آخر يهود العراق
Iraq’s Last Jews
by Tamar Morad, Dennis Shasha, Robert Shasha
تحرير:
تمارا
مراد، دينس شاشا وروبرت شاشا
ترجمة: أ.د. أنور كينج
راجع
الترجمة ونقحها: أ.د. شموئيل موريه
مقدمة
تاريخية للترجمة العربية
بقلم
البروفيسور شموئيل موريه،
يكشف هذا
الكتاب الذي صدر باللغة الانكليزية تحت عنوان
: The Last Jews of Iraq
وترجم الى اللغة العربية، عن شهادات يهود العراق الشفهية من
الذين فضلوا البقاء في العراق لمعارضتهم للصهيونية ولاخلاصهم لمسقط رأسهم، بعد
الهجرة الاولى في 1950-1951 الى اسرائيل، ويظهر مواقف مختلفة
ليهود العراق نحو وطنهم وكيف اجبروا على الفرار بارواحهم من الظلم ونهب اموالهم
والمس بكرامتهم وطردهم من
وظائفهم الى خارج العراق. وقد افلح
المحررون في عرض امثلة متنوعة من الشخصيات اليهودية العراقية ومواقفهم من العراق
الذي احبوه. المثال الأول تفوق اليهود في
الموسيقى والغناء في العراق ومساهمتهم في اغنائها بأغان والحان موسقية شعبية،
ومصيرهم المحزن في اسرائيل (مقال شلومو الكويتي ابن الموسيقار الكبير صالح الكويتي،
كمثال) والمثال الثاني هو حنين العراقيين
اليهود الى حياتهم التقليدية في العراق وحبهم للتقاليد والعادات واحتفالاتهم
الدينية العراقية (مقال الفنان عوديد هلاحمي ،
كمثال)، أو صبرهم على ما عانوه من مصاعب في
مواصلة حياتهم اليومية بعد الهجرة الجماعية في عام 1950-1951 بالرغم
من خدمتهم الجليلة لمسقط رأسهم (ذكريات
الاستاذ ريتشارد عوبديا،
كمثال)، بالاضافة الى شهادات مهمة لمن ساهم
في الحركة الصهيونية السرية وعلاقتهم ببعض رجال الحكومات العراقية، وكيف حالفهم
الحظ بذكائهم وسرعة بديهيتهم في انجاح مهماتهم الخطرة (ذكريات
السيد شلومو هِلِلْيل الوزير السابق والذي بذل النفس والنفيس لإرغام الحكومة
العراقية على السماح ليهود العراق للهجرة الى اسرائيل).
وعليه فإن
فرادة هذه الشهادات الشفهية وغيرها تجعل هذا الكتاب مصدرا مهما ونادرا لكل مهتم بتاريخ
العراق منذ تأسيس دولة العراق الحديثة التي اضفت عليها مسؤولية الحكم الوطني
بمشاركة الانتداب البريطاني ثم المستشارين البريطانيين، مسحة من الديموقراطية
والحرية والمساواة التي استفادت منها الاقليات العراقية، في حرية التعليم ومستواه
بين الاقليات والتزام العدل بقدر الامكان، والالتزام بالقوانين وكبح جماح القبائل
العربية والنعرات الدينية والمذهبية. فما ان جاء الحكم الوطني وخاصة بعد اغتيال العائلة
المالكة الهاشمية التي نصبتها بريطانيا على العراق مكافأة لها على ثورتها على
الطغيان العثماني ومناصرة الحلفاء أملا في تحقيق طموحاتها في اعادة الخلافة الاسلامية
إلى اصحابها الشرعيين، أي العرب الهاشميين. ونستطيع اعتبار هذا الكتاب كشهادة شخصية صريحة أمام
التاريخ لمن بقي منهم على قيد الحياة عما عانوه من الاضطهاد تحت حكم الضباط
العراقيين الذين توالَوْا على الحكم في سلسلة من انقلابات دامية غادرة تحت حكم حزب
البعث الذي اتخذ الطريقة الهمجية في الحكم وهي قتل المعارضين والانقلابيين على الفور وبدون محاكمة
وحكموا الشعب العراقي بقبضة من حديد وبوابل من الرصاص والشرطة السرية بالوشاية
بالاهل والاصدقاء دون رحمة، وزجوا به في حروب عنصرية مذهبية دينية بين الفرس
والعرب والعرب والاكراد والعراقيين والكويتيين وطرد الاكراد الفيلية، عن طريق
تهميش الاقليات واثارة النعرات الدينية والمذهبية والعنصرية والتاريخية لا طائل
تحتها سوى كراهية الآخر ومحاولة السيطرة عليه لانتزاع آبار النفط منه وطرق الملاحة
بالقوة العسكرية الغاشمة. فدمروا العراق وايران والقرى الكردية الصامدة بتدمير
ثروتهما والبنى التحتية والتضحية بخيرة الشباب من ابنائهما.
وبالاضافة الى ذلك فهو
اول كتاب يكتب من وجهة نظر عراقية وطنية يهودية
(وواحدة شيعية)
وأخرى صهيونية محضة
لكبار رجال الحركة الصهيونية التي عملت بصورة سرية بعد ان يئسوا من الوطنية
العراقية والثورة الشيوعية واستقلال الاكراد.
وعليه فتكشف هذه
الشهادات الشفهية خفايا النشاط الصهيوني في العراق بشهادات رجاله الذين غامروا
بحياتهم خدمة لانقاذ ابناء جلدتهم من اضطهاد وسجون وحبال المشانق وبداية الحركات
السياسية السرية التي قام بها ضباط أغرار لم يدركوا عواقب رعونتهم.
كما تظهر ذكريات السيد ريتشارد عوبديا المستوى الثقافي الضحل لهؤلاء الضباط الانقلابيين
وتكالبهم على تزوير الشهادات العلمية ونيلها بالتهديد والفساد الاخلاقي والتكالب
على السلطة واساليب الغدر القبلي والقسوة الغاشمة التي نشأوا عليها مدعين الوطنية
والاخلاص للشعب والوطن. إذن فامامنا كتاب نادر المثال في كشف عيوب المجتمع
العراقي من جشع ورشوة وغدر واستهانة بحياة الانسان، ونظرتهم الى الشعب نظرتهم الى العبيد الذين ينبغي عليهم
الطاعة العمياء.
أشرف
على جمع الشهادات الشفوية ثلاثة مثقفين يهود وهم السيدة تامار مراد الامريكية الجنسية
المتزوجة من يهودي عراقي هاجر الى إسرائيل، من عائلة
مراد البغدادية والمحررة سابقا في جريدة "وول
ستريت" النيويوركية الشهيرة، والاخوان
الاكاديميان العراقيان الاستاذ دينس شاشا والاستاذ روبرت شاشا المقيمان حاليا في
الولايات المتحدة واللذين يعملان في جامعاتها.
* * *
كوّن
المجتمع اليهودي البابلي (العراقي) خلال 2500 عام من سبي بابل طائفة متجانسة واستطاع الحفاظ على
هويته الدينية وثقافته وتقاليده على مر القرون، على الرغم من الغزوات المتعددة
والانتفاضات السياسية والحروب والاوبئة الفتاكة.
وقد امتاز اليهود عن
مواطني العراقي بلهجتهم العربية القديمة التي تطورت في ايام هرون الرشيد، والمعروفة بالعربية – اليهودية، الغاصة بالمفردات والاشارات التوراتية
والامثال العبرية التوراتية وخليط من الكلمات الفارسية والتركية والآرامية، وفي
القرن العشرين اضيف اليها كلمات ومصطلحات انكليزية وافرنسية نتيجة لتدریس هاتین
اللغتین فی المدارس الیهودية، كما امتازوا بملابسهم وبمحافظتهم على قدسية يوم السبت-
<الشبات> والاعياد الدينية المقدسة وتناول الطعام الخاص من اللحم الحلال
(الكاشير)
وعدم استعمال الحليب
ومشتقاته مع اللحم، ومن خلال طقوس ديانتهم في اعيادهم وتوقهم العميق لمدينتهم
الروحية، أورشليم-القدس، في صلاتهم اليومية وفي مناسبة عشاء ليلة عيد
الفصح المقدسة حين تروى ملحمة الخروج من مصر بقيادة النبي موسى عليه السلام.
وبعد السبي البابلي
ساروا على نصيحة نبيهم فاشتروا الارض وزرعوها واسسوا عليها اليشيبوت
(المثيباب)، أي المدارس والكليات الدينية، في بغداد واورشليم القدس والخليل وصفد.
وكانت حياتهم
الاجتماعية والدينية مبنية على اسس الطقوس التوراتية والتعاليم التلمودية، واقاموا
حياة مستقلة مركزها الكنيس بقيادة الحبر الاعظم أو الحاخام الاكبر، الذي كان يشرف
على النظام التعليمي للمجتمع والمحكمة الدينية والضريبة المفروضة على لحم الكاشير
الغبيلا وهو اللحم الحلال لبهيمة ذات اظلاف سالمة صحيا وبسكين حادة جدا مع التسمية
على الذبيحة.
غير انهم كانوا مع ذلك مندمجين
بصورة تامة مع الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد استعربوا بصورة تكاد
ان تكون كاملة بحيث ان لهجة لغتهم العربية وتقاليدهم الاجتماعية وطرق معيشتهم تكاد
تكون متشابهة مع اقرانهم العرب المسلمين والمسيحيين إلا باحكام الشريعة الموسوية
واللهجة اليهودية العربية والتفكير المنطقي اليوناني الذي اقتبسه التلمود والشعور
بانهم اقلية تفتقر الى المساواة والعدل.
ولهدا السبب، فأن غياب المجتمع
اليهودي العراقي عن طريق الهجرة على وجه الخصوص هو حدث تم بالاكراه، وتميزت هجرتهم
من العراق عن الهجرات المماثلة لباقي يهود البلاد العربية الأخرى بطول مدة
اضطهادهم وبقسوتها وعنفها المفاجئ لوجود الفلسطينيين الذين تأثروا بالدعاية
النازية التي بثها التمبلريون
) Templers) الالمان
في الديار المقدسة والمندوب الالماني د. فرتز
غروبا وزوجته والاساتذة الالمان والموظفات الالمانيات الذين بثوا
الدعاية النازية في العراق ضد اليهود.
وتوفر لنا تلك الهجرة ايضا فرصة
فريدة لفهم القوى السياسية العديدة التي اجتاحت منطقة الشرق الاوسط في القرن
العشرين، والتي شملت القوى الاستعمارية والنازية والقومية العربية والشيوعية
والصهيونية، وهي بمجمل تاريخها جميعا ادت الى الهجرة الجماهيرية الشاملة ليهود
العراق في بداية الخمسينات ثم في بداية السبعينات من القرن العشرين.
* * *
كان العراق، كما يدعى اليوم،
موطن الحضارات القديمة لممالك سومر وآشور وبابل وأكد ، وكان معروفا عند الاغريق
ببلاد الميسوپوتاميا،
التي تعني "ارض ما بين
النهرين"، في اشارة
الى دجلة والفرات، وكان العراق معروفا لدى اليهود ببلاد بابل. وفي
عام 597 قبل الميلاد، قام نبوخذ نصر الثاني (605-562 قبل
الميلاد)، ملك بابل، بغزو مملكة يهوده،
وسبى ملكها اليهودي يهوياخين، ومعه 10 الاف
من حاشيته واتباعه الى بابل. وبعد
احدى عشرة سنة، بعد تدمير نبوخذ نصر للهيكل الاول الذي بناه الملك سليمان،
جلب 40 الف من سبايا اليهود الى عاصمته في
بابل التي تبعد 90 كيلومترا جنوبي بغداد
في يومنا هذا.
انتهى استعباد اليهود في بابل
عندما احتل الملك الفارسي سيريوس الثاني بابل في سنة 538 قبل
الميلاد وسمح لليهود بالعودة الى ديارهم، فعاد البعض من المتحمسين والفقراء، وبقي
الكثير من الامراء والعلماء والاغنياء واصحاب المهن.
وبعد تدمير الرومان الهيكل
الثاني في
سنة 70 ميلادية، اتجهت امواج من المهاجرين
اليهود غربا واندمجت مع القبائل والامم الاخرى واصبح يهود بابل، ومعهم اليهود
الذين هاجروا شرقا من ايريتز يسرائيل ( وهي
ارض الميعاد التوراتية المقدسة عند اليهود)،
هم حفظة التوراة. لقد ازدهرت الثقافة اليهودية في
بابل خلال فترة الحكم الفارسي الممتده من سنة331 الى
سنة 638 للميلاد. وصنف
العلماء اليهود التلمود البابلي ابتداءا من سنة 474 ميلادية
كمجموعة قوانين روحية للديانة اليهودية، محولين بذلك اليهودية التي كانت حركة
دينية سياسية عسكرية، الى حركة دينية روحية واخلاقية.ْ
كما تم انشاء مثيبات (اكاديميات) سورا
ونهارديعا وپمپاديتا وبغداد،
وكان يشار الى رؤساء هذه الاكاديميات بعد ذلك بلقب "غاؤونيم"،
وتم اعتبارهم السلطة العليا في الشؤون الدينية في العالم اليهودي.
وفي سنة 570 م، ولد النبي
محمد في مكة وبعد ذلك هاجر الى المدينة في عام 622 م،
حيث كان اليهود ناشطين بالاعمال التجارية والصناعية والزراعية. وبعد
ذلك بزمن قليل، غزت جيوش المسلمين جيوش الممالك في شمال جزيرة العرب وتمكنت من دحر
الامبراطورية الفارسية -الساسانية والرومانية - البيزنطينية. وتم
بناء بغداد في زمن الخليفة المنصور في عام 762 ومنها
تاسس اهم مركز للثقافة والتجارة والعلوم والفنون في العالم قاطبة. استقر
اليهود في بغداد وبنوا مدارس دينية جديدة وحققوا منزلة رفيعة من النواحي الدينية
والثقافية والاقتصادية، خصوصا "رأس
الجالوت" والذي احيط
بهالة من الاحترام والقدسية من قبل الخلفاء العباسيين لأنه من سلالة الملك (وعند
المسلمين، النبي) داود وكان حرسه من الفرسان ينادون في
موكبه "افسحوا الطريق أمام سيدنا ابن داوود"،
وكان يمثل السلطة الدينية العليا بين اليهود.
نظّم رأس الجالوت الشؤون
اليهودية الخاصة بالمجتمع اليهودي وكان يحسم الخلافات ويجمع الضرائب، وكانت لديه
سلطة فرض التحريم
والحظر والغرامات واوامر السجن او الجلد كعقوبة على خلفيات دينية.
وبعد أن دمر المغول بغداد في
سنة 1258 م، سادت قرون من الفوضى والجمود
الحضاري، ففي بدايات القرن السادس عشر نشبت النزاعات بين العثمانيين الاتراك السنة
والصفويين الفرس الشيعة، بالاضافة الى الاوبئة المتكررة والفيضانات والغزوات التي
شنها البدو وقبائل الترك
الرحل، كانت قد مزقت العراق، وتقلصت بغداد
الى حد اصبحت فيه مستوطنة هامشية بدون اهمية سياسية او تجارية.
ساد في عصور الحكم العثماني (1534-1917) شيء
من الاستقرار والتحسن في معاملة الاقليات ودرجة من التسامح، وتمتع اليهود بحرية
نسبية في ممارسة شعائرهم الدينية وادارة شؤونهم الخاصة، وخصوصا في التعليم. وانتخب
اليهود رئيسهم الروحي، الذي اطلق عليه لقب " نَسِي " <رئيس> لهم
بعد نهاية رئاسة الجالوت في عام 1401،
بنفس الوقت الذي نال فيه رؤساء المثيبات <اليشيبوت>،
او الاكاديميات، سلطات دينية اوسع. ويقال
إن بلاط
السلطان العثماني مراد الرابع كان يحتوى على ما لا يقل عن 10 الاف
موظف يهودي في حكومته، وخلال هذه المدة، عمل رجال اثرياء من اليهود، مثل حسقيل بن
يوسف كباي في بغداد واسطنبول وساسون صالح داوود في بغداد، كامناء الخزينة أو صراف
باشي للسلاطين والولاة العثمانيين.
اعتمد مدى التسامح الديني على
الولاة العثمانيين في بغداد، فعلى سبيل المثال، اعتبر داود باشا، والي بغداد، من
اقسى الولاة في معاملته لليهود حتى اضطر العديد منهم لمغادرة بغداد اثناء فترة
حكمه، وتقلصت اعداد اليهود ايضا على اثر الفيضانات وانتشار اوبئة
الكوليرا والتيفوئيد.
وبعد وفاة داود باشا، شرع
اليهود ببناء نفوذهم في التجارة والحكومة، وتم استبدال منصب "النَسِي" بالحاخام
باشي وذلك في سنة 1849. وكان من بين
رؤساء الطائفة البارزين في القرن العشرين الحاخام عزرا دنكور، الذي كان رئيس
الطائفة اليهودية الاول في بورما واسس احدى اولى المطابع في بغداد هي "مطبعة
دنكور"، وكان آخر رئيس للطائفة من الحاخامين
هو الحاخام ساسون خضوري.
كان رئيس الحاخامين ايضا رئيسا "للطائفة
الأسرائيلية" <ثم اطلق عليها
بعد قيام دولة اسرائيل، الطائفة الموسوية> وكانت
تساعده هيئات مختلفة كالمجلس الروحاني (من
علماء الدين) والمجلس الجسماني (من
العلمانيين) والمحكمة الدينية ولجنة المدارس
وغيرها.
تبنت الثورة
التي قام بها حزب "تركيا الفتاة" في 1908 شعار
الثورة الافرنسية: الحرية والعدالة والمساواة،
واعتنق الكتاب والسياسيون العرب هذه لمبادئ. أما
عامة الشعب، فقد رفضت تلك المفاهيم العلمانية لانها تمثل انتهاكا لسيادة الاسلام
على أهل الذمة، وهي حالة توجب على المسيحيين واليهود ان يطيعوا عهد ذمتهم بدفع
مقاابل حماية حياتهم وممتلكاتهم. وقد
منعت الذمة، المسيحيين واليهود من الشهادة ضد المسلمين ومن ركوب الخيل وامتلاك دار
بناؤه اعلى من دور المسلمين، ومن تبوء مناصب ووظائف تتيح لهم السلطة على المسلمين
وحظرت عليهم ركوب الخيل وحمل السلاح ومن شرب الخمر بصورة علنية، وفي فترة حكم بعض
الخلفاء والولاة المتزمتين الصارمين والمتعصبين تحتم عليهم ان يخيطوا على ملابسهم
رقعة بلون خاص، الازرق للمسيحيين والاصفر لليهود، وفرض على الذمي دفع الجزية
التي شكلت جزءا من واردات الضرائب للدولة العثمانية.
وفي القرن التاسع عشر، أتيحت
فرص جديدة لليهود في مجالات التجارة الدولية والقطاع المصرفي والادارة كنتيجة لبعض
الاحداث المهمة: تاسيس مدرسة الاليانس وهي مدرسة
الاتحاد العالمي الاسرائيلي في 1864،
وهي جزء من شبكة مدارس إتحادية في منطقة الشرق الاوسط تأسست في باريس في عام 1860،
وافتتاح قناة السويس في 1869، والاصلاحات
التي اجراها مدحت باشا (1820-1883) والي بغداد
والبصرة، واجواء الأمن الداخلي التي سادت في العراق بعد أن تمكن الوالي العثماني
مدحت باشا (1869-1872) من
قمع ثورات البدو ويسر أمر استقرار اليهود في المدن الواقعة في جنوب العراق، وانشاء
اول سكة حديد في العراق في عام 1903 بالاضافة
الى اعلان مساواة الحقوق للاقليات غير المسلمة في الدستور العثماني لعام 1908. فازدهرت
الامور المالية والاجتماعية لليهود، وغادر العديد منهم الى الهند والصين وانكلترا
للعمل بالتجارة العالمية مع تسهيل افتتاح قناة السويس وطرق السكة الحديد للاعمال
التجارية عبر الامبراطورية البريطانية المترامية الأطراف.
ومن ضمن هؤلاء
اليهود العراقيين المهاجرين المغامرين، كان السير ايلي خضوري (1865-1944)،
الذي استقر في شنغهاي،
والسير البرت ديفد ساسون (1818-1896)، الذي استقر
في الهند. واسس الاثنان مدارس يهودية في
بغداد للمساعدة في تعليم اكبر عدد من المواطنين اليهود، وكانا من كبار المحسنين
اليهود المساهمين في الأعمال الخيرية وخاصة في الدول التي استقروا فيها، ولحق بهما
الالاف من اليهود في مهاجرهم الجديدة، وكنتيجة لذلك، تطورت الجاليات اليهودية
التجارية المزدهرة عبر قارة آسيا، من كلكتا وبومباي الى رانغون وشانغهاي وكوبيه في
اليابان.
نتج من التحالف البريطاني في 1916 مع
الشريف حسين، شريف مكة، وولديه اللذين نادا بالقومية العربية، فيصل (1885-1933) وعبد
الله (1882-1951) ضد العثمانيين ولادة العراق
كدولة عربية تمخضت على خلفية نتائج الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية
العثمانية. وعندما احتل البريطانيون بغداد
في 1917، كان اليهود اكبر طائفة دينية ضمن
سكان المدينة، فكان عددهم حوالي 80 الف
من بين عدد السكان الاجمالي المقدر بـ 202 الف
نسمة من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، او ما يوازي الثلث.
وفي عام 1920 تم
وضع العراق تحت الانتداب البريطاني، مما دفع العراقيين الأباة الى الثورة ضد المحتلين
الجدد، وهي المعروفة بثورة العشرين، الامر الذي أجبر البريطانيين على السماح
بإقامة المملكة الهاشمية العراقية تحت اشراف الادارة البريطانية. وبعد
ابعاد الملك فيصل بن الحسين من دمشق في عام 1920 من
قبل الفرنسيين، انضم عضو سابق في البرلمان العثماني، وهو السير ساسون حسقيل، الى
مؤتمر القاهرة حول الشرق الاوسط، الذي ترأسه ونستون تشرشل. ودعم
ساسون حسقيل توصية تشرشل تتويج فيصل ملكا على
العراق. وكتعبير عن الشكر لقدراته المالية
والإدارية واخلاصه، تمّ تعيين السيد ساسون حسقيل كاول وزير للمالية العراقية في
عهد الملك فيصل الاول، حين خدم العراق في الوزارة بإخلاص لمدة
خمس سنوات وانقذه من جشع شركة النفط العراقية بأن اصر على دفع العائدات بالباون
الذهب لا بالعملة الورقية، فانقذ مالية العراق الى اليوم، واستمر بخدمة وطنه
العراق كعضو في البرلمان حتى وفاته في عام 1932. لقد
استفاد الاقتصاد العراقي من ساسون حسقيل بصورة كبيرة من خلال اصرار الاخير على ان
يكون الدفع بالباون الذهب بدلا من الاوراق المالية للنفط العراقي في المفاوضات
التي اجريت مع شركة البترول البريطانية.
كان الملك فيصل، الذي تعلم في
اسطنبول وكان متأثرا بالايديولوجية
الليبرالية التي حملها أعضاء حزب تركيا الفتاة، كان مؤمنا حقا بالمساواة الدينية
بحيث انه تمسك بالقول الماثور للزعيم المصري سعد زغلول " الدين
لله والوطن للجميع"، ووضعه موضع
التنفيذ مفضلا المشاعر الوطنية العراقية على المشاعر العربية القومية والدينية.
ويمكن اعتبار عقدي العشرينات
والثلاثينات من القرن الماضي كعصر ذهبي لليهود في العراق، ويعود الفضل في جزء كبير
من هذا الحال لتاثير الحداثة والحضارة والتعليم التي اشرف عليها البريطانيون
ولسياسات فيصل المسالمة والمتسامحة والمشجعة للمبادرة الشخصية والاخلاص للوطن.
في عام 1919،
وقع فيصل اتفاقية مع وايزمان عرفت باتفاقية فيصل - وايزمان،
التي اعلنت التعاطف مع اليهود في طموحهم القومي لإقامة وطن لهم في فلسطين. وفي
ذلك العقد من الزمن، كان العراق بلدا صغيرا بعدد سكانه الثلاثة ملايين ونصف ( مقارنة
بعدد سكانه ال28 مليون اليوم).
عاش ثلثي اليهود في بغداد،
وكانت البصرة تحوي على ثاني اكبر تجمع للسكان اليهود في البلد وكانت ايضا هناك
جاليات من اليهود في مدن الموصل وكركوك واربيل والسليمانية وخانقين في
الشمال وبعقوبة والكوت والعمارة والحلة والناصرية والديوانية والبصرة.
وشعر الكثير من اليهود في هذه
الفترة، بالامان في العراق وشاركوا بفاعلية واخلاص في تطوير وطنهم الحديث الحر.
أنشأ اليهود النوادي الاجتماعية
حيث يجتمعون لمطالعة الصحف والكتب للاستماع للموسيقى وتبادل الأراء ولعب الورق، في
اماكن مثل نادي لورا خضوري ونادي الزوراء ونادي الرشيد.
واسس المحسن الكبير السيد مير
الياس مستشفى تحمل اسمه في سنة 1920،
واسس السير ايلي خضوري مستشفى ريما خضوري لامراض العيون، مسميا المستشفى على اسم
والدته.
لقد ساهم اليهود في الميدان
السياسي من خلال عملهم كممثلين في البرلمان وكموظفين حكوميين ومدنيين، وساهموا في
الاقتصاد وادارة البنوك والحسابات والتعليم والثقافة ككتاب وصحفيين وموسيقيين،
وساهموا في الازدهار التجاري والصناعي والمالي للبلد من خلال عملهم كتجار وكموظفين
حكوميين، وكان للشخصيات البارزة من اليهود علاقات طيبة مع العائلة الملكية، وعلى
سبيل المثال، عندما زار السير ايلي خضوري بغداد قادما من شنغهاي، تم استقباله من
قبل فيصل الاول، وعندما زار فيصل الاول لندن نزل ضيفا في قصر خضوري. وشيدت
الطائفة اليهودية عشرات المدارس ذات المستويات التعليمية الراقية وتم الاهتمام
بتدريس اللغات الاجنبية من قبل مدرسين اوروبيين، والتحق الكثير من التلاميذ
المسلمين والمسيحيين بالمدارس اليهودية، ورغم ذلك بقيت الاغلبية للطلبة اليهود. وكان
حوالي نصف الطلبة الذين ارسلتهم الحكومة العراقية في بعثات دراسية الى الخارج من
الطلاب اليهود المتفوقين.
غير أن تمكن اليهود من اللغات
الاوربية، واستخدام الانكليز لهم في الدوائر الحكومية بكثرة ووجهة نظرهم المنفتحة
على العلاقات الدولية، أثارت حسد عامة الناس من اليهود، فاتهموهم بالتعاطف مع
بريطانيا وفرنسا، وهما الامبراطوريتان اللتان تمثلان القوتين الاوروبيتين
الاستعماريتين اللتين حالتا دون إحياء الشريف حسين وابنائه للخلافة العربية بقيادة
الهاشميين في المنطقة.
وحتى في خلال هذه الفترة
المتسامحة بفضل المستشارين الانكليز الذين كان يرى الملك غازي فيهم جواسيس وعملاء
انكليز يحولون دون تقدم العراق والوحدة العربية، تذمر بعض العراقيين المسلمين من
السيطرة الواضحة لليهود على الاقتصاد والمالية في العراق ومن وضعهم الاداري
والاجتماعي الرفيع بحيث كانوا يشرفون على الموظفين المسلمين بصورة عامة، الامر
الذي يخالف الشريعة الاسلامية، وكذلك النسبة العالية للموظفين اليهود في الدوائر
الحكومة وخاصة في ادارة المحاسبات، كل هذا اثار الغيرة والحسد عند خرجي المدارس من
المسلمين .
وفي 1930،
تم الاتفاقية الانكليزية العراقية المبرمة بين المملكة المتحدة والعراق الواقع تحت
السيطرة البريطانية، وفيها الشروط الاساسية لاستقلال العراق الإسمِي، وبعد ذلك
بعامين عندما تم انهاء الانتداب البريطاني على العراق دخل العراق الى عصبة الامم
في عام 1932 لاصرار العراقيين على الاستقلال نظرا
لقلة صبرهم ولثقتهم المفرطة بانفسهم والتهور وعدم صبرهم على التخطيط الطويل وهي من
الصفات العشائرية البارزة.
وعندما نال العراق استقلاله في
ذلك العام، اعتبر العديد من الضباط العراقيين الذين خدموا سابقا في الجيش العثماني،
أن تاسيس الدولة العراقية بمثابة خطوة اولى لإنشاء دولة عربية عظمى لانجاز الوعد
البريطاني للاسرة الهاشمية بعد الانضمام الى جانب بريطانيا ضد العثمانيين خلال
الحرب العالمية الاولى. بالاضافة الى
ذلك، فقد حاول العديد من الوطنيين العراقيين اعادة الخلافة الاسلامية الى العرب،
وعملت هاتان المجموعتان على الوقوف بوجه النظام العالمي السياسي العلماني الغربي
الموجه في العراق وقاومت اية نشاطات دينية او سياسية أو قومية أو اثنية لا تحمل
إتجاهات قومية عربية او اسلامية.
كان للعلمانيين العراقيين اليد
العليا طيلة فترة بقاء الملك فيصل الاول في سدة الحكم، ومنهم كان الملحق العسكري
السابق في الجيش العثماني، الصحفي اليهودي وعضو البرلمان العراقي سلمان شينه الذي
اسس المجلة اليهودية الاولى بالعربية الفصحى، تحت عنوان "المصباح" (وهو
رمز ديني يهودي واضح) (1924-1927)، الذي يشير