الجمعة، 19 ديسمبر 2014

الدكتور محمّد مهدي البصير في خطراته بقلم : ا.د. سعيد عدنان

الدكتور محمّد مهدي البصير في خطراته
بقلم : ا.د. سعيد عدنان
ولد محمّد مهدي البصير في أُخريات القرن التاسع عشر؛ في سنة 1895، يوم كانت البلاد تشقى بالعثمانيّين؛ فأدرك أشياء من مظالمهم وعسفهم وغمطهم الناس، وتطلّع أن يُتاح للبلد النجاء، وأن يُمسك أهله زمام أمره. كانت أسرته أسرة دين، وخطابة، ومنبر؛ فتعلّم منها العربيّة، والدين، وحسن مخاطبة الناس. وإذا كان قد فقَدَ بصره في سنواته الأولى فقد وُهِبَ ذكاء، وفطنة، وحفظاً، ورغبة في العلم، وإقبالاً عليه. وإذ تعلّم العربيّة شرع يحفظ الشعر القديم، وأخذ يقول شيئاً منه في أغراض كانت سائدة بين أصحاب الأدب. ثمّ وجد السبيل تتّجه به نحو المنبر فرقيه وهو في منتصف العقد الثاني من عمره، وسمع الناس منه شعراً؛ بعضه ممّا حفظه، وبعضه ممّا نظمه؛ وهو نظم يجري مجرى محفوظه. كان العهد العثمانيّ ينحدر نحو زواله، وكانت طبول الحرب العالميّة الأولى وأبواقها تؤذن بانهيار الدولة العثمانيّة، وتفتّت كيانها، وتُطمع الناس أن يكون أمرهم بين أيديهم؛ غير أنّ الحرب تكشّفت عن غزوٍ قبيح ألقى بكلكله على البلاد؛ فلم يزد الأمر على أنّ غازياً جديداً طرد غازياً قديماً! فكان لا بدّ أن ينشأ من أهل البلاد من يأبى على الغزاة غزوهم، ويريد أن يرجع الأمر إلى نصابه. كان الشيخ البصير، وهو يومئذٍ خطيب ذو عِمامة بيضاء، قد أدرك موضع خطر هذا الغازي الجديد فسعى يبصّر الناس ويحرّضهم؛ بالخطابة والشعر، والعمل السياسيّ المنظّم؛ يُشيع ذلك في بلدته الحلّة حتّى إذا بلغ منها ما يريد قصد بغداد، وصار يخطب في جامع الحيدرخانة، وفي غيره، وهو على بيّنة من أمره؛ لا يضطرب عنده موقف، ولا يختلّ لديه قول؛ حتّى اندلعت ثورة العشرين فكان في الصميم منها شعراً وخطابة، وإدارة موقف. وليس أمراً يسيراً أن يكون المرء ثابت الموقف، مستقيم الرأي؛ فلقد اضطرب من الشعراء من هو أسن من البصير، وأقدر على مزاولة النظم فانزلقت أقدامهم مع الإنكليز، وراحوا يحطبون في حبالهم. أمّا البصير فلم يلتبس عليه أمر، ولم يختلبه مطمع، ولم يُرهبه سلطان، ولم يستبدل بالروح الوطنيّة شيئاً، وبقي في طليعة الثورة العراقيّة حتّى كان من أمرها ما كان، ووقع على زعمائها ما وقع، فأصابه ما أصابهم من أذى ونفي. كان بعيداً عن المغانم لا يقربها، ولا تقربه؛ قد أخذ نفسه بالعفّة والزهادة منذ نشأ؛ يتوقّد في حنايا قلبه روح وطني لا يخالجه ريب. وهو بعيد، من بعد ومن قبل، عن المقايضة وما هو منها بسبب. رأى، بعد أن أُنشئت الدولة العراقيّة، أن يكتب قصّة الثورة التي قامت؛ فكتب في سنة 1923 (تاريخ القضيّة العراقيّة) فكان فيه مؤرخ الثورة، بعد أن كان من قبل شاعرها وخطيبها. وقد جرى فيه على نهج سديد من تحرّي الحقائق، وحسن بيانها. وعاد يزاول التدريس، وينظم الشعر وينشره، وينأى شيئاً ما عن معترك السياسة لئلا يعلق به وضَرٌ من أوضارها، ويهيئ نفسه لمزيد من الدراسة. كان قد جعل نصب عينيه أن يدرس الأدب في فرنسا، وأن يتعلّم الفرنسيّة، وغادر في سنة 1930 إلى مصر أوّلاً ثمّ إلى فرنسا وشرع يدرس، ويتّصل. ولم يجد في بيئة المستشرقين ما يسرّه، ولمس في بعضهم عِرقاً لا يحبّه فأضرب عنهم صفحاً، واتّجه يدرس الأدب الفرنسيّ، واختار منه ما لا يخطر على بال الفرنسيين أنفسهم؛ اختار (الغنائيّة في شعر كورني) وكورني قرين راسين شاعر درامي، والغنائيّة شيء خفي عنده؛ لكنّ البصير بصير بما يريد. ويُتمّ ما سعى من أجله، ويرجع وقد أحرز الدكتوراه في الأدب الفرنسي، لكنّه سوف يدرّس الأدب العربيّ في دار المعلمين العالية، ويبلغ من ذلك منزلة رفيعة قليلة النظير ستبقى أصداؤها تتردّد في أروقة الدرس الجامعي في العراق. ويصحب التدريس تأليف في الأدب العربيّ القديم؛ يقوم على إظهار النصّ وصاحبه، وبيان الأغراض والمرامي البعيدة، من دون أن يطغى التاريخ على الأدب، مع وقفة عند عناصر الجودة، وتنبيه على مواضع الرداءة؛ وهو في كلّ ذلك الدارس