الاثنين، 24 مارس 2014

العلمانيون والاسلاميون في تركيا ......دراسة للاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف

العلمانيون والاسلاميون في تركيا
                                                       
                                                                                أ . د . إبراهيم خليل العلاف
                                                        أستاذ متمرس -  جامعة الموصل
      عندما قاد مصطفى كمال (1923 ـ 1938) حركته التحررية الاستقلالية في أواخر الحرب العالمية الأولى ، ظل الإسلام ، كدين وثقافة وارث ، واحدا من العناصر الأساسية التي اعتمدها لمقاومة المحتلين الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين . وقد حاول مصطفى كمال أن يبرز ، بعد وصوله إلى سامسون ، مفتشا عاما للجيش هناك في مايو / ايار 1919 ، أهمية الإسلام في الصراع مع الحكومة في استانبول لأنه كان مدركا أن هذه السلطات سوف تستخدم الإسلام كسلاح ضده ، وقد استطاع حشد عدد كبير من الأئمة وعلماء الدين في الأناضول أبان نشاطه التحرري ، فلقد كان هؤلاء في مقدمة العناصر التي حضرت مؤتمر سيواس الذي عقده بين 4 ـ 12 ايلول 1919 ووضعت فيه الأسس لقيام الدولة التركية الحديثة . لكن مصطفى كمال وضع في 30 تشرين الأول 1922 حدا لازدواجية السلطة عندما طرح مشروع قرار قدم غالى المجلس الوطني الكبير (البرلمان) يقضي بإلغاء السلطة وفصلها عن الخلافة وفي 3 آذار ألغى الخلافة ووزارة الأوقاف وأقام إدارة الشؤون الدينية محلها ، لكنه وخلفاؤه لم ينكروا بان التيار الإسلامي كان ولا يزال من ابرز روافد الفكر التركي المعاصر ، وقد بنى مصطفى كمال فلسفته في بناء دولته القومية العلمانية الحديثة على أن العثمانيين استغلوا الإسلام لتحقيق مآرب سياسته ، لذلك استهدفت الإجراءات العلمانية للكماليين ، منع علماء الدين وقوى المعارضة من استخدام الدين أداة ضدهم ، لكن سياسة الكماليين واجهت معارضة قوية في تركيا تزعمها في بادئ الأمر علماء الدين وشيوخ الطرق الصوفية وتعد حركة 1925 التي قادها الشيخ سعيد بيران النقشبندي من ابرز ما واجهه مصطفى كمال في بواكير تأسيس الدولة ، لذلك قام بسحق الحركة وانتشار محاكم استثنائية لمحاكمة قادتها . وإعدامهم واتبع ذلك سلسلة من الإجراءات والتشريعات التي حدت من نشاط التنظيمات والطرق الدينية المنتشرة آنذاك في المجتمع التركي . واستمر الأمر هكذا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية .   فلقد شهدت السنوات التي تعقبت ذلك تنامي المعارضة في تركيا نتيجة لتبلور الأفكار الديمقراطية وقيام نظام تعدد الأحزاب ، وكان التيار الإسلامي واحدا من قوى المعارضة وتمثل هذا التيار بمجموعة من المنظمات والجمعيات الإسلامية التي ظهرت بين سنتي 1946 و1946 منـها (جمعية الإسلام) و ( جمعية التطهير) . كما عادت إلى الظهور صحف ومجلات إسلامية كان الكما ليون قد منعوها من الصدور عند وصولهـم إلى السلطة منـها (سبيل الرشاد) و (سلامت) و (حر آدم) .. وقد طالبت هذه التنظيمات والصحف ، حزب الشعب الجمهوري الحاكم والذي سبق أن أسسه مصطفى كمال بالتخلي عن سياسته العلمانية  والتخفيف من تدخله في شؤون الناس ومعتقداتهم الدينية . كما طالبت بإلغاء القوانين العلمانية والعمل على تربية الشيء الجديد تربية إسلامية . لكن (صحيفة اولوس ) الناطقة بلسان الحزب نشرت مقالة قالت فيها انه إذا استجابت الحكومة لبعض مطالب المتدينين الإسلاميين فإنها ((سوف تستجيب غدا لإعادة حكم الشريعة والخلافة )) .
   ومع هذا فان انتخابات سنة 1946 أظهرت تنامي الحركات الإسلامية إذ ظهر تيار حزب الشعب الجمهوري العلماني الحاكم نفسه بزعامة حمد الله وتيكلي اوغلو يطالب بتوقف الدولة عن منع الناس من التعبير عن معتقداتهم الدينية ، ودعا إلى استلهام التاريخ العثماني والدين الإسلامي كمبدأين أساسيين لإعادة ما اسماه (صيانة الفكرة التركية المعاصرة) .
     وأمام المواجهة بين حزب الشعب الجمهوري وقوى المعارضة بعد الحرب العالمية الثانية اضطرت الدولة التخفيف من إجراءاتها العلمانية وقررت في سنة 1948 ولأول مرة منذ قيام النظام الجمهوري ، تخصيص الأموال للراغبين في أداء فريضة الحج . كما أقيمت دورات لإعداد ألائمة والخطباء سنة 1949 .
    وعندما أسس جلال بايار الحزب الديمقراطي كحزب معارض لحزب الشعب الجمهوري الحاكم سنة 1946 وتفوق في انتخابات 1954 و1957 وتهيا له حكم تركيا خلال الفترة 1950 ـ 1960 ، رحب رئيس الوزراء آنذاك عدنان مندريس بدور علماء الدين في تربية الجيل الجديد بروح الإخلاص للوطن والشريعة . كما القى خطابا في أنطاكية سنة 1952 أكد فيه ان سياسة الحزب الجديدة تجاه التسامح مع التيار الديني الإسلامي لاتتعارض مع الكمالية ولكن عدد من المراقبين عدوا الخطاب بمثابة إشارة البدء بمهاجمة العلمانية ، لذلك شهدت تركيا بعد ذلك حملة واسعة ضد القوى العلمانية حتى ان هناك من اتهم مصطفى كمال بالتخلي عن الإسلام ونشر الفساد والتحلل الخلقي بين الشبيبة التركية .. ولعل من نافلة القول أن سياسة الحزب الديمقراطي تلك أفسحت المجال لتنامي تنظيمات إسلامية كان لها نشاطاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية منها التيجانية والنورسية والسليمانية وقد تعززت جراء ذلك مواقع علماء الدين في الحياة الاجتماعية والتركية المعاصرة .
     أدركت القوى العلمانية ان هناك تهديدات جادة تواجهها المبادئ الاتاتوركية وقد تعاظمت التهديدات ،وظهر من يعد المسؤولين العلمانيين الأتراك كفارا يجب محاربتهم وعندما شعر الجيش ، والذي يصف نفسه بأنه حامي المبادئ الاتاتوركية بخطورة تلك الاتجاهات وتساهل الحزب الديمقراطي الحاكم تجاهها أقدم على القيام بانقلاب عسكري في 27 أيار 1960 بقيادة الجنرال جمال كورسيل . وقد تشكلت لجنة الوحدة الوطنية التي أكدت بان حكومة الحزب الديمقراطي قد انتهكت الحقوق الطبيعية للأمة التركية .. وعطلت إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك وعرضت ((المبادئ الكمالية للخطر)) وانه لابد من إنقاذ البلاد . وبالرغم من أن هناك وراء الانقلاب أسباب اقتصادية تمثلت بازدياد حالة التضخم التي أدت إلى عرقلة النمو الاقتصادي ، إلا أن العوامل الاجتماعية المتمثلة بانتشار الفقر وتنامي ((التعصب الديني والطائفي)) كانت هي الأخرى من ابرز دوافع الانقلاب العسكري .
     عد  قادة الانقلاب العسكري ، وكان عددهم قرابة 38 ضابطا يمثلون فروع الجيش المختلفة ، أن ما قام به الجيش ليس إلا ((ثورة شعبية)) ووافقهم على ذلك قادة القوى العلمانية الذين اكدوا ان من اهداف الانقلاب ((صيانة النظام السياسي التركي ودعامته الفكرية المتمثلة بالفلسفة الاتاتوركية)) .
