دور العسكر في السياسة
هذا عنوان كتاب صدر عن بيت الحكمة ببغداد عام 2012. وهو في الاصل اطروحة اكاديمية في جامعة بريطانية، ترجمه الى العربية محمود احمد عزت البياتي، كما ثبت على غلاف الكتاب، اضيف للاسم تعريف على الصفحة الاولى بعد الغلاف، اللواء الركن المتقاعد، ولولا اشارة عابرة في "عرض الكتاب" بقلم المترجم، لما عرف اسم مؤلفه، فلم يوضع اسمه على غلاف الكتاب، ولا على الصفحات الاولى. وهذا امر مستغرب، من المؤسسة التي اصدرته والمترجم وكل العاملين على إصداره، كما انها ملاحظة جدية تعطي انطباعات سلبية عن الجهد الذي تم بذله واعتماده. وطبعا لم يجر التعريف بالمؤلف ولا تقديم معلومات اضافية عن حياته وأبحاثه او أي شيء يزيد القاريء علما به، ولولا اشارة المترجم المذكورة وأخرى في التقديم ايضا، فلم يعرف ابدا.. فالمترجم اورد في جملة يتيمة ما يلي: "الكتاب جهد منقح لبحث قدمه محمد طربوش في العام 1978 الى جامعة اكسفورد لنيل شهادة الدكتوراه، ويتضمن مقدمة وتسعة فصول لمواضيع رئيسية". ويلفت الانتباه هنا الى ما ذكر من ان الكتاب جهد منقح، بينما على الغلاف وبعده ترجمة واسم مترجم، وهذه الاشارة تثير اسئلة اخرى ومفارقة علمية حول دور الترجمة والإصدار والجهة المشرفة على كل ذلك!. وفي التقديم اشارة وأخرى ضمن السياق العام: "ولذلك لقي كتاب محمد طربوش ترحيبا حارا، لتقديمه دراسة وافية عن الانقلابات العسكرية المتتابعة التي وقعت في العراق خلال الفترة من 1936 الى 1941".
في كل الاحوال اعترف المترجم بأهمية الكتاب وعرض له بملاحظات تعبر عن وجهة نظره، وبعضها صحيح وايجابي يعكس ما بذله من جهد فيه وقد تضيف له. ولكنه للأسف تدخل في المتن بملاحظات او آراء تخالف بطبيعتها مهمة المترجم للكتاب، وليست جزء متتما او تكميلا للموضوع، وكان بالإمكان ذكرها في الهوامش، او في قسم خاص من الكتاب، كما اشار لبعض الملاحظات في عرضه الاول، او في ملحق خاص اخر الكتاب. وهذه مسالة اخرى تضاف الى ما يؤاخذ به على ترجمة وإصدار الكتاب. إلا ان ملاحظات المترجم في عرضه الاولي ركزت على مصادر المؤلف واعتماده على تقارير ضباط الاستخبارات والسفراء والمستشارين البريطانيين الذين كانوا يعملون في العراق ويراها قد جانبت الحقائق كثيرا، وهي وجهة نظر ربما في بعضها صحة ولكن ليست دائما كذلك، ولابد من بحثها وتحليلها منفردة او ضمن النص والموضوع. وكذلك لاحظ المترجم اهتمام الباحث بإلحاح في كشف الهويات الطائفية والانتماءات العرقية والدينية لشخصيات العراق والضباط العراقيين لضرورة ما وغالبا من دون ضرورة، وهي ملاحظة اخرى مهمة ويمكن ان تناقش ايضا. الى ان يصل الى رأيه في الكتاب عموما: "ان اهمية الكتاب على الرغم من هذه الملاحظات تكمن في انه عبر ودروس لكل عراقي يقرأه بإمعان ويدرك من احداث تلك الفترة ان المستعمر كان باستمرار ولا يزال السبب في الخلل والإعاقة، وكان العراق وشعب العراق دائما الضحية" (ص10). وكذلك اشاد الاستاذ البرت حوراني، (تُرجم خطأً هورني، وهناك اخطاء اخرى في ترجمة الاسماء والأماكن) في تقديمه بالمؤلف وفي بحثه. حيث كتب: "لقد استندت معالجة الدكتور طربوش لهذا الموضوع على دراسة دقيقة للوثائق والسجلات البريطانية والعراقية، وعلى المعلومات التي حصل عليها من اؤلئك الباقين على قيد الحياة من الفترة التي وقعت فيها الاحداث وعلى قراءته الواسعة لمذكرات وتقارير الشخصيات العربية السياسية وتمكن بذلك من الاطلاع بشكل مفيد على الطريقة التي كانت تصنع بها القرارات السياسية وكيف ان مسالة ما تقود الى اخرى. وأضاف، ان هذا العمل اسهام ثمين في رفد معرفتنا بما حصل في العراق في ذلك الوقت، لكن على الرغم من حدوده المتواضعة لما يقوله عن بلد واحد وعصر واحد، فهو يساعدنا على فهم احداث مماثلة في اماكن اخرى وأوقات مختلفة" (ص13).
اعترف المترجم ومقدم الكتاب بأهميته البحثية وجهد الباحث الدكتور محمد طربوش فيه. وقد احتوت فصوله تفصيلات مهمة عن موضوعه، دور العسكر في السياسة في العراق في الفترة التي بحثها، منذ تأسيس الدولة بعد ثورة العشرين والى اول انقلاب عسكري عراقي ومن ثم عربي وما تبعه الانقلاب الاخر الذي اعادت تداعياته الاحتلال البريطاني من جديد رغم تحركه ضده او بسبب تدخلات اركانه.
سعى المؤلف في دراسته الى بيان، كيف ولماذا تدخل العسكريون العراقيون في شؤون الدولة في عامي 1936 و1941؟، والى تقديم رؤية تاريخية لما حصل، وليس عرض نموذج نظرية لدور الجيوش في السياسة. وفي رؤية الباحث ان طبيعة المجتمع العراقي ومكوناته والصراعات البينية والدوافع والعوامل السياسية، الداخلية والخارجية، لعبت دورا رئيسيا في رسم دور سياسي للجيش. ولذلك قدم خلاصة عن بناء وتطور نظام الحكم وتركيب سكان العراق وتوزيعه الجغرافي ورأى انها كانت عاملا رئيسا في خلق عدم الاستقرار في العراق في فترة البحث. ومن ثم بحث في احوال النخبة الحاكمة ووصف الجيش وتوسعه واعتماد الحكومة المتزايد عليه. وواصل في تحليل الظروف التي ادت الى اول انقلاب عسكري في العراق والى سلسلة الانقلابات التي تبعته. وختمها باستنتاجاته عن الموضوع في الفترة الزمنية التي درسها.
المؤلف أكد ان تركيب المجتمع العراقي وتوزيعه الجغرافي سبب رئيس في عدم الاستقرار وفي فسح المجال للقوى العسكرية في التدخل في السياسة وكذلك في تعثر تشكيل دولة مدنية مستقرة. فسجل: "في الوقت الذي اصبح العراق دولة في العام 1920، كان عدد سكانه 2,847,000 والغالبية (نحو 56 بالمائة) من الشيعة ( في ص 83 كتب نسبتهم 58%)، بينما شكل السنة (العرب والأكراد معا) 36 بالمائة، والباقي اقلية من الاشوريين والمسيحيين واليهود واليزيديين وجماعات اثنية ودينية أخرى، وعاش معظم السكان الشيعة في الاقسام الجنوبية من البلاد، بينما عاش العرب السنة والمسيحيون واليهود بصورة رئيسية في المركزين الحضريين (بغداد والموصل). وتمركز الاكراد في المنطقة الشمالية الشرقية من العراق وعاش اليزيديون بالقرب من جبل سنجار الذي يبعد 50 ميلا الى الغرب من الموصل" (ص33). وهذا التحليل عبّر عن منهج الباحث في دراسته، وهو متبع في الدراسات الغربية عن العالم العربي والشرق عموما. ينظر للتركيب الطائفي اولا وعلى اساس الاقامة بين المدن/ الحضر والريف/ البداوة ثانيا. وهو ما نقله عن تقارير موظفي السفارة البريطانية في العراق عن التطورات وأحوال العراق، ووقع كغيره في الخلط بين الانتماءات الطائفية المذهبية والاثنية في كثير من التسميات. وكذلك حلل تركيب السلطة والمعارضة اجتماعيا وطائفيا وحددها بالأرقام والنسب المقابلة لها من السكان. ومن طريف ما ثبته الباحث سؤال ونستون تشرشل، وزير المستعمرات انذاك، (في اوائل القرن الماضي، قبل مئة عام تقريبا!)، عند مناقشة ترشيح فيصل ملكا على العراق، فيما اذا كان سنيا او شيعيا (؟!) (ص69). هدف السؤال يكشف سمة من سياسات الاستعمار البريطاني، وأي استعمار أخر، ويؤكد خطط الاستعمار الأساسية، في الحكم والهيمنة في أي زمان ومكان!.
في الفصول التي بحث فيها عن تأسيس الجيش العراقي ومشاركته في السياسة وضح الباحث العوامل الداخلية والخارجية التي وفرت البيئة لذلك. فإشراف ادارة الاحتلال البريطاني المباشرة على تشكيل اول وحدة عسكرية رسميا وتكليف ضباط عراقيين درسوا وتدربوا في اسطنبول وغيرها اعطت حتى للتسميات تعبيرها وهدفها من العملية بكاملها. ولعبت الظروف الداخلية دورها الاخر في المشاركة السياسية وضرورة نمو اعداد الجيش وتنظيمه وتكاليفه المحلية. افتتحت الكلية العسكرية في تموز/ يوليو 1921، وفي العام 1927 تم اقرار تأسيس القوة الجوية الملكية العراقية. وضمن منهج الباحث وجد الميزة الاكثر وضوحا في تحليل سيرة صنف الضبط، ان 1 من 61 ضابطا كان شيعيا و2 مسيحيين، بينما 58 الباقي كان من السنة. ورأى الباحث ان معظم الضباط الذين تأهلوا خارج البلاد لم يحظوا بمناصب عليا، وان الضباط الذين نفذوا الانقلاب العسكري الاول هم من الطبقة نفسها التي خرج منها سبعة رؤساء وزراء من اصل احد عشر رئيس وزارة في تلك الفترة.
وبعد تأسيس الدولة والتحديات الخارجية، العثمانية خصوصا، اندفعت الحكومات العراقية الى الاهتمام في بناء الجيش الوطني وتنظيم اعداده. وقد اصبح تعداده عام 1936 اكثر من عشرين الف. وأثرت ظروف داخلية دورا في كل ذلك فضلا عن الاوضاع الاقتصادية الدولية. فقد لعبت ثلاث احداث مهمة: قضية الاثوريين/ الاشوريين صيف 1933، ووفاة الملك فيصل 8 ايلول/ سبتمبر 1933، وانتفاضات عشائر الجنوب في 35- 1936 دورها في تدخل الجيش. لاسيما بعد الحاجة الماسة للجيش وصدور قانون الدفاع الوطني/ التطوع والتجنيد الالزامي في 12 حزيران/ يونيو1934 وتطبيقه عام 1935. هذا التوسع العددي والامكانات الجديدة سمحت لقادة الجيش وضباطه في التفكير بأنفسهم كقوة فاعلة في التدخل واستغلال الفراغ السياسي والتحضير للانقلابات والسعي للسلطة.
رغم تحالف القيادة العسكرية للانقلاب الاول مع قوى سياسية وتشكيل حكومة انقلاب مدنية إلا انها لم تكن مهيأة لإدارة البلاد فادى ذلك الى فشلها في انجاز تغييرات مهمة وسرعة الانقلاب المضاد عليها واغتيال قادة الانقلاب، ولكن تأثير ضباط الجيش على القرار السياسي استمر في حكم البلاد. الامر الذي اضطر الملك الى تكليف من يؤيده الضباط البارزون، صلاح الدين الصباغ، محمود سلمان، فهمي سعيد، كامل شبيب، عزيز ياملكي، حسين فوزي، وامين العمري. وقد اشترط جميل المدفعي التزام الضباط بعدم التدخل في السياسة لتشكيل الحكومة، رغم اسنادهم له. وأشار الباحث الى ان مكائد السياسة في العراق والفاعلين فيها من رجال السفارات الى اعوانهم من رجال السياسة العراقيين دفعت ضباط الجيش الى التحول الى مسرح لها ومصدر قوة لمن يسعى الى السلطة.
عوامل اخرى كالموقف من القضايا العربية وخاصة فلسطين وسوريا وبروز ضباط اربعة في الدفاع عنها بوضوح، واغتيال شخصيات سياسية وغيرها، تداخلت في صعود دور الضباط في السياسة والحكم. الى درجة ان بين اعوام 1936- 1941 لا تستطيع اية حكومة التشكل دون موافقة قادة الجيش، خاصة الضباط الاربعة الذين عرفوا باسم "المربع الذهبي". وقد احدثت الانقلابات، لاسيما حركة رشيد عالي الكيلاني، عودة تدخل الاستعمار البريطاني بقوة في الشؤون السياسية والإدارة، خصوصا اثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.
بعد كل ذلك استنتج الباحث "ان نشوء المنظومة السياسية العراقية والدولة العراقية ادى الى اسهام عدد من العوامل اختصت بالعراق (...) ابرزها: الملكية وعلاقاتها بقوة اجنبية، التنافس بين المصالح البريطانية والحكومة العراقية، الخلافات العرقية والدينية في العراق، وهيمنة طائفة دينية واحدة في الجيش. وقد اتاح مزيج هذه العوامل اسس التفسير، كيف اصبح العراق تحت هيمنة القادة العسكريين وتصرف كل واحد كدكتاتور" (ص284). وضم الكتاب اضافة الى فصوله ملاحق مهمة، هي برنامج جماعة الاصلاح الشعبي، برنامج حكومة حكمت سليمان، مطاليب الاكراد، معاهدة التحالف البريطاني – العراقي 30 حزيران 1930 ومذكرات متبادلة وقائمة اتفاقيات.
الكتاب في 416 صفحة من القطع المتوسط وكما اشير في البداية الى اهميته وتفرد موضوعه في قضية شائكة ومثيرة للاهتمام، مازالت موضع بحث ودراسة، تدعو كما سجل المترجم والمقدم الى الاستفادة منها ومن الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها منها. وهنا اهمية قراءة التاريخ وصفحاته، ليست للإطلاع عليها وحسب وإنما للاستفادة منها في تصحيح الحاضر وبناء المستقبل.
*المصدر :http://mail.almothaqaf.com/index.php/books/81258.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق