السبت، 23 مايو 2015

الإسلام في البلقان وأوربا الشرقية أ.د. إبراهيم خليل العلاف

الإسلام في البلقان وأوربا الشرقية
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل -العراق
      
         تؤكد الدراسات المتداولة، ان العثمانيين قاموا بدور كبير في نشر الإسلام في منطقة البلقان واوربا الشرقية. كما هو معروف فان العثمانيين الذين ظهروا في آسيا الصغرى (الأناضول) أواخر القرن الثالث عشر، وانشأوا دولتهم سنة 1299م ، توسعوا على حساب السلاجقة والبيزنطيين . وفي القرن الرابع عشر، وطد العثمانيون أقدامهم، في نقاط إستراتيجية مهمة في البلقان حتى أن عاصمتهم الأولى (أدرنه) كانت تقع هناك. وفي سنة 1453 سقطت القسطنطينية (استانبول) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية وسماها العثمانيون (اسلامبول) أي مدينة الإسلام. وقد اندفع العثمانيون بقيادة السلطان محمد الثاني (الفاتح) 1451-1481، للتوجه نحو أوربا ومنطقة البلقان بالذات.
         لم يفتح العثمانيون شبة جزيرة البلقان بحملة واحدة، أوفي سنة واحدة ، بل تواصل هذا الفتح حوالي قرنين من الزمان (1359-1550). في الواقع اخذ الفتح العثماني الذي كان قد بدا من تقصى الشرق يتوسع في البلقان بالتدرج في اتجاه الغرب والشمال، حيث كانت بعض المواقع الإستراتيجية في الأطراف الجديدة، تتحول بسرعة إلى (مراكز عسكرية- إدارية ) مهمة تنطلق منها الحملات الجديدة وتنشأ وتتطور باستمرار (مدن جديدة) على الأطراف كما هو الأمر مع صوفيا بعد سنة 1384، وسكوبيا بعد سنة 1392، ونيش بعد سنة 1462، وبلغراد بعد سنة 1521، وبانيالوقا بعد 1527 وغيرها . وفي سنة 1580 أصبحت البوسنة ولاية عثمانية وكان مقر الولاية أول الأمر بعد بنيالوقا ثم انتقل إلى سراييفو (سراي بوسنة) سنة 1639 ثم الى ترافونيك وعاد إلى سراي بوسنة سنة 1850.
         يذهب بعض الباحثين وأبرزهم محمد الارناؤؤط في كتابه: (دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان) إلى أن الإسلام دخل إلى البلقان قبل الحملات العسكرية وبداية الحكم العثماني فيه. وقد طبع العثمانيون مدن البلقان بالطابع الشرقي حتى ان بلغراد مثلا بقيت تدعى (بوابة الشرق) فترة من الزمن.
وفي العقود التي تلت الفتح العثماني، أصبح الإسلام ابرز سمة فكرية في حياة سكان البلقان، حيث اعتنق الكثيرون الدين الإسلامي وكان هذا اشد الوضوح في البوسنة والهرسك، وكوسوفا في يوغسلافيا (فيما بعد) والبانيا.
           وقد استطاع المسلمون البوشناق (البوسنيون) ، كمجموعة سكانية على مدى أكثر من خمسة قرون، تطوير ثقافة خاصة بهم شملت واستوعبت مجموعة من التقاليد الشرقية والغربية على حد سواء.
          ويؤكد المؤرخون بان سياسة التسامح الديني الذي اتبعها العثمانيون هناك ، كان لها اثر كبير في قبول السكان للحكم العثماني ، لكن المناورات والمؤامرات السياسية التي عرفتها المنطقة بتأثير الدول الأوربية - فيما بعد-  أفسدت ذلك وخلقت  الانقسامات بين السكان فظهرت بعض حركات العصيان ومنها مثلا الحركة التي قادها الضابط حسين كرادا شفيتس في البوسنة سنة 1831 والتي استمرت حتى 1850.
         لقد تطلبت استمرارية الوجود العثماني باتجاه الغرب والشمال، الاهتمام بالطرق الإستراتيجية التي كانت تمتد من (أدرنة) ثم من استانبول بعد 1453 باتجاه صوفيا وباتجاه الشمال الغربي نحو (بلغراد) وقام الدراويش المتصوفة وخاصة من القادريين والمولويين والنقشبنديين بدور ملحوظ في نشر الإسلام واثارة حماس المقاتلين خلال العلميات العسكرية في تكريس الاستقرار في المناطق المفتوحة من خلال الزوايا التي أقاموها. ويشير هاري نورس في كتابه (الاسلام في البلقان) الذي نشر في لندن سنة 1993 إلى اثر الطرق الصوفية التي انتقلت وانتشرت في البلقان وكيف ان بعض (الزوايا) تحولت الى (قرى) و (بلدات) و(قصبات) منها روغاتيا وجلبي بازار على الطريق بين سراييفو ونيشغراد وفيسوكو على الطريق بين سراييفو وترافيك واسكندر وقف على الطريق بين بانيالوكا وترافينك في البوسنة وغيرها.
       كما قامت الجوامع السلطانية ومؤسسة الوقف بدور مهم في التطور العمراني والحضاري في البلقان.  وأكدت الدراسات الحديثة ان معظم الجوامع التي تأسست في البوسنة أدت إلى نشوء مدن مهمة . ومن الذين كتبوا في هذا المجال محمد الارناؤوط في كتابه: (دراسات التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان).
      لقد وطد العثمانيون أقدامهم في نقاط إستراتيجية مهمة كاليونان في سنة 1399وصربيا سنة 1389 وبلغاريا سنة 1393 والبوسنة سنة 1464 . وبعد انتصار العثمانيين في موقعة موهكس الشهيرة سنة 1526 أخضعت هنغاريا (المجر). وفي سنة 1547 أدمجت معظم هنغاريا وتراتسلفانيا بالدولة العثمانية.
       لقد تمثل رد الفعل الأوربي على التوسع العثماني في تنظيم سلسلة من الحملات الصليبية التي استهدفت رد العثمانيين من اوربا. وقد تمت هذه الحملات في السنوات 1364و 1371 و1389 و1396 وعندما دخلت الجيوش العثمانية المجر في عهد مراد الثاني 1421-1451، نظمت اوربا حملة صليبة تركت فيها دول منها بريطانيا والمانيا، وفي عهد سليمان القانوني 1520-1566 فتحت بلغراد والمجر ووصلت الجيوش العثمانية الى أبواب فينا عاصمة النمسا وحوصرت فينا ثانية سنة 1683 لكن تراجع العثمانيين أمام اسوار فينا وتوقيعهم  معاهدة كارلو فتز، وضعت حدا لتاريخ الوجود العثماني في البلقان، فلم تعد الدولة العثمانية بعدها ذلك الخصم العنيد الذي يهدد الدول الغربية، بل انعكست الآية وصارت أوربا هي التي تهدد وحدة الدولة العثمانية ، وكانت روسيا في مقدمة الدول الأوربية المتحمسة لاقتسام ممتلكات العثمانيين الذين أسمتهم بـ(الرجل المريض). وعندما جاء القرن التاسع عشر برزت إلى الوجود (المسالة الشرقية) 1821-1830 التي لم يكن القصد منها إلا التنافس والعداء بين الدول الأوربية لاقتسام  ممتلكات الدولة العثمانية.
          ولعل من المفيد أن نشير إلى تقرير سري مهم رفعه الجنرال سباستياني الى نابليون بونابارت في 12 تموز 1808 وتطرق فيه إلى (أوضاع المسيحيين) في الدولة العثمانية وخاصة في البلقان. قال سباستياني : "إن روسيا لا تستطع الاعتماد حاليا، من بين مسيحي الدولة العثمانية إلا على الصربيين . إما الذين يعيشون في بوسنا وبلغاريا فلم تجد أية دولة مسيحية تهاجم هذه المنطقة، أية مساعدة منهم بل سيكون هؤلاء عالة وعبئا عليها، لان هذه الدولة ستضطر إلى حمل عبء المحافظة على هؤلاء من العثمانيين".
      ويتساءل سباستياني قائلاً : "هل نستطيع إدخال الفرقة بين المسلمين في البلقان " ؟ . ويجيب: " إذا أمكن خلق النزاع.. فان الاستيلاء على الارض التي يسكنها العثمانيون في اوربا يكون سهلا" . ويستدرك ليقول : إن (البوسنة) اقل المناطق العثمانية في أوربا رابطة مع الدول العثمانية، ولكن من المستحيل أن ترى أناس مثلهم في قوة عقيدتهم  (الإسلامية)  ، واستعدادهم للتضحية بأنفسهم بكل شوق في سبيل الدين) . ويعلق جورج لتشوفسكي  في كتابه : "الشرق الأوسط في الشؤون العالمية " على هذا التقرير بقوله: " إن الخطط التي كانت توضع للإجهاز على الدولة العثمانية، كانت تستهدف أولا هدم العامل الديني، وما كان يؤججه في قلب الشعب المسلم من عاطفة الجهاد... " .
      وفي 24  آذار 1999 بدأ حلف شمال الأطلسي حربة على يوغسلافيا وقد أودت الحرب  بحياة الالاف من السكان، فضلا عن تدمير البنية التحتية ليوغسلافيا وتشريد أكثر من مليون إنسان معظمهم من مسلمي كوسوفو. يقول اكناس رامونيه رئيس تحرير (لومند دبلوماتيك) : " إن على الاتحاد الأوربي بشكل خاص ان يرفض استقلال كوسوفو ، وبذلك يخلي ساحته من مسؤولية تمزيق أوربا الى دويلات صغيرة خاصة في هذه المنطقة ، ففي مقدونيا المجاورة مثلا تصل نسبة ذوي الأصول الالبانية الى 30% وفي الوقت نفسه على الاتحاد الأوربي ان ياخذ زمام المبادرة وينأي بنفسه عن العدوان ، ويقنع بلغراد بأهمية إعادة وضع الحكم الذاتي الذي كانت كوسوفو تتمتع به فهل سيحصل ذلك".
       تؤكد الحقائق التاريخية التي تعرضنا اليها في أعلاه ومانشر من وثائق حديثة ان أوربا والغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا لاتتحمل ظهور (دولة إسلامية) داخل أوربا . وفي الرسالة الوثيقة التي يمكن ان نطلق عليها (وثيقة ميجر) تأكيد على ذلك فهي تكشف بما لايدع مجالا للشك أن الغرب يعمل على منع المسلمين في أوربا من حق إقامة دولة لهم ويسعى لاثارة  الحروب العرقية والنعرات الدينية بين الأجناس والأقليات في أوربا خدمة لمصالحه وهيمنته على العالم.  يقول جون ميجر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في رسالة بعثها الى دوغلاس هوغ مسؤول ادارة الشؤون الخارجية والكومنولث البريطانية مؤرخة في 2 من أيار-مايو  1992 : " حتى ان تتم التسوية النهائية ومهما كان الثمن .. علينا ان نتأكد من عدم قيام دولة إسلامية داخل أوربا .. كما ان علينا التأكد من عدم السماح لاية دولة اسلامية ان يكون لها دور في مجريات السياسة الغربية في هذه المنطقة " .
     أي مستقبل للمسلمين في منطقة البلقان ؟ يجيب على هذا السؤال هاري نوريس المستشرق البريطاني ومؤلف كتاب : " الإسلام في البلقان " بقوله : "إن الباحث المعروف الكسندر بوبوفيتش الذي كان قد تنبأ بمستقبل مزدهر للمسلمين في البلقان عام 1986 من خلال كتابه "الإسلام البلقاني " يبدو في الواقع الحالي مفرطا في التفاؤل .فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وسقوط الأنظمة الشيوعية أصبح المسلمون في البوسنة والهرسك يبحثون عن أمل لاستمرارهم في الوجود ،بينما يعيش المسلمون في ألبانيا في ضياع مما ينذر بانبعاث الكاثوليكية من جديد في تلك البلاد .وها هو الوضع في كوسوفو وانتشار الاسلامفوبيا أي الخوف من الإسلام في البلقان حتى ان المستشرق نوريس يرصد حالة الخوف من ما يسمى الخطر الإسلامي الذي بدأ يتبلور في البلقان .ويستشهد بحديث لصحفيين صربيين مع باحث أوربي غربي يحاولان فيه ان يقنعاه بأن مايسمى الخطر الإسلامي لايهدد صربيا فقط بل انه يهدد فيننا وباريس ولندن .ويرى المؤلف في هذا السياق ان هذه المشاعر لاتزال تتنامى من بؤر حية لاتنطفئ إلا وهي "معركة كوسوفو " التي جرت عام 1389 والتي حولتها الأساطير الصربية الى معركة متجددة بين المسيحية والإسلام .*
****************************

*نشرت المقالة في جريدة "الرسالة الإسلامية " التي كانت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تصدرها .العدد 273 -2000 الصفحات 41-44 .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...