الناقد المتذوّق الذي يقع على الجوهر، ويستخلص ما يبقى على الزمن. وقد كان من مزيّته أن يختم كلّ فصل من فصول كتبه بخاتمة وجيزة تعرب عن لباب الفصل، وتُبين عن رأيه صريحاً في من كان موضع الدرس. ألّف (بعث الشعر الجاهلي) و(عصر القرآن) و(في الأدب العباسي) و(الموشح في الأندلس وفي المشرق) و(نهضة العراق الأدبيّة في القرن الثالث عشر الهجري) وهي كلّها من أرصن الدراسات الأدبية، وأحفلها بالمعرفة الصحيحة المتماسكة. ومع كتبه هذه، ومزاولته التدريس كان ينظر في ما حوله من مشتبك السياسة، ومصطرع الاجتماع، ومدار الأدب، ويقلّب وجوه الرأي، ثمّ يدوّن ما يخطر له ممّا يتّصل بهذه الميادين، على نحو وجيز، مرهف، نافذ، وينشر شيئاً منه في جريدة أو مجلّة ممّا كان يصدر، ثمّ جمع هذه الخطرات، ما نُشر منها وما لم يُنشر في كتاب جعل عنوانه: (خطرات) صدر جزؤه الأول في سنة 1952، وبقي جزؤه الثاني مخطوطاً حتّى صدر مع الجزء الأول في كتاب واحد في سنة 2012. وكلا الجزءين مقسوم على ثلاثة أبواب: السياسيّات، والاجتماعيّات، والأدبيّات، وتأتي الخطرات في كلّ باب متسلسلة، كلّ خطرة لها رقم يدلّ عليها، وكلّها يقول عنها كاتبها إنّها: (آراء وملاحظات خطرت لي في أحوال ومناسبات مختلفة. فاشتققت اسمها من مسمّاها ودعوتها "خطرات" وقد سجّلت رأيي المتواضع في الحياة والناس والسياسة والاجتماع والأدب والفن وما إلى ذلك في جزء منها. ونصحت لنفسي وعملت على تقويم سلوكي في الجزء الآخر.) وهي خلاصة تجربة واسعة صادقة، كان نطاقها السياسة والمجتمع والأدب. وإذا كان البصير قد صرف وجهه عن مزاولة السياسة منذ سنة 1930 فإنّه بقي يرصد الشأن العام، ويفكّر فيه، ويحرص أن يكون الأمر منه في نصابه صحيحاً سليماً. يقول في أول خطرة من الكتاب: (السيف ملك الرقاب، إلّا أنّ العدل أملك منه للقلوب) ويقول في أخرى: (لا يتوطّد السلام، والاستعباد بعض دعائمه) ويقول: (الاستعباد يهدم حضارة الأمم هدم الطوفان دعائم البنيان القديم) ويقول: (حسب خائن الوطن أن يستصغره قومه، ولا يستكبره خصمه) ويقول: (لا سلم أو يسودَ العدل، ولا عدل أو تسودَ الحريّة) وكلّ هذه الخطرات إنّما هي مستوحاة من وقائع السياسة يومئذٍ؛ تنبّه على خطل فيها، وتضع معالم الدرب الصحيح. ويقول من الاجتماعيّات: (الجمال رونق الطبيعة، والحب أريحيّة البشر) و(الإنسان من يسالم الإنسان) و(يروقني أن يتعاون الناس لا لباعث سوى الحنان) و(المسامحة عنوان راحة البشر) و(تعليم الجاهل مروءة، والانتفاع بجهله أنانيّة) و(كنز حياة الأمّة تحت عتبة المدرسة) وهي كذلك مستقاة من أحوال اجتماعيّة كان يرقبها وينفذ إلى جوهرها منبّهاً على وجوب الإصلاح والتقويم. ويقول في الأدبيّات: (لا قيمة لنقد لا يمتّ إلى الذوق بصلة) و(لا يستغني الفن بالإلهام عن العمل، والعكس صحيح) و(أحبّ الآداب إليّ تلك التي تؤلّف بين الناس، وأبغضها إليّ تلك التي تفرّق بينهم) و(حفظ لغة الأمّة شطر حياتها) و(الأدب الحقّ هو الذي يوسع مدارك الإنسان ويرفع من خلقه ويقرّبه من أخيه الإنسان) وهي خطرات
جاءت ثمرة تجربة أدبيّة أصيلة قامت على إنشاء الأدب، وعلى درسه ونقده. وكلّ "خطرات" البصير مشحونة بالفكر السليم الذي ينبّه على الخطأ، ويبتغي الإصل
والتقويم. وإذا تطلّبت لها شبهاً فإنّها تُشبه ما كان يرد على ألسنة رجال القرن الأول، والقرن الثاني الهجريين من أقوال بليغة نافذة. ولا يخفى أن هذا الضرب من الأدب يقتضي سعة تجربة، ونفاذ بصيرة، وصفاء نفس، وتوقّد روح، وتمرّساً بالشأن العام؛
وكلّ ذلك كان موفوراً عند البصير. لقد كان البصير رجل قيم؛ يأخذ نفسه بالنمط الأعلى منها، ولا يرضى لغيره أن يخلّ بها، وقد كان حريصاً على إشاعتها في كلّ عمل زاوله، وفي كلّ ميدان خاضه؛ ثبت عليها في حقل السياسة، حتّى إذا
صار زلقاً لا تثبت عليه قدم غادره، وعبّر عنها في درسه الجامعي، وصوّرها في كلّ ما
ألّف وكتب، وجعل لها خطراته كلها!.
*http://www.alaalem.com/


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...