الفنون في العراق أيام الشدة .....الرسم والنحت مقال رائع للاستاذ الدكتور عبد الواحد لؤلؤة
الاستاذ الدكتور عبد الواحد لؤلؤة اكاديمي عراقي كبير ناقد واديب وكاتب ومؤلف له عدد كبير من الكتب كتبت عنه اكثر من مرة قرأت له في جريدة (القدس العربي) العدد الصادر يوم 21 تشرين الثاني -نوفمبر 2020 مقال جميل بعنوان ( ازدهار الرسم والنحت في العراق : الفنون أيام الشدة ووجدته ايضا منشورا في جريدة ( المشرق ) البغدادية 3 كانون الاول 2020 وفيه يقول :"عندما نتحدّث عن الفنون هذه الأيام تَحضر إلى الذهن فنون الرسم والنحت بالدرجة الأولى. ونحن نعرف جميعا ًأن التراث العربي لم يعرف فنون الرسم والنحت إلاّ في عصورٍ متأخرة، وبخاصة في أوائل القرن العشرين. في العهد العثماني كان ثمّة غير القليل من أنشطة الرسم، ولكنها تكاد تنحصر في رسم صُوَر السلاطين والقريبين منهم. أمّا نحت التماثيل للبشر، أو للسلاطين، فلم يكُن في الوارد، لأن الذهن العربي الإسلامي كان يحسب تماثيل البشر تشبيهاً لعمل الخالق؛ لذا كانت تُسمّى بالأصنام، وما يزال الناس في أواسط العراق وجنوبه يسمّون تمثال الشخص صنما.ً وبعد زوال الحكم العثماني بَرزت فعاليات طيّبة في مجال الرسم والنحت وصنع التماثيل للملوك والأشخاص، تقام في الساحات العامة في البلاد. وقد برز في بغداد الخمسينات عددٌ من الرسّامين والنحّاتين الذين تخرّجوا في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وبعضهم تخصّص في دراسة الرسم والنحت في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وفي تلك الأيام كانت الحكومة والشعب تشجّع وتدعم الحركة الفنّية في العراق، خلافاً لما صار يجري في العقدين الأخيرين، عندما صارت أمور الحكم في البلاد بأيدي أناس لا تشكِّل الفنون ودعمها أولَوِيةً في أنشطتهم.
كان من أبرز أوائل الرسّامين في بغداد الخمسينات فائق حسن (1914- 1992). ولد فائق في أسرةٍ فقيرةٍ ببغداد، وكان والِدُه يعمل في خدمةِ حديقةِ المرحوم الملك فيصل الأول. وإذ كان الفتى يُصاحِبُ والدَه كان يشغل نفسَه بالرسم. فلاحظه الملك، ووَجَدَ فيه مَوهبةً، وبخاصةٍ في رَسم الخيول، فأعطى توجيهاتٍ للرعايةِ بذلك الفتى الموهوب، وإرساله إلى معهد لتطوير تلك الموهبة. ولكن الملك تُوفّيَ قبل أن يستطيع تنفيذ تلك الرغبة. وفي عهد حفيده الملك فيصل الثاني أمكن تنفيذ رغبةِ جدّه الملك فرتّبوا له بعثةً إلى باريس لدراسة فن الرسم، كما هيّأوا له مدرِّساً للّغة الفرنسية. ولما عاد فائق من”البوزارت” بدأت إبداعاته في الرسم تسترعي أنظار المهتمّين بالفنون في بغداد الخمسينات. ومن المبدعين في فن الرسم في الفترة اللاحقة: ليلى العطار، التي استحوذت على اهتمام الفنّانين والأدباء بما كانت تعرِضُه من لوحاتٍ في كثير من المعارض. وقد استمرّت الحكومات المتعاقبة في رعاية أعمال ليلى العطار حتى عُيِّنت مديرةً للمتحف الوطني للفن الحديث ببغداد. ولكن الغزو الأمريكي للعراق قضى على الفنّانة الكبيرة وعلى الدار ومن فيها.
ومن الرسّامين الذين اشتُهروا في هذه الفترة: شاكر حسن آل سعيد، الذي كان يركِّز على موضوعات التراث العربي والإسلامي ويستخدم الخط العربي كموضوعاتٍ لأعماله.
ويُشكِّل النحت في صنع التماثيل، كما في النحت على الخشب لأبواب القصور والأبنية ذات الأهمية التاريخية، وبوّابات المساجد والجوامع ذات الأهمّية التراثية، جانباً آخر من الإبداع الفنّي في عراق خمسينات القرن الماضي. وقد برز بين عددٍ كبير من النحاتين أسماء خالد الرحّال (1926- 1986) وإسماعيل فتّاح (1934-2004) وآخرون. و قد ترك هؤلاء النحّاتون أعمالاً جميلةً ومُهمّةً في ساحات بغداد وفي بعض المدن العراقية الأخرى. وفي بغداد ما يزال قوس النصر قائماً على الرُّغم من ارتباطه بفترةٍ سياسيةٍ مؤلمة، ولكنه يبقى عملاً يُمثل روحَ الشَعب العراقي المتطلِّع دائماً إلى القوّة والمَنَعَة. ومن أعمال النحت المهمة تمثال رأس أبي جعفر المنصور المصنوع من البرونز والمُقام في منطقةٍ مُهمَّةٍ إلى الغرب من حيّ المنصور. ولكن هذا التمثال قد حطّمه بعض أصحاب السياسة والحزبية التي أساءت إلى مفهوم التراث الذي يخصّ جميع العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الحزبية. وفي البصرة مُقابل بنايةِ مَصرفٍ كبير أقيم تمثال لشاعر العراق الشهير بدر شاكر السياب. ومن أعمال النحت البارزة للنحّات والخزّاف إسماعيل فتّاح: نُصب الشهيد وتمثال الرّصافي وتمثال أبو نواس. وجميع هذه التماثيل ترتفع في أجواء بغداد وتبقى شاهداَ على التطوّر الفني الذي ازدهر في خمسينات القرن الماضي. أما قوس النصر الذي لم توافق قوات الغزو الأمريكي على إزالته فقد بقي للاحتفالات تسير من تحت السيفين الهائلين من ذلك التمثال؛ كما بقيت في زاوية قوس النصر 5000 خوذة للجنود الإيرانيين جُمِعت من ساحات الحرب العراقية-الإيرانية، وبقيت تذكاراً يجمع بين العِزّة الوطنية وذكرى الحرب المأساوية. ومن أعمال خالد الرحّال التي بقيت شامخةً في الأجواء البغدادية نُصب الجندي المجهول. وفي جميع أعمال النحت العراقية كانت ذكرى وتأثير الفنان الكبير جواد سليم حاضرةً، وحتى بعد وفاته. يذكر الجميع أن خالد الرحّال، الذي كان يقدِّس أستاذَه ورائدَه في فن النحت جواد سليم، جاء مسرعاً إلى جُثمان الراحل وقد حَملَ معه عجينةً خاصة غطّى بها وجه الراحل، لكي يصنع منها قناعاً يخلّد الفنان الكبير. ومن أعمال خالد الرحّال تمثال الأم المُقام في حديقة الأمّة في بغداد.
أمّا شيخ النحّاتين محمد غني حكمت (1929- 2011) فقد وُلِد في الكاظمية وتوفِّي في عمّان بعد أن اضطُرَّ إلى مغادرة بغداد عندما ساءت الأحوال بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. في عمّان استطاع محمد غني أن يُعيد تأسيس مَشغَلِه ويستأنف نشاطه في النحت. ومن هناك لم تتوقف الدعوات من شتّى الأقطار العربية لكي يصنع لهم تماثيل أو ينحت لهم أبواباً خشبيةً، وبخاصة في قصور الشيوخ في الإمارات العربية المتحدة، مثل إنجازه منحوتات على الخشب لزينة جامع زايد الكبير في أبو ظبي.
بعد تخرُّجِهِ في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1953 سافر محمد غني ببعثة إلى روما عام 1955 حيث زاد من خِبرَته في فن النحت، ثم صناعة الميداليات في “لزكا” عام 1956 وفلورنسا عام 1961 حيث تعلّم صب البرونز. ولما عاد إلى بغداد اشتغل مع النحّات الكبير جواد سليم أثناء إعداد منحوتة نُصب الحرية، التي ما تزال قائمة في بغداد، وتجتمع تحتها جميع المظاهرات الشعبية الوطنية. وفي إيطاليا فاز محمد غني بتصميم وإنجاز بوّابة كنيسة “تِستا دي ليبرا” وإيطاليا بلد النحّاتين؛ كما أنجز إحدى بوّابات اليونيسيف في باريس، وأنجزكذلك خمسة أبواب لمسجدٍ قديم في البحرين. وفي بغداد ترتفع أعمال محمد غني النحتية مثل تمثال شهرزاد وشهريار، القائم في شارع أبي نواس، على ضفة نهر دجلة. ومثل ذلك تمثال كهرمانة، وعلي بابا والأربعين حرام. يستوحي محمد غني حكمت أعماله من التراث العراقي القديم: السومري والبابلي والأكدي، كما يستوحي تراث العراق في العهد العباسي، إلى جانب مَشاهد من الحياة الشعبية في عراق الخمسينات. ومن التماثيل الشهيرة التي صنعها محمد غني حكمت تمثال المتنبّي . وأذكر باعتزاز أن هذا النحّات الكبير قد أهداني عدداً من “الماكيتات” من أعماله مثل تمثال المتنبي الذي طلبتُ منه أن يُلوِّنَه لي بلون البرونز، فما عاد الناظر إليه يتصوَّر أن الأساس من الجبس الأبيض. وقد أهداني كذلك ماكيت “القهوة البغدادية” وهي منحوتة طولها متر، تصوِّر مجموعةً من الشخصيات البغدادية الجالسين على المقاعد الخشب في المقهى البغدادي، يدور أمامهم صَبي يحمل “إستكان الشاي”. وهذه الصوَر تكاد تنطق؛ وقد بقيت زينةَ غرفةِ الطعام في بيتنا في حي الجامعة في بغداد.
والذي يتوِّج ازدهارالفنون في الرسم والنحت أعمال المعمارية العراقية العالمية زَها حديد (1950- 2016). ولدت زَها في بغداد، وكان والدُها محمد حديد من كبار الاقتصاديين في عراق الخمسينات. وبعد تخرُّجها في الجامعة الأمريكية ببيروت، متخصِّصةً بالرياضيات، ذهبت إلى لندن للتخصص في فنون المعمار. وقد أبدعت في ذلك واسترعت أنظار المتخصّصين في العمارة في بريطانيا وأوروبا وأمريكا. كان لهذه العراقية المتميِّزة أسلوباً أصيلاً في العمارة، يتميّز بالضخامة والارتفاع، والخطوط والزوايا غير التقليدية. وقد أقامت أبنيةً غير مسبوقةٍ في عالم المعمار في كلٍّ من السعودية ومصر ودُبي وباكو وبلجيكا وإنسبروك في النمسا وفي قطر والصين. وقد حازت هذه المعمارية المتميِّزة على التكريم في عددٍ من البلاد العربية والأوروبية وفي أمريكا، وبقيت محتفظةً بعروبتها وعراقيّتها. ومن سخرية القَدَر أن تنتهي حياتها في عملية لعلاج الإضطرابات التنفّسية في أفضل المستشفيات في العالم لهذا العلاج.
السؤال الذي لا يمكن أن يبرَح الذهن لأيِّ مُهتَمٍّ بالفنون هو: هل يُمكن أن يعود ازدهار الفنون في عراق أيّام الشدّة، بعد أن فقد جميع الظروف التي كانت سبباً في تطوّر الثقافة والفنون، بدعم منذ تأسيس الحُكم الوطني في العراق، والذي تضاءل بل انتهى في حياة العراق في العقدين الأخيرين من هذا الزمان اللاّيُسَمّى؟.
علق الاستاذ علي القاسمي على المقال في جريدة ( القدس العربي) وهو محق يقول :"أشكر صديقي الدكتور أمين ملك الذي لفت انتباهي إلى مقال أستاذنا الأديب الدكتور عبد الواحد لؤلؤة. أمتعني المقال وأفادني.ولكن لفت انتباهي عدم ذكر أثنين من رواد الحركة الفنية في العراق وكليهما أصلاً من مدينة الدكتور لؤلؤة، الموصل أم الربيعين.ـــ جواد سليم (1919 ـــــــ 1961) الذي نال الجائزة الفضية في النحت وعمره 11 عاماً في أول معرض للفنون في بغداد سنة 1931. ثم درس الفنون التشكيلية في باريس وروما ولندن. ودرّس في معهد الفنون الجميلة وأسس بالاشتراك (جماعة بغداد للفن الحديث)، واشترك في إقامة (نصب الحرية) ببغداد.و خالد الجادر (1922ـــــ1988) الذي درس الفن التشكيلي في باريس ، ونال دكتوراه في تاريخ الفن ، ولعل أستاذي الدكتور لؤلؤة قد ذكرهما في قسم آخر من دراسته، أو في قسم حذفه المحرر لحرصه على حجم معين للمقالات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق