جيمس العقائد ايضا كحقائق عملية .
اما جون ديوي فقد جاء بالآلية التي نظرت الى (العقل) على انه ( اداة) لخدمة الحياة وتيسير عيشها والتعامل معها وتطويرها .
ونسأل من كان وراء تطور الغرب ، وزيادة قدرته على مواجهة الحياة ، والتجديد فنُجيب انها البراغماتية التي تؤكد ان الغاية تبرر الواسطة ، بمعنى انكَ لكي تنجح لابد ان تسلك كل الطرق العملية للوصول الى هدفك ، ومتى وضعت الافكار (النظرية او المثالية) نصب عينيك ، فلن تنجح لأنك سوف تفتقد العمل الجاد والفعال ؛ فالعمل هو (داينمو) الحياة ومحركها الى الامام ، وحيث تكمن مصلحتك وفائدتك يكمن نجاحك .
الأخ الأستاذ الدكتور حامد محمد السويداني يقول في كتابه هذا – وهو يبرر سبب إعطاء الكتاب هذا العنوان:" أن العديد من المؤلفين يهاجمون البرغماتية ، بكونها وليدة الظروف الامريكية ، وانها تدفع النظام الرأسمالي دفعا، لذلك لم تعد لها ذلك التأثير القوي من السنوات الخمسين حتى في الأوساط الامريكية ذاتها. واذا كان للبرغماتية بعض المزايا، فأنها بشكل عام تتنافى مع الفكر الثوري أما فيما يخص تركيا التي تأست سنة ١٩٢٣ على يد مصطفى كمال اتاتورك، والتي أخذت تقلد الحضارة الأوربية بشكل كامل واجراءات مصطفى كمال في تغريب وتحديث ترکیا نحو النمط الأوربي فقد شمل هذا التغريب السياسة والاقتصاد والاجتماع والادب والثقافة وحتى الموسيقى التركية الشرقية. وهنا لابد ان نؤكد بأن
تركيا أخذت بمفهوم البرغماتية لكن المؤلف عدها براغماتية سلبية كان وما زال هدفها، هو ممارسة هذه السياسة بفعالية تحقيقا لمصالحها بالدرجة الأولى واحيانا دون مراعاة مصالح الاخرين.
ونحن ليس بمعرض نقد البرغماتية التركية ولكننا كأمة عربية، علينا ان نفهم السياسة التركية لان تركيا دولة جارة للعرب، ودولة مسلمة ايضا ، ولدينا إرث ،وتاريخ مشترك معها فعلينا أن نعي كيف يفكر السياسيون الاتراك في التعامل مع العرب.
ويضيف :" أود القول ان استيراد أي فلسفة او اسلوب من منشأ غربي وتطبيقه في الدول الاسلامية فهو يكون على حساب الكثير من المبادئ فالقيم والاخلاق العربية والاخلاقية وهذا ما وقعت به تركيا من أزمات الهوية واحلام الانضمام الى الاتحاد الأوربي لأنها بنيت (البرغماتية المتوحشة) مع العلم كل الدول تمارس هذه الفلسفة ولكن بصورة أخف من تركيا . ومع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة في تركيا سنة 2002 المدعوم امريكيا باعتقادي وما قام به من سياسات على مدار 22 سنة وحتى هذه اللحظة خاصة تجاه الدول العربية لهذا السبب أطلقت على تركيا مصطلح (البرغماتية المتوحشة) ، لأنها سخرت انقى مفهوم لدى الانسانية جميعا الا وهو الدين الاسلامي الذي هو مقدس لدى كل الأمم والشعوب فقامت بأطلاق مصطلح (العثمانية الجديدة) لكسب عواطف العرب المسلمين هذا في وقد قامت بالتغلغل في الوطن العربي عن طريق الدين وشعارات الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك ولكن اشتغلت جراحات الوطن العربي عندما شهدت تغيرات في الانظمة السياسية او ما يسمى (الربيع العربي) فان السياسة التركية كانت تطبق الاستراتيجية الامريكية في الدول العربية يصوره متقنة واثارت النعرات الطائفية وخاصة الملف السوري والليبي وناصبت العداء لمصر ولاحقاً توترت علاقاتها مع بعض دول الخليج العربي مثل السعودية ، والامارات وكذا الحال ينطبق على العراق فقد تجاوزت على الحدود العراقية ، وأوكلت الولايات المتحدة الامريكية الى تركيا مهمة ادارة القواعد العسكرية الامريكية في شمال العراق ، وتحولت ادارتها الى حكومة تركيا ، ومن المعلوم أن الشعب التركي شعب مسلم يتمتع بأخلاق ، وعادات ، وثقافة عالية وليس له علاقة ممارسات بعض الانظمة السياسة ، فنحن هنا بمعرض نقد السياسة التركية، وليس الشعب التركي.
ويستشهد المؤلف ، وهو مصيب جدا ، بقول الزعيم العربي الكبير القائد الخالد جمال عبد الناصر ونصه :" مهما يكن الأمر بيننا وبين تركيا في الماضي أو الحاضر ، فهي منا ، ونحن منها كان أبونا وأبوها أخوين في التاريخ تشاركا في سراء الحياة وضرائها وتقلبا معا في نعمائها وفي بؤسها وحاربا جنبا إلى جنب في ميدان واحد قرونا عدة لنصرة المثل العليا وحين تألبت قوة البغي والعدوان لتزحزحنا عن مكاننا في التاريخ .. كانت تركيا هي الهدف الأول ، وكنا نحن من ورائها، ووطننا وطنها قطعتان من هذا الشرق العربي فهي دولة من آسيا ، وإن كان وجهها لأوربا، وقرأننا قرأنها واحد نزل به الوحي الأمين على محمد (ﷺ) في مكة والمدينة وفسره مفسره في بغداد والشام ومصر وكتبه كاتبه بقلم النسخ في استانبول وما يزال يتلوه بلساننا أو بلسان غير لساننا قراء مسلمون في أضنه ، وأنقرة وديار بكر وأزمير وقونية - ماضينا وماضيها فصلان من كتاب واحد في تاريخ الإسلام وحين وطئت أقدام الأتراك أرض أوربا لتقييم دولة عثمانية على أنقاض إمبراطورية قسطنطين كان شعار المحاربين من العرب والأتراك يومئذ واحد على كل لسان هو : (الله أكبر) يهتف به المصلون في أيا صوفيا ، فيتردد صداه على مآذن المسجد الأموي بدمشق والجامع الأزهر بالقاهرة وجامع الزيتونة في القيروان ومساجد أخرى في بغداد والكوفة وصنعاء وفاس وغرناطة. ونحن إلى كل ذلك أصهار ففي كل دار من دار العرب على اتساع بلادهم عربي يمت إلى الترك بخؤولة ، وفي كل دار من دور الترك برغم اعتزالهم في ديارهم تركي يمت إلى العرب بعمومة فقد اختلطنا نسبا وصهرا ومواريث ثابتة ومنقولة وإن قامت بيننا الحدود والسدود والأسلاك الشائكة، ونحن اليوم من تركيا كما كنا في الماضي أخوة مخلصين لأخت صالحة العرق والنسب ، وإذا سلمت تركيا سلمنا وإذا نحن كنا من القوة بحيث يحسب العدو حسابنا فقد سلمت تركيا فنحن لها الدرع الواقية وهي في موقعنا بإزاء العدو درع لنا الشعب التركي يؤمن بهذه الحقائق منذ كان فلم يكفر بها يوما" .
في الكتاب مباحث ، وفصول ، ومعالجات دارت حول موضوعات عديدة ، مهمة ، ومفيدة ، وممتعة منها ، الانتخابات التركية ٢٠٢٣ وانعكاساتها على العلاقات العربية التركية ، القواعد العسكرية التركية في الوطن العربي ، القصف التركي على شمال العراق ، ، تركيا والامارات: محاولات اردوغان انقاذ الاقتصاد التركي وفك العزلة التركية ، تركيا والسعودية : هل تعود العلاقات الى سابق عهدها؟ ، اردوغان واوهام الصعود إلى القمر نهاية 2023 ، أردوغان ونظرية المؤامرة: أزمة كافالا انموذجا ، أزمات تركيا المتكررة هل تؤدي الى ظهور الفيدرالية التركية ؟ ، ازمة كازاخستان وفشل مشروع (العالم التركي) ، تركيا ومخاوف محاولة التطبيع العربي الإسرائيلي ، اليسار التركي: هل يعود لحكم تركيا مجدداً الاقليات العرقية التركية خارج تركيا ؟ ، المرأة التركية ودورها السياسي والثقافي في تركيا ، الخطاب السياسي التركي بعد تولي جو بايدن الرئاسة الامريكية ، الموقف التركي من الازمة الاوكرانية وتأثيره على الداخل التركي وبوادر تشكل نظام القطبين، أزمة كورونا وأثرها على الاقتصاد التركي ، دور المؤرخين التركمان في كتابة تاريخ العراق الحديث والمعاصر ، ازمة التواجد التركي في شمال العراق واثره في العلاقات العراقية التركية ، تركيا ومخاوف محاولة التطبيع العربي الإسرائيلي ، اليسار التركي: هل يعود لحكم تركيا مجدداً الاقليات العرقية التركية خارج تركيا وغير ذلك من الموضوعات المهمة .
المؤلف اجتهد، وانا شخصيا قد أتفق معه ، أو اختلف في بعض ما قدمه، لكني أحترم اجتهاداته، وله فضل هذه الاجتهادات. تمنياتي له بالتوفيق والتقدم.
***************************************************************
*والكتاب صدر عن ( دار قناديل للنشر والتوزيع) ببغداد 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق