براءة
بقلم : الاستاذ سامي مهدي
الأنظمة الإستبدادية ، بمختلف أشكالها وهوياتها ، تتفنن في أساليب قمع المواطن المعارض ، وهي تتعلم هذه الأساليب بعضها من بعض ، وتطورها ، وتحدّث وسائلها ، وطرائق تنفيذها ، وتدرب متخصصين في شؤونها ، غير عابئة بحقوق المواطن الدستورية ، وبحقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عنها : فتصفيات جسدية ، واعتقالات ، وتهم ملفقة ، وأحكام تعسفية ، وسجون ، وتعذيب ، وقطع أرزاق ، وإهانات ، وغيرها .. وغيرها مما يعرفه الجميع .
ومع أن سقوط هذه الأنظمة حتمي ، طال بها الزمن أم قصر ، فإن اللاحق منها لا يتعظ بما انتهى إليه السابق من مصير ، بل يستفيد من تركته ويبني عليها ، ويغذ السير في الطريق الذي سار فيه بغباء منقطع النظير .
أنا عاصرت جميع الأنظمة التي حكمت البلاد منذ العهد الملكي حتى اليوم ، وعرفت وسمعت الكثير عن أساليب القمع التي مارستها ، من أخفها إلى أقساها ، ولكنني لم أر أخسّ ولا أقسى من إرغام المعارضين على إعلان براءتهم من مبادئهم وأفكارهم ونشرها في الصحف ، أوتوقيع تعهدات خطية بالتخلي عنها وعدم الرجوع إليها .
أقول هذا لأنني عثرت أمس بين أوراقي على جريدة قديمة صادرة عام 1960 وقرأت في زاوية جانبية من زواياها تحت عنوان ( براءة ) ما يأتي :
( يتهمني البعض بأنني من حملة المباديء الهدامة والأفكار ( ... ) ولذا أعلن للجميع براءتي من تلك المباديء والأفكار , وأؤكد أنني ( ... ) والله على ما أقول شهيد . ) ثم يتلو ذلك اسم صاحب البراءة الصريح ( فلان بن فلان ) .
لقد مرت بالعراق أزمنة كنا نقرأ خلالها في الصحف اليومية العشرات ، بل المئات من مثل هذه البراءة ، أرغم على نشرها مواطنون لا ذنب لهم سوى الإيمان بمباديء معينة ترفضها السلطات الحاكمة ، وتعدها جريمة ينبغي أن يعاقبوا عليها . غير أن كثيرين كانوا يرفضون تقديم البراءات بشمم ويتحملون ما يتحملون من العقوبات بإيمان راسخ ، بما فيها التصفيات الجسدية وأحكام الإعدام .
لا أدري أي عقل خبيث ابتكر هذه الوسيلة الحقيرة ، فهي إهانة لإنسانية الإنسان وإذلال لشخصه ، وتسقيطه على الصعيدين السياسي والإجتماعي ، والحكم عليه بالغربة بين أهله وذويه لفرط إحساسه في دخيلته بالضآلة . ولست أدري ما إذا كانت ( البراءات ) ابتكاراً عراقياً أم أنها معمول بها في بلدان أخرى من بلدان العالم ، ولكنني لم أسمع أنها مستخدمة في بلد آخر غير العراق .
ربما اعتقدت السلطات الحاكمة ، أياً كانت ، بأن هذه البراءات وسيلة ناجعة في مكافحة المعارضة والقضاء على ميادئها وأفكارها ، ولكن هذا وهم ، مجرد وهم . هذا ما أثبتته التجربة العراقية خلال عقود طويلة من الزمن . فالأفكار لا تموت حتى لو شرعت السلطات الحاكمة قوانين لتحريمها والقضاء عليها ، بل هي تتجذر عند المقموعين أكثر من سواهم ، وغالباً ما يرثها أبناؤهم عنهم .
الأفكار تقارع بالأفكار ، وليس بوسائل القمع والإضطهاد .
بقلم : الاستاذ سامي مهدي
الأنظمة الإستبدادية ، بمختلف أشكالها وهوياتها ، تتفنن في أساليب قمع المواطن المعارض ، وهي تتعلم هذه الأساليب بعضها من بعض ، وتطورها ، وتحدّث وسائلها ، وطرائق تنفيذها ، وتدرب متخصصين في شؤونها ، غير عابئة بحقوق المواطن الدستورية ، وبحقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عنها : فتصفيات جسدية ، واعتقالات ، وتهم ملفقة ، وأحكام تعسفية ، وسجون ، وتعذيب ، وقطع أرزاق ، وإهانات ، وغيرها .. وغيرها مما يعرفه الجميع .
ومع أن سقوط هذه الأنظمة حتمي ، طال بها الزمن أم قصر ، فإن اللاحق منها لا يتعظ بما انتهى إليه السابق من مصير ، بل يستفيد من تركته ويبني عليها ، ويغذ السير في الطريق الذي سار فيه بغباء منقطع النظير .
أنا عاصرت جميع الأنظمة التي حكمت البلاد منذ العهد الملكي حتى اليوم ، وعرفت وسمعت الكثير عن أساليب القمع التي مارستها ، من أخفها إلى أقساها ، ولكنني لم أر أخسّ ولا أقسى من إرغام المعارضين على إعلان براءتهم من مبادئهم وأفكارهم ونشرها في الصحف ، أوتوقيع تعهدات خطية بالتخلي عنها وعدم الرجوع إليها .
أقول هذا لأنني عثرت أمس بين أوراقي على جريدة قديمة صادرة عام 1960 وقرأت في زاوية جانبية من زواياها تحت عنوان ( براءة ) ما يأتي :
( يتهمني البعض بأنني من حملة المباديء الهدامة والأفكار ( ... ) ولذا أعلن للجميع براءتي من تلك المباديء والأفكار , وأؤكد أنني ( ... ) والله على ما أقول شهيد . ) ثم يتلو ذلك اسم صاحب البراءة الصريح ( فلان بن فلان ) .
لقد مرت بالعراق أزمنة كنا نقرأ خلالها في الصحف اليومية العشرات ، بل المئات من مثل هذه البراءة ، أرغم على نشرها مواطنون لا ذنب لهم سوى الإيمان بمباديء معينة ترفضها السلطات الحاكمة ، وتعدها جريمة ينبغي أن يعاقبوا عليها . غير أن كثيرين كانوا يرفضون تقديم البراءات بشمم ويتحملون ما يتحملون من العقوبات بإيمان راسخ ، بما فيها التصفيات الجسدية وأحكام الإعدام .
لا أدري أي عقل خبيث ابتكر هذه الوسيلة الحقيرة ، فهي إهانة لإنسانية الإنسان وإذلال لشخصه ، وتسقيطه على الصعيدين السياسي والإجتماعي ، والحكم عليه بالغربة بين أهله وذويه لفرط إحساسه في دخيلته بالضآلة . ولست أدري ما إذا كانت ( البراءات ) ابتكاراً عراقياً أم أنها معمول بها في بلدان أخرى من بلدان العالم ، ولكنني لم أسمع أنها مستخدمة في بلد آخر غير العراق .
ربما اعتقدت السلطات الحاكمة ، أياً كانت ، بأن هذه البراءات وسيلة ناجعة في مكافحة المعارضة والقضاء على ميادئها وأفكارها ، ولكن هذا وهم ، مجرد وهم . هذا ما أثبتته التجربة العراقية خلال عقود طويلة من الزمن . فالأفكار لا تموت حتى لو شرعت السلطات الحاكمة قوانين لتحريمها والقضاء عليها ، بل هي تتجذر عند المقموعين أكثر من سواهم ، وغالباً ما يرثها أبناؤهم عنهم .
الأفكار تقارع بالأفكار ، وليس بوسائل القمع والإضطهاد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق