الجمعة، 6 أكتوبر 2017

ذكريات من كردستان بقلم :ا.د. سعد ناجي جواد جريدة (رأي اليوم ) اللندنية


ذكريات من كردستان 

بقلم :ا.د. سعد ناجي جواد 
جريدة (رأي اليوم ) اللندنية 
6 اكتوبر -تشرين الاول 2017
والرابط : http://www.raialyoum.com/?p=7555

ليس من عادتي ان اكثر من الكتابة، ولكن ذكريات هذا اليوم تستحق استثناءا. ففي هذا اليوم ٦ أكتوبر-تشرين الاول  ١٩٧٣ وصلت كردستان العراق من بغداد باحثا عن اجراء مقابلات وعن مصادر مهمة لرسالتي للدكتوراة. ولقد تكرم علي احد أقارب المرحوم حبيب كريم سكرتير عام الحزب الديمقراطي الكردستاني ان يصطحبني الى السليمانية وان يرتب لي لقاءا معه. ولما وصلت بعد الظهر بقليل الى منطقة جومان الجبلية تم إسكاني في منزل على قمة تل عال، او جبل صغير يشرف على مدينة وسهل جومان الجميلان، وأخبرني من استقبلني بان هذه الدارالتي ساسكن فيها تسمى ب (قصر السلام)، حيث ان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك، المرحوم صدام حسين، كان قد استقر فيها يومي ٩و١٠ آذار / مارس ١٩٧٠، عندما حضر بنفسه والتقى المرحوم ملا مصطفى البرزاني وتمكن من تذليل كل العقبات التي كانت تقف في طريق توقيع الاتفاق بين الطرفين لمنح الاكراد الحكم الذاتي، هذا الاتفاق الذي عرف فيما بعد ب(بيان ١١ آذار ١٩٧٠)، ولهذا سمي بقصر السلام تيمنا بهذه المناسبة. وقصر السلام هذا لا يتعدى كونه منزلا صغيرا و بسيطا جدا من طابق واحد بجوار منزل أكبر كان يسكنه حبيب كريم. كما علمت فيما بعد ان المسكن كان يضم أفراد المكتب الثقافي والاعلامي وسكرتارية الحزب. المهم في هذا اليوم وبعد استراحة بسيطة جلست انا ومن اصطحبني واحد أفراد البيشمركة الذي خصصه السيد حبيب لمرافقتنا وضيافتنا الى ان يحضر هو، ولما كان من اصطحبني والمسؤول عن ضيافتنا صديقين قديمين وانشغلا بالحديث عن ذكريات قديمة، قمت انا بفتح المذياع الترانسستر الذي احمله وبدات ابحث عن المحطة الأكثر شعبية آنذاك بين العرب وهي محطة مونت كارلو، ( ولم تكن هذه الإذاعة واسعة الانتشار سوى غرفة صغيرة في باريس تبث الأخبار). 

وفِي اللحظة التي وجدت فيها الإذاعة  كانت تبث موجزاً للأنباء باللغة الفرنسية، ولمعرفتي البسيطة بهذه اللغة فهمت ان حربا قد قامت بين مصر واسرائيل، وان الجيش المصري يحاول عبور القنال. لم اصدق أذني وبدات ابحث عن محطات اخرى ثم تاكدت ان ما سمعته كان صحيحا. وهكذا أمضينا الوقت نتنقل من إذاعة الى اخرى، حتى عاد المرحوم حبيب في ساعة متاخرة. وبعد الترحاب بي وسؤاله عن والدي الذي ظهر انه كان زميلا له في كلية الحقوق في الخمسينيات. (وفِي الحقيقة انه اصبح صديقا عزيزا علي ايضا بعد هذا اللقاء)، واعتذر عن التأخير بسبب الاجتماع الطارئ الذي عقده الملا مع قيادات الحزب بسبب التطورات على الجبهتين المصرية والسورية. وسألنا ان كنّا قد سمعنا الأخبار فقلنا  نعم. ثم سألته ان كان يمتلك تفاصيل اكثر من الأخبار المتضاربة التي نسمعها من المذياع، فقال يبدو ان المصريين يحاولون مرة ثانية تجريب حظهم العاثر، وان الاسرائليين ضربوهم ضربة موجعة و دمروا لهم الجسور التي حاولوا أقامتها لعبور القناة. وهذا ماكانت تعلنه الإذاعة الإسرائيلية. وقال ان اسرائيل ستلقن المصريين والعرب من ورائهم درسا لن ينسوه هذه المرة فتجعلهم يقبلون بالوجود الاسرائيلي كأمر واقع ولا مفر منه. 

ولقد شعرت بقلبي ينقبض عند سماع هذا الكلام . ورغم كل محاولاتي للحديث عن أمور اخرى في تلك الليلة، الا ان مزاجي ظل متعكرا ، ولقد لاحظ المرحوم حبيب ذلك وقال لنخلد  الى النوم قليلا لاني قد رتبت لك بعض المقابلات يوم غد، وسنجلس في مساء الغد جلسة مطولة كي أرد على أسئلتك. في صباح اليوم التالي بادرني حبيب كريم قائلا يبدو ان الاسرائيلين يكذبون وان الجيش المصري نجح في العبور وان الجسور التي إنشاؤها على القناة لا زالت تعمل وبدا عبور الدبابات الى الجانب الاخر من القناة. ثم قال ان خط بارليف قد سيطر عليه الجيش المصري الذي لا يزال مندفعا في تصفية الدفاعات الإسرائيلية. وتركنا مسرعا للالتحاق بمقر الملا، بعد ان أخبر مرافقي عن الأشخاص الذين سيأخذني لهم.

كانت اول لقاءاتي مع المرحوم ابراهيم احمد السكرتير السابق للحزب ووالد زوجة المرحوم جلال الطالباني وشريكه في الانشقاق على الملا مصطفى في عام ١٩٦٤. وعندما اعلمني الاخ حبيب بالمواعيد قال يجب ان تلقي بإبراهيم احمد اولا الذي هو ( كبيرهم الذي علمهم السحر) على حد تعبيره. 

وكانت جلستي مع ابراهيم احمد طويلة جدا، بدأت في الصباح وانتهت بعد الظهر، وأصر الرجل على ان أتناول طعام الغذاء معه، ولأول مرة في حياتي اشاهد آنذاك شخصا لا يشرب الشاي الذي جلب له في قدح كبير الا بعد ان يضع فيه قطعة كبيرة من الثلج. هذا الامر الذي اصبح الان تقليعة في أوربا ، الشاي المثلج. ثم جرنا الحديث على ما يجري في الجبهات مع اسرائيل وسألته عن حقيقة ما يقال عن العلاقات بين اسرائيل والحركة الكردية، فنفى ذلك نفيا قاطعا. لم أشأ ان اجادله كثيرا في هذا الموضوع لاني شعرت وكأنه كان في إقامة جبرية في منزله، ولم اقل له بان معلوماتي والتي استقيتها من مصادر مختلفة توكد بانه هو والمرحوم الطالباني كانا اول من دشنا هذه العلاقة منذ عام ١٩٦٢ من خلال شخصين الاول هو كاميران بدرخان ، والثاني الدكتور عصمت شريف وانلي (او فانلي كما يكتبه هو)، وان الاثنين رتبا لقاءا لقيادات كردية عراقية مع شيمون بيريز في باريس. ثم تمسك بها الملا مصطفى لما وجدها مفيدة له واستمر الحال كذلك من بعده، ولم اقل له ان الجناح المنشق الذي كان يرأسه هو مع الطالباني نشرا في عام ١٩٦٩ في جريدتهما، (  جريدة النور) ، معلومات كثيرة عن العلاقات مع اسرائيل واتهموا جناح البرزاني بذلك.

مقابلتي الثانية كانت مع المرحوم حبيب كريم نفسه مساءا. وتحدثنا مطولا، ثم عرجت على موضوع العلاقة مع اسرائيل الذي نفاه نفيا قاطعا وقال لي بالحرف الواحد ان هذه دعاية تطلقها وتروج لها الحكومة العراقية لكي تشوه سمعة الثورة الكردية. ثم ظهر بعد انهيار الحركة الكردية في عام ١٩٧٥ انه كان من ضمن الأشخاص الذين زاروا اسرائيل للتنسيق معها. 

في اليوم التالي ذهبت لمقابلة الدكتور محمود عثمان ، عضو المكتب السياسي والقيادي المسؤول عن التنظيمات الحزبية. لقد كانت المقابلة صعبة و متعسرة بسبب الاتصالات الكثيرة التي كان يتلقاها الدكتور عثمان من التنظيمات المختلفة عبر اجهزة الإرسال العديدة الموزعة حوله.وعلى الرغم من كل المحادثات كانت تتم باللغة الكردية، ولكني فهمت من انفعالات وغضب الدكتور عثمان ان أمرا خطيرا كان يحدث وانه كان يحاول ان يمنع حدوث بعض الأمور التصعيدية. ثم فهمت من مرافقي انه كان يتحدث الى قيادات في البيشمركة ويمنعهم من الاحتكاك او استخدام الأسلحة. وبعد مدة ظهرت معلومات وافية تقول ان اسرائيل، ونتيجة للضربة الموجعة التي تلقتها يوم ٦ أكتوبر وصدور بيان الحكومة العراقية بالمشاركة في المعركة وإرسال قوات عراقية للجبهة السورية، حثت القيادة الكردية على إشعال حرب جديدة مع الجيش العراقي لاشغاله ومنعه من المشاركة في الحرب كما حدث في عام ١٩٦٧. وان بعض المستشارين الاسرائيلين المتواجدين في كردستان نشطوا في ذلك. ولكن هنري كسينجر، وزير الخارجية ومستشار الامن القومي الاسبق، كان قد منع ذلك من خلاله مباشرة او من خلال ايران.

 المهم اني سالت الدكتور عثمان عن العلاقة مع اسرائيل فنكرها هو ايضا واشعرني بانه لا يريد التحدث عنها، لانها دعايات مغرضة على حد تعبيره. وبعد انهيار الحركة صدر كتيب باسم القيادة الموقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني لتقييم الحركة الكردية المسلحة ، قيل انه هو من كان مؤلفه، فصل فيه العلاقة مع الكيان الصهيوني، ثم اعترف هو شخصيا وبشجاعة بعد ذلك ومن على شاشات التلفاز بالأمر وبأنه كان احد الزائرين لفلسطين المحتلة ولاكثر من مرة. طبعا من فضح العلاقة بصورة لا تقبل الشك هو رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق مناحيم بيغن الذين أعلن في خطاب على الهواء في عام ١٩٨٠ كل تفاصيل الدعم الصهيوني للحزب الكردستاني وللبيشمركة والتشكيلات الأمنية الاخرى .

حرصت اثناء وجودي في منطقة جومان ان اختلط بالناس وذهبت الى مقهى وسرت في الاسواق، ووجدت ان الناس البسطاء كانوا اغلبهم فرحين بانتصار القوات العربية، وان المنتظمين في الحزب الكردستاني كانوا عكس ذلك، ولم اعجب لذلك لاني اطلعت على نسخ من إصدارات الحزب التثقيفية والتي كانت تصدر باسم ( الكادر) ووجدت في بعضها روحا ونفسا شوفينيا واضحا وتحريضا على العرب والعروبة، كما سمعت من قيادات كردية اراءا مشابهة ولو بصورة مخففة، وباعتقادي المتواضع ان ما نراه اليوم من رفع للإعلام الصهيونية والهتاف بالاخوة العربية الإسرائيلية او استقبال الشخصيات الصهيونية علنا، كلها نتيجة لهذا التثقيف والضخ الإعلامي الذي اخضع له شعبنا الكردي وخاصة الشباب منهم. وتناسى هؤلاء آبائهم وأجدادهم الذين ضحوا بارواحهم عندما قاتلوا مع الجيشين  العراقي والسوري واستشهدوا على ارض فلسطين ومن اجل القدس. علما بان شاه ايران  ايّام حكمه ودعمه للحزب الكردستاني كان من اكثر المشجعين على هذا النهج. وبالتاكيد فان هذا لا يعفي الحركات والأحزاب والشخصيات الشوفينية العربية من المسؤولية، والذي وصل الامر ببعضها الى تشبيه كردستان العراق بإسرائيل ثانية متناسين ان الاكراد هم سكان الارض الأصليين وأنهم لم يكونوا طارئين عليها في يوم ما. وبان الاكراد هم مسلمون متمسكون بدينهم ولا يمكن ان يحيدوا عن تعاليم هذا الدين الحنيف.

هناك من يعتقد ان القطيعة باتت نهائية بين الحركة القومية العربية والحركة القومية الكردية، وهذا الكلام ربما يصح اذا ما تم التركيز على ما يجري في الوقت الحاضر فقط، ولَكن التاريخ يخبرنا عكس ذلك ، وان الطرفين تعايشا لقرون طويلة وان دمائهم المختلطة لا يمكن ان تضيع هباءا، وان القيادات التي تنظر للامر من خلال مصالحها الضيقة وارتباطاتها المشبوهة لا يمكن ان تدوم الى ما لا نهاية، وان قيادات أكثر وعيا ووطنية، كالتي قادت النضال العراقي منذ الثلاثينيات ، من خلال الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان حزبا مناضلا بحق، والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحتى حزب البعث ، ضمت عربا واكرادا بل وكل مكونات الشعب العراقي الذين كان يجمعهم هدف التحرر من الاستعمار و تحقيق مصالح الغالبية العظمى من العراقيين، ان هذه النخب المتآخية والوطنية بحق والتي رسخت منذ ذلك الوقت الإخوة النضالية العربية الكردية، لابد وان تبعث من جديد عندما تهزم المشاريع الصهيونية والامبريالية والتفتيتية، وعسى ان يكون مثل هذا اليوم قريبا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي

  مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي عرض ومراجعة : الدكتور زياد ع...