    وقد قدم قادة الحزب الديمقراطي في تموز 1960 الى المحكمة بتهمة محاولة النيل من الاستقلال الوطني وإقامة النظام الدكتاتوري ومحاولة إلغاء الدستور وبعد ستة أشهر ، أصدرت المحكمة عقوبة الإعدام على خمسة عشر شخصا من أعضاء الحزب الديمقراطي بضمنهم جلال بايار وعدنان مندريس ، وفي وقت لاحق جرى حل الأحزاب ودعا قادة الانقلاب الشعب للاعتماد على ((تقاليد الجيش التركي الراسخة باعتباره حامي أسس الديمقراطية التي وضعها اتاتورك)) .
    في تشرين الأول 1961 ، جرت الانتخابات ولم يحصل أيا من الأحزاب القائمة بما فيها حزب الشعب الجمهوري على الأغلبية. وفي 12 آذار / مارس عاد العسكريون مرة ثانية ليستولوا على السلطة وليسقطوا وزارة سليمان ديميريل ، وجرت الانتخابات في تشرين  الثاني ، نوفمبر 1973 وأسهمت في هذه الانتخابات أحزاب جديدة ، منها حزب السلامة الوطني ( ويسمى كذلك حزب الخلاص الوطني ) بزعامة الدكتور نجم الدين اربكان المعروف بتوجهاته الإسلامية وبعدائه للمبادئ العلمانية على 11,9% وقد سبق لاربكان أن أسس حزبا باسم ( حزب النظام الوطني) في 26 كانون الثاني / يناير 1971 لكن( المحكمة الدستورية) سرعان ما أصدرت قرارا  بحله اثر انقلاب 12 آذار / مارس 1971 ((بسبب نشاطاته المناوئة للأفكار العمانية السائدة في تركيا وسعيه لإقامة حكومة إسلامية وقيامه ببعض التظاهرات ورفعه شعارات معادية للقوى العلمانية )) .
   اصدر حزب السلامة الوطني جريدة ناطقة بلسانه وهي صحيفة (ملي غازيت ) . وقد ارتكزت منطلقات هذا الحزب الفكرية على نظرية مفادها ((أن البلاد تتعرض لمؤامرة امبريالية ، صهيونية ، شيوعية تستهدف الوقوف ضد إقامة الدولة الدينية )) . وكتب الدكتور محمد حرب عبد الحميد عن حزب السلامة الوطنية قائلا : ((انه حزب يسعى لإقامة سوق إسلامية مشتركة وأمم متحدة إسلامية ونظام دفاعي إسلامي )) .  وكان للحزب مفهومه السلفي في فكرة الخلافة والخليفة .
    والذي يهمنا هنا وبقدر ما يتعلق بموضوعنا فان حزب السلامة الوطني حصل  في انتخابات سنة 1977 على 8% من الأصوات وفي 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1979 تشكلت حكومة أقلية برئاسة سليمان ديميريل بتأييد من حزب الحركة القومي بزعامة الب ارسلان توركيش وبدأت عندئذ محاولات تحالف بين الجناح اليساري من حزب الشعب الجمهوري وحزب السلامة الوطني ضد تدابير تقييد الحريات التي أقدمت عليها حكومة ديميريل ، لذلك حدث انقلاب 1980 عندما وجه الجنرال كنعان ايفرين رئيس الاركان العامة في كانون الثاني / يناير 1980 إنذارا الى حكومة ديميريل طلب فيه أن ((تبحث الأحزاب التي تستلهم الأفكار العلمانية الاتاتوركية والقومية عن إجراءات جماعية ، ضمن الإطار البرلماني، تواجه الفوضى وموجه العنف السياسي التي اجتاحت تركيا منذ شباط ـ فبراير 1978 . وفي مطلع أيلول /سبتمبر 1980 ، قاد حزب السلامة الوطني تظاهرات صاخبة في قونيه وقد هتف المتظاهرون ضد العلمانية الاتاتوركية ودعوا إلى ضرورة التصدي لموجة ما اسموه (الكفر والإلحاد) وهتفوا (تركيا إسلامية). وقد ربط المراقبون وبعض الدبلوماسيون في انقرة بين هذه الأحداث ، وتحرك الجيش وقالوا إن التحرك هذا أثار حفيظة الجيش الذي اعتبر ما حدث تحديا مباشرا للمفاهيم الاتاتوركية العلمانية التي يعد نفسه حاميا لها . وفي 12 ايلول / سبتمبر حدث الانقلاب العسكري الثالث في تاريخ  تركيا المعاصر بقيادة الجنرال كنعان ايفرن وثم حل الأحزاب وتشكل مجلس خماسي يمثل الجنرال ايفربن وأربعة من قادة الجيش .
     وفي تشرين الأول /اكتوبر 1980 تشكلت حكومة جديدة برئاسة بولند اولصو . وفي 24 نيسان ـ ابريل 1983 صدر قانون جديد للأحزاب ومن الأحزاب التي أجيزت في 19 تموز 1983 حزب الرفاه وهو حزب ذو توجه إسلامي وكان برئاسة احمد تكدال ويعد وريثا لحزب السلامة الوطني المنحل ورفع الحزب الجديد شعار النظام العادل ، ويقصد به إقامة الشريعة الإسلامية ولكن بأسلوب الحوار والإقناع .   وبعد تشكيل حزب الرفاه ، بدأت الحركة الإسلامية في نشاط مستمر وبشكل ملحوظ في كافة المدن التركية لذلك اضطرت القوى العلمانية ان تكتل نفسها في تنظيم جديد في 20 مايو / ايار 1983 باسم (حزب الوطن الأم) بزعامة الاقتصادي الليبرالي توركوت اوزال (توفي في 17 نيسان 1993 ) والغريب أن هذا الحزب واوزال بالذات نالا في انتخابات 6 تشرين الثاني 1983 ما مجموعه 211 مقعدا أو ما نسبته 52% من مقاعد المجلس الوطني الكبير (البرلمان) الذي كان يبلغ مجموع مقاعده آنذاك 400 مقعدا . وقد أفسح اوزال المجال للتيارات الإسلامية بالانتشار في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام حزب الرفاه ، لكن الرفاه واصل صعوده وفاز في الانتخابات البلدية سنة 1994 ثم في الانتخابات النيابية سنة 1995 ومما ساعدهم على ذلك حدوث انقلابات كبيرة بين صفوف الأحزاب والقوى العلمانية وانهيار ايدولوجيات اليسار الديمقراطي . وقد فتح فوز حزب الرفاه ذي الاتجاه الإسلامي ، باب النقاش واسعا أمام الحركات الإسلامية في تركيا واقعا ومستقبلا . . وهنا لابد من القول ان إجراءات أتاتورك العلمانية وممارساته وان أصابت الإسلام كنظام عبادة وثقافة وحياة بضربة قاسية ، الا ان تاريخ تركيا كما سبق ان قدمنا ، شهد مرحلتين من التعاطف مع النشاطات الاسلامية الاولى في عهد عدنان مندريس في الخمسينات من القرن الماضي والثانية في عهد توركوت اوزال في الثمانينات من القرن الماضي .
         وإذا تتبعنا مسيرة حزب الرفاه الإسلامي منذ تاسيسه سنة 1983 نلاحظ صعودا مطردا في كل الانتخابات التي جرت ، ويرى ( علي بولاج) وهو مفكر اسلامي تركي ان مواقف (القوى العلمانية والنخب الجمهورية التي احتكرت المجتمع السياسي التركي في ظروف ما قبل السبعينات من القرن الماضي كانت عاملا أساسيا في دفع الشعب لتأييد الحركات الإسلامية وفي مقدمتها الرفاه)) ، لذلك حزمت القوى العلمانية امرها ، والجيش من ورائها للوقوف ضد حزب الرفاه والقوى الإسلامية وقد جاءت الفرصة عندما القى رئيس بلدية سينجان
( إحدى ضواحي أنقرة) المنتمي الى حزب الرفاه كلمة في احتفال نظم يوم 31 يناير / كانون الثاني 1996 بعنوان ( من اجل القدس ) ودعا فيها الى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وكذلك إقدام نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاه ، الذي ترأس الحكومة الائتلافية بين حزبه وحزب الطريق المستقيم بزعامة تانسو  جيلر (19 حزيران / يونيو 1996) على التحذير من مغبة معاداة الإسلام وتنديده في تصريح نشرته صحيفة صباح 27 شباط 1997 بما اسماه (فاشية العلمنة في تركيا) ، كل هذه الأحداث جعلت الجيش يستعد لمواجهة الرفاه وقد صرح قادة الجيش ((ان المعركة ضد الإسلاميين مسألة حياة أو موت)) . كما أن الجنرال شفيق بير القائد الثاني لهيئة الأركان العامة للجيش التركي قال في خطاب ألقاه أمام المجلس التركي ـ الأمريكي: ((لن نقدم أي تنازل لأحد بشأن مبادئ أتاتورك الديمقراطية والعلمانية وننتظر من الحكومة أن تلتزم بهذه المبادئ . ان القوات المسلحة التركيــة هي الحارس الأمين لدستورنا)) .
   وهكذا اقتربت المواجهة بين حكومة اربكان والمؤسسة العسكرية ، ففي الاول من مارس / آذار-مارس 1997 خاطب الرئيس سليمان ديميريل اربكان بعد تسلمه رسالة من الجنرال إسماعيل حقي قره داغي رئيس أركان الجيش جاء فيها ((تسود قناعة عامة إنكم انحرفتم عن طريق الجمهورية العلمانية والديمقراطية ، وإنني أشاطر أصحاب هذه القناعة رأيهم )) . وأضاف ديميريل ((إذا تمسكتم كحكومة بموقفكم الحالي ، فان النظام سيكون في خطر )) . وهكذا ازداد التوتر بين اربكان وقيادة المؤسسة العسكرية وفي 28 شباط /فبراير 1997 وجه الجيش إنذارا إلى اربكان تضمن (20 نقطة) انصبت جميعها على كبح ما سمي آنذاك بـ ( التطلعات الأصولية الإسلامية) ومن هذه النقاط : فرض رقابة شديدة على المؤسسات الدينية وفرض القيود على الدعم المالي الخارجي للرفاه وإقالة أكثر من _160) ضابطا بتهمة ان لهم توجهات أسلامية وغلق التكايا والزوايا والالتزام الكامل بالمادة (174) من الدستور والتي تؤكد المبادئ الأساسية للجمهورية التركية ، وفي مقدمتها النزعة العلمانية وعدم التفكير بالسماح بارتداء الحجاب .
اجبر الجيش اربكان على الاستقالة في 18 حزيران يونيو/ 1997 وحل حزبه في كانون الثاني / يناير 1998 وأقدم أنصاره على تأسيس حزب جديد ذو توجه إسلامي باسم حزب الفضيلة وصار رجائي كونان زعيمه لكن هذا الحزب واجه كذلك عنتا شديدا من لدن ( المؤسسة العسكرية ) و(القوى العلمانية ) ولعل ابرز ما وقع هو ادانة رئيس بلدية استانبول يوم 24 ايلول / سبتمبر لمدة عشرة اشهر بسبب خطاب كان قد القاه في كانون الاول 1997 بالقرب من سعرت  وقال فيه ((إن المساجد هي ثكناتنا، والمآذن حرابنا، والقباب خوذاتنا ، المؤمنون جنودنا)) . وقد تيسرت لاوردغان بعد ذلك الفرصة للخروج من السجن وتأسيس حزب العدالة والتنمية في 14 اغسطس / آب 2001 ثم قدرة حزبه للوصول الى السلطة اثر فوزه في الانتخابات التشريعية (3 تشرين الثاني 2002) وحصوله على 263 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان ولا يزال الحزب في السلطة حتى اليوم . وقد اثبت الاتراك في اليوم الذي سماه احد المراقبين بالحدث العظيم (في 3 تشرين الثاني / نوفمبر2002) وهم مسلمون بنسبة 98,8% من اجمالي تعداد السكان ، ان المباديء العلمانية يجب ان تراجع فيما يتصل بقيم ومصالح الشعب وارتباطاته الاقليمية فالدلالات المبدئية لهذا الفوز التاريخي لحزب العدالة والتنمية متعددة ومنها اولا ان غالبية الشعب التركي قد أدركت فساد النظام السياسي واستهانته بالأعراف والتقاليد الموروثة ، والتخلص من (العمانية المتطرفة) والنفوذ الاجنبي والنقطة الثانية ان غالبية الشعب بدأت تتمرد على الوصاية العسكرية على توجهاته السياسية بل وحياته وسلوكياته الاجتماعية والنقطة الثالثة ان النفوذ الأمريكي الطاغي في دوائر صنع واتخاذ القرار في تركيا وبخاصة القوات المسلحة والأحزاب العلمانية لم تمنع الشعب التركي بانتماءه العقائدي وإصراره على هويته الحقيقة وبحثه عن ذاته وارتباطاته الإقليمية والدولية فيما يبدو ردا تاريخيا على انقلاب أتاتورك العلماني في عشرينات القرن الماضي .
    وقبل ان نختتم دراستنا هذه لابد من الاجابة على بعض الاسئلة منها ما يتعلق بموقف الجيش اليوم وهو حامي العلمانية من حكومة حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي ، وأين ردود فعل القوى العلمانية والى أي حد يمكن لهذه القوى أن تتحمل وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة وهل باستطاعتها المواجـهة وهل ان القـوى الاسلاميـة قادرة على المواجهة ؟!
    للإجابة على هذه الأسئلة لابد ان نؤكد بان حزب العدالة والتنمية وزعيمه اوردغان لايخفيان بان لديهما برنامجا إسلاميا للتعديل الجذري لقيم وتوجهات المجتمع التركي ، لكنهما يعلنان باستمرار العلمانية المعتدلة التي لاتحارب الدين وتقبلها القوات المسلحة والشعب معا ، كما ان اوردغان لايزال يتمسك بعقلانية الاتجاه الإسلامي المعتدل الذي يبني الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية والاهم من ذلك انه يؤيد استمرار دعم علاقات تركيا الخاصة ليس بالغرب وإنما بإسرائيل كذلك . ولكن هذا لم يمنع من ان يعبر عن بعض المواقف المتسامحة تجاه سعي بلاده للانضمام الى الاتحاد الأوربي وقبوله بالوساطة الأميركية والأوربية مع سوريا والعراق بشأن حصص مياه نهري دجلة والفرات وانه يتخذ موقفه رافضا للغزو الأمريكي للعراق او المشاركة فيه او دعمه وهو يطالب إسرائيل بوقف سياستها القمعية تجاه الفلسطينيين ويقينا ان حكومة حزب العدالة والتنمية قادرة حتى يومنا هذا على مواجهة ضغوط الجيش اذا ما اثبتت للجيش والعلمانيين انها لا تسعى لتعديل دستور البلاد وطابعه العلماني ، ومما يساعده في ذلك امتلاكه برنامجا واضحا لاصلاح النظام الضريبي ومواجهة التضخم ومقاومة الفساد المالي وملاحقة الثروات غير المشروعة ومحاربة البيروقراطية والعمل على وقف تدهور الأوضاع المعيشية للطبقات الفقيرة ، واية مراجعة دقيقة لمستقبل القوى العلمانية في تركيا ، تكشف ان هذه القوى تعاني من الضعف والتشرذم وطالما أصبحت القوى الإسلامية، وحزب العدالة والتنمية خاصة، قادرة على استيعاب مشكلات تركيا ومعرفة احتياجات الناس فيها ومطامحهم وخاصة فيما يتعلق بقيم العدالة والحرية ولقمة العيش ، والسعي لمواجهة المفهوم المتشدد للعمانية بانها عدوة الدين وكذلك منع استضعاف المتدينين وإيذائهم والاهم من ذلك تأكيد اوردغان انه يعمل من اجل استعادة هيبة تركيا ، فان القوى الإسلامية  ستستطيع ليس البقاء في السلطة لمراحل أخرى في تركيا وإنما لكسب ممثلي الاتجاهات العلمانية القومية التركية كذلك . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...