تكارتة الموصل
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
وكثيرا ما يسألني البعض سؤالا محددا وهو ما قصة التكارتة في الموصل واقول ان كثيرا من القبائل العربية نزحت من تكريت الى الموصل ضمن موجات بشرية وعبر عصور مختلفة اقدمها تعود الى القرن العاشر الميلادي وهناك موجة بشرية وفدت الموصل من تكريت في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرن السادس عشر الميلادي وفدت موجة ثالثة وفي الاربعينات من القرن الماضي اي القرن العشرين وفدت اسر تكريتية وهكذا اصبحت الموصل تضم قبائل واسرا وعوائل تكريتية واصبح بمقدورنا ان نتحدث عن من نسميهم (تكارتة الموصل ) .
ومما يجب ان نقوله تذكيرا للناس ان مدينة تكريت كانت مركزا من مراكز الديانة المسيحية في العالم وكان من بين الذين وفدوا الموصل من المسيحيين ومنهم من المسلمين وقد سكن الوافدين من تكريت عبر العصور المختلفة في منطقة محددة من الموصل سميت بمحلة التكارتة وتقع هذه المنطقة بين محلتي شهر سوق والباب الجديد ويشير شيجنا الاستاذ سعيد الديوه جي في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الموصل ) والمطبوع سنة 2001 الى ان المنطقة التي انتشر فيها التكارتة تقع بين جامع الجويجي او الجويجاتي في باب العراق وبيعة مار حوديمي ومسجد بيت التكلريتي في محلة شهر سوق حيث ثمة معلم بارز عند بيعة مار حوديني التي تسمى بيعة التكارتة وعند مسجد بيت التكريتي الملاصق لها ولم تزل اثار هذه المنطقة شاخصة بالرغم من الدمار الذي حل بها ابان سيطرة عناصر داعش على الموصل بين سنتي 2014 و2017 .
لقد عرفت محلة التكارتة هذه حق المعرفة وكثيرا ما كنا نتحدث عنها انا واخي وصديقي المرحوم الاستاذ احمد سامي الجلبي رئيس تحرير جريدة (فتى العراق ) الموصلية فهو من ال الجلبي التكارتة الذين وفدوا الى الموصل وسكنوا فيها ومسجدهم الذي يسمى مسجد بيت التكريتي او مسجد اولاد حسن التكريتي معروف وبيت الجلبي هم الذين شيدوه وهو مجاور لبيعة مار حوديمي .
مسجد التكارتة او مسجد بيت بيت التكريتي الذي يعرفه ابناء محلة شهر سوق حق المعرفة بناه اولاد الحاج حسن التكريتي سنة 1177 هجرية – 1764 ميلادية واعاد عمارته الحاج عبد الرحمن جلبي بن اسماعيل بن الحاج ذنون حوالي سنة 1234 هجرية - 1819 ميلادية والحاج عبد الرحمن جلبي التكريتي هو جد اسرة الجلبي التكريتية المعروفة في الموصل وبرز منهم المرحوم الاستاذ ابراهيم الجلبي صاحب جريدة فتى العراق التي كانت ملكيتها منذ سنة 1930 للمحامي احمد سعد الدين زيادة بن داؤد الملاح ال زيادة قبل ان تنتقل ملكيتها للمرحوم ابراهيم الجلبي سنة 1934 وانجزنا عنها اطروحتان في جامعة الموصل بإشرافي .
ومسجد بيت التكريتي مبني الى جانب كنيسة او بيعة مار حوذيمي وهي التي تعرف ببيعة التكارتة ومن الطريف ان اقول ان التكارتة الذين وفدوا الى الموصل من تكريت كانوا مسلمون ومسيحيون فالمسلمين بنوا مسجدا والمسيحيون بنوا بيعة والمسجد والبيعة متلاصقتان بعضهما الى بعض وقد سكنوا مجتمعين منذ القرن العاشر الميلادي الرابع الهجري .
وقد كتب المؤرخ نيقولا سيوفي وهو دمشقي عمل قنصلا لفرنسا في الموصل منذ سنة 1889 حتى سنة 1893 عن مسجد بيت التكريتي فقال انه كان فوق باب المصلى (إنما يعمر مساجد الله (الى ) ولم يخش الا الله ) سنة 1177 وفي اعلى المحراب ( لااله الا الله محمد رسول الله ) وفوق الكتابة على يسار المحراب ( في بيوت اذن الله ان ترفع ( الى ) رجال ...تطوع بعمارة هذا المسجد اولاد الحاج حسن سنة 1177 هجرية - 1764 ميلادية وفي الجهة اليمنى من المحراب وداخل دائرة قطرها 30 سم ( انما يعمر مساجد الله من آمن ) وفي الجهة اليسرى منه وداخل دائرة قطرها 30 سم ( بالله واليوم الآخر واقام الصلاة ) .
كتب المؤرخ المطران سليمان صائغ في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ الموصل ) والذي طبع في القاهرة سنة 1924 عن كنيسة مار حوديني او كنيسة مار احودمه فقال انها تقع في محلة القنطرة ومحلة القنطرة هي نفسها محلة شهر سوق او هي ملاصقة لها وهي كنيسة عريقة ترجع الى القرون الاولى للمسيحة شأنها شأن كنيسة القديس بطرس او كنيسة شمعون الصفا ونظرا لقدميتها فإنها منخفضة عن مستوى جوارها بنيف وثمانية امتار الا ان تجديدها المرة بعد الاخرى قد ذهب للاسف بمعالمها الاصلية .وتنسب هذه الكنيسة الى التكريتيين او التكارتة النازحين الى الموصل بسبب الكوارث التي لحقتهم والجأتهم الى ان يتفرقوا في المدن الكبيرة ومنها الموصل فأقاموا لهم الكنائس .
كانت كنيسة مار حوديمي وهناك من يسميها كنيسة مار حوذيمي في الموصل بالكنيسة العتيقة ويرتقى عصرها حسب اقدم دليل باليد الى ما قبل القرن العاشر الميلادي لان المفريان اغناطيوس برقيقي كان ارشدياقونها سنة 919 ميلادية وجاء ذكر هذه الكنيسة كثيرا في تاريخ كنيسة المشرق خاصة وان بعض المفارنة اقاموا فيها ومنهم المفريان اغناطيوس لعازر .
ولاتزال كنيسة مار حوديمي قائمة يؤمها الكثيرون من اهل الموصل للتبرك معتقدين بقدميتها وان كانت خالية من الكتابات القديمة كما جاء في مجلة (المشرق ) الموصلية العددان 8و9 لسنة 1949 .
اعرف كثيرا من الاسر التكريتية في الموصل ولازلت اذكر صديق جدي في محلة باب الطوب الحاج يعكوب التكريتي وكنت وانا طفل صغير اذهب عندهم في بيتهم ولم يكن لديه ولد وكان يعمل علافا مع جدي في علوة سوق الحنطة الجديد مقابل المركز العام قي باب الطوب .
من الاسر التكريتية التي كتب عنها المؤرخ المرحوم الاستاذ عبد المنعم الغلامي في كتابه ( الانساب والاسر ) والمطبوع سنة 1965 اسرة ال الجلبي وهم غير اسرة الدكتور داؤد الجلبي وغير اسر ال الجلبي الذين هم من عائلات اخرى في الموصل ايضا وفي بغداد واسرة ال الجبي التكريتية الموصلية اسرة اموية كانت تقيم في جنوب سوريا وقبل حوالي 300 سنة وصل بلدة تكريت جد من اجدادهم بصفة (متسلم ) اي نائب حاكم في سنجق اي لواء وبعد تقاعده سكن تكريت ثم انتقل الى الموصل مع افراد عائلته واستقر في المحلة التي كان يسكنها التكارتة وزاول اولاده واحفاده مهنة التجارة واشتهروا ببيت الجلبي ولقب الجلبي العثماني يطلق على التجار . وكان من ابناء ال الجلبي في الموصل الحاج احمد بن الحاج حسن الجلبي وكان له ولدان هما الحاج مراد والحاج حسن والحاج حسن كما سبق ان قلت هو من اشاد سنة 1177 هجرية – 1764 ميلادية مسجد التكارتة .
وممن اشتهر ايضا من هذه الاسرة ابراهيم الجلبي الذي امتهن الصحافة واصدر جريدة فتى العراق وهي من ابرز صحف الموصل وكانت بمثابة مدرسة صحفية تخرج فيها المئات من الشعراء والادباء والكتاب كما اسس مطبعة ام الربيعين وترأس جمعية البر الاسلامية وجمعية الدفاع عن حقوق فلسطين وله من الاولاد محمود وسعد الدين الذي استشهد خلال حركة الشواف سنة 1959 وكان ضابطا واحمد سامي واسامة ونبيل واديب ولهذه الاسرة دور مشهود في تاريخ الموصل في ميادين الصحافة والسياسة والمحاماة والطب والتعليم .
في (موسوعة الاسر الموصلية في القرن العشرين ) للاخ الاستاذ ازهر العبيدي والتي اصدرها سنة 2015 ذكر لال التكريتي وقال انهم من ابناء بكر بن احمد بن قاسم الناصري سكنوا محلة الشيخ عمر وعملوا في النقل النهري والزراعة ومنهم تاجر التمور الحاج خطاب بكر التكريتي ومحمد خطاب التكريتي وعمر خطاب التكريتي واياد خطاب التكريتي والقاص والناقد عبود عبد الله بكر التكريتي وابنه الدكتور عمار .و من العوائل التكريتية المشهورة ايضا بيت الحاج سعيد الطاهر . وبيت الحاج زيدان الناصر.
وقد اشار الاخ الدكتور محمد فوزي العجيلي الى ان عشيرة البو عجيل في الموصل الذين اشتهروا بمهن مختلفة اصلهم من تكريت من منطقة البو عجيل أيضاً نزحوا من تكريت الى الموصل وسكنوا فيها ومازالت صلة القربى بينهم متواصلة ويلتقون سوية في الجد الرابع أو الخامس أحياناً.
كما سبق ان كتبت عن المربي الاستاذ ياسين محمد الخليل القيسي التكريتي (1910 - 1983 ) وهو من المربين العراقيين المعروفين ، وأحد أبرز رواد التربية والتعليم في العراق ولد في مدينة تكريت سنة 1910 وعين معلماً في بغداد سنة 1928 و نقل إلى الموصل سنة 1963 واصبح مديرا لمدرسة الجمهورية ثم مديرا لمدرسة ابن حيان الابتدائية .وقد احيل على التقاعد سنة 1966 ومن اولاده الدكتور ربيع الطبيب المشهور ، والدكتور بديع كان مشرفا تربويا وكان مدربا للمنتخب الوطني لرفع الاثقال السابق و الاستاذ الدكتور وديع عالم البايوميكانيك والحكم الدولي وعالم الرياضة المعروف ومساعد رئيس جامعة الموصل الاسبق والاستاذ الدكتور بهيج طبيب الباطنية والقلبية المعروف . والاستاذ نزيه ويعمل مدرسا في " اعدادية القبالة والتوليد " في دائرة صحة نينوى .
ليس من السهولة رصد كل الاسر التكريتية في الموصل فهناك الكثيرون من التكارتة الذين برزوا في الموصل في ميادين مختلفة منها الادب ومنها التعليم ومنها التجارة ومنها السياسة .كما أنني أعرف بعض رموز الاحزاب من السياسيين التكارتة عُرفوا في الموصل لايتسع الوقت لذكرهم جميعا لكن اهلي في الموصل يعرفونهم وهم يحظون بإحترام وتقدير واعتزاز الموصليين .
*صورة المرحوم ياسين الخليل وصورة المرحوم ابراهيم الجلبي
2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق