الأربعاء، 16 أبريل 2014

المستشرق العظيم لويس ماسينيون

لويس ماسينيون في مرآة عــــــــــلي بدر *

علي حسين القيسي
وصف الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذكراته المثيرة للجدل ماسينيون بالمستشرق العظيم وقد كنت من اشد المعجبين به منذ ان حضرت له محاضرة عامة القاها في الجمعية الجغرافية عن تخطيط مدينة الكوفة وذلك في يناير عام 1935 اما ادوارد سعيد المفكر الناقد لظاهرة الاستشراق من دون هوادة فانه يستثني في كتابه المرموق (الاستشراق) لويس ماسينيون من النقد القاسي (لانه فاق جميع اقرانه في انجاز المهمة الصعبة التي عجز المستشرقون كلهم عن انجازها الا وهي تحقيق فهم داخلي حقيقي وجدي للروح الاسلامية الشرقية ولدينها وثقافتها وعقليتها).
بذلك يكون المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون قد حاز على اعجاب كثير من المثقفين العرب لما قدمه من بحوث علمية وكشوفات تراثية نمت عن عبقرية فذة قل مثيلها اذ بلغت مؤلفاته اكثر من 200 كتاب ومقالة و100تقرير وشهادة و150 محاضرة باللغة العربية وهي المحاضرات التي القاها على طلابه في الجامعة المصرية، كما ذكر ذلك يواكيم مبارك في كتابه عن ماسينيون المطبوع باجزائه الثلاثة فضلا عن الاف الرسائل المتبادلة في كل مكان من العالم وهي لم تطبع حتى اليوم وعدد كبير من رسائله القيمة التي بعثها الى اصدقائه المثقفين العراقيين لا تزال محفوظة في خزائن الكتب بدار المخطوطات ببغداد ، كان الباحث قاسم محمد عباس قد نبه صديقه الاديب علي بدر الذي يجيد اللغة الفرنسية الى رسائل سبق لماسينيون ان وجهها لصديقه الاب انستاس ماري الكرملي الاديب واللغوي العراقي (فذهبنا في ظهيرة يوم قائظ هناك لفك لغزها ولم يكن بامكاني ان اكبت مفاجأتي امام اكثر من مئتين وثمانين رسالة تخص ماسينيون) انها حقا لقية لا تقدر بثمن تلك التي عثر عليها علي بدر ليزيح عنها غبار قرن من الزمان، فيقوم بترجمتها وتحقيقها تحقيقا راقيا ويجمع عمله في كتاب (ماسينيون في بغداد) صدر عن دار الجمل بالمانيا عام 2005.
(لم اكن قادرا على التماسك امام الحروف التي تستعيد تاريخا كاملا للثقافة والافكار تستعيد اللحظات التي سجل فيها ماسينيون وخط ورشح وعمم اكبر انسكلوبيديا للتصوف الاسلامي) هي اذا شهوة البحث لفك طلاسم واسرار تاريخ حافل بالثقافة والاستكشافات المعرفية والعلمية لتلك التي سيطرت على مثقف مرموق يدعى علي بدر سبق ان اغنى المكتبة العربية بالعديد من الاعمال الممتازة
التي حصدت بها جوائز عديدة في تونس والامارات العربية والعراق مما يمنح هذا الكتاب الذي يقع بـ294 صفحة من القطع المتوسط اهمية كونه اول عمل رصين يزيح الغبار عن رسائل ماسينيون المهمة والتي تشكل قيمة كبيرة لما حوته من معلومات علمية وتراثية عالية القيمة على الرغم من تقادم الزمن تصدى لها الباحث الدقيق في الترجمة والتحقيق بما امتلكه من قدرة عجيبة على الصبر وهو (يرتجف امام الورق الذي نشف لتقادمه والحبر الذي نصل وهو يسجل اهم مرحلة من مراحل الاستشراق لا في الغرب وحسب وانما في العالم برمته).
بعد مدخل الكتاب يقدم المحقق توطئة منهجية في التعليق والتحقيق تبين اسلوبه في التصدي لمثل هكذا عمل مهم يحتاج الى معارف متنوعة (اتبعت من الناحية العلمية الطريقة الفيلولوجية الكلاسيكية في تحقيق الرسائل الشخصية وهي اضاءة لكل ما التبس في النص والبحث عن المؤثرات المحيطة او الاجتماعية قدر الامكان وتخليت عن الطريقة العراقية او ما اصطلح عليه بالمدرسة العراقية في التحقيق التي درج عليها اكثر ابناء الجيل السابق من المحققين لانها جامدة ومتحجرة وغير حيوية كما انها سهلة وليست فعالة، وترشد القارئ ليبحث ولا يؤدي المحقق فعلا اخر.
كما حاولت ان اعطي الخلاصات الخاصة بالمشروح من مصادر متعددة بدلا من ارشاد القارئ الى مرجع او مصدر واشرت الى المصادر الرئيسة في نهاية الكتاب.
ان خطته في التحقيق تشير بانه محقق متمرس ختم امالي اهل الصنعة وادركها جيدا فهو لم يسرف في هوامشه ولم يقتر بها بل تجد الهامش مشبعا بالمعلومة في موضعه تماما وتعجب من هذه القابلية التي ابداها المحقق على البحث والتنقيب عن اشياء عفى عليها الزمان وقبعت في خزائن النسيان فمثلا ورد ذكر رؤوف افندي الجادرجي في متن احدى الرسائل لنجده في الهامش من المثقفين العراقيين الاوائل، اصدر صحيفة الانقلاب في بغداد في العام 1908، عين رئيسا لبلدية بغداد في العهد العثماني، كان وزيرا للمالية في وزارة للحكم الوطني ثم اختارته شركة النفط العراقية مستشارا قانونيا لها.. لقد كان قانونيا وخبيرا بالاقتصاد والعلوم المالية يتحدث الانجليزية والالمانية والفرنسية والتركية والفارسية توفي في العام 1958 ، ان مثل هذه المعلومات من الصعب توفرها بسهولة لا سيما في الاعلام اما في البلدانيات فهو كذلك محقق مدقق حريص على دقة العمل اذ جاء ذكر (بريتانية) نجده يهمش (مدينة تاريخية غرب فرنسا وهي شبه جزيرة يحيط بها بحر المانش من جهة والبحر الاطلنطي من الجهة الاخرى).. وكذلك مثلها مدينة عانه اذ يهمش لها ( مدينة صغيرة غرب العراق في محافظة الرمادي لها ناحيتان القائم وراوه ورد ذكرها منذ العهد الاشوري عرفت قديما بعانات تقع على نهر الفرات تشتهر بنخلها ونواعيرها وتقع على الطريق الى سوريا)، انها هوامش غنية تثري المتن وتفك تعاليقه فعلا، لم يقتصر علي بدر على مراجعة الموسوعات والمعاجم انما رجع احيانا لمعلومات لا تتحقق الا للمحقق الثبت فعلا فمثلا عندما يرد في نص الرسالة ديوان الحلاج يهمش باقتدار (صدر ديوان الحلاج لاول مرة في القاهرة عام 1912 وقد جمعه لويس ماسينيون ثم اصدره كامل الشيبي محققا في بغداد في العام 1972 ثم اعيد طبعه من قبل عبده وازن في بيروت في العام 1994 واعاد تحقيقه ونشره مع المجموعة الكاملة للحلاج الباحث العراقي قاسم محمد عباس وصدر عن دار رياض الريس في بيروت عام 2002 ، ان المعلومات التي صنع منها علي بدر هوامشه البالغة 378 هامشا تمثل موسوعة تنم عن قدرة فائقة عن البحث والتقصي والتنقيب وعلى اهميتها ورصانتها لم تكن الغاية الرئيسة من التحقيق وانما (ما دفعني لترجمة هذه الرسائل وتحقيقها وتقديمها للقارئ العربي شعوري العميق بان هناك عالما من القوى المرتدة التي تريد عزل الثقافات عن بعضها ينهض في الشرق بقوة وهناك عالم من القوى المرتدة يريد بناء السياج الصلب الذي كان يسور المدينة الكولنيالية بشكل رمزي على اساس العرق واللون والطبقة والثقافة ويعزلها عن السكان المحليين وهو ينهض في الغرب بقوة فهذه الرسائل تعلمنا ان الوصفات الثقافية والانثروبولوجية لتعليمنا تهكمية برمتها ولم يكن امامنا نحن جيل المثقفين الشباب العرب الذي عشنا مجال الحروب المتكررة ومجال الثقافات المحتدمة وصراعاتها ومجال التاريخ ومجال الاحتلال غير ان نشتبك بحوار واضح وصريح مع الثقافات في العالم).
مشروع اكبر واوسع من تحقيق 78 رسالة مختارة من مجموع رسائل ماسينيون لصديقه اللغوي البارع الاب انستاس ماري الكرملي.
ان السرد بادواته المكتملة لدى علي بدر الذي استخدمه ببراعة فائقة وهو يترجم لماسينيون متناولا سيرته طولا وعرضا جاء ليشكل تحفة فنية شيقة منذ مقدم ماسينيون الى بغداد عام 1903 كباحث اثاري ليقع بعدها بيد السلطات العثمانية التي اتهمته بالجاسوسية والماسونية والتامر على السلطنة ثم هموا باعدامه لولا تدخل العلامة محمود شكري الالوسي
والقاضي علي نعمان الالوسي اذ توسطا له وكفلاه وجاءا به الى منزلهم لمعالجته من اثار التعذيب وليهباه خاتما منقوشا عليه عبده محمد ماسينيون بقي محتفظا به طوال حياته التي بقي مدينا بها للالوسيين ولا يفتر عن ذكر جميلهما ، ومنذ ذلك الوقت حصل له التحول الروحي اذ كان مكبلا على ظهر مركب قرب طاق كسرى ليحصل له كل هذا التوجه العظيم الذي قلب حياته كلها في هذا الفصل الجميل الذي تجاوز الثلاثين صفحة تفتن القارئ وتسحره بسلاسة الاسلوب وعمق السرد المرصوص بلغة قصصية شائقة ولكن على رقيها ومتانتها المحكمة هفا المحقق في هذا الفصل هفوة لا اعرف كيف فاتته عندما عدد مؤلفات ماسينيون في سبع صفحات باللغة الانكليزية مع ان بعض هذه المؤلفات او المقالات كتب باللغة العربية والبعض الاخر ترجم وطبع في معظم العواصم العربية، اما الفصل الاخر الذي تناول فيه سيرة العلامة الاب انستاس ماري الكرملي المولود في بغداد 1866 والذي سرد سيرته باسلوب منظم ودقيق اذ درج فيه مؤلفات الكرملي وتوسع بمعلومات نادرة عنه وعنها والذي فيه هفوة اخرى اذ فاته ان يذكر تاريخ وفاة الكرملي ومكان قبره مع انه اورد تواريخ نفيه وسفره للدراسة وامور اخرى وقد كانت وفاته ببغداد عام 1947 ودفن في كنيسة الاباء اليسوعيين، اما من الرسائل البالغة (78) رسالة قسمت على السنوات 1908 حتى 1919 والكتاب يعد جزء اول في رسائل ماسينيون الى الاب انستاس الكرملي الذي بقي يراسله حتى وفاته.
يهدي علي بدر عمله هذا الى (روح والدي) ليطلعنا بهذا السفر الجميل على حياة ماسينيون ودقائقها من الاهتداء الصوفي الى الهداية الكولونيالية ليؤرخ في الوقت نفسه لصفحات مهمة من حياة الثقافة العراقية في دور التاسيس ان هذه الرسائل ليست سياحية ثقافية افيضت على شعوب وامكنة جغرافية بل هي فضاء ثقافي- سياسي تم بواسطتها بلورة مواقف وترميز معارف واستجلاء فرع مهم من فروع الثقافة العربية ومماهته مع موقف سياسي استبان في نهاية هذا الجزء.
اخيرا هذا الكتاب جدير بالقراءة والبحث لجملة اسباب وعلى راسها هو اتقان التحقيق بلغة متناهية .. واختيار الرسائل التي تشكل قيمة ثقافية وعلمية ممتازة والكتاب برمته يثير الدهشة ويحرك شهوة القراءة والمواصلة مع تاريخ ثقافي سياسي عمره قرن، هو مرحلة التاسيس للثقافة العراقية.
*
http://www.iraqalyoum.net/archf/440/iraq/p3.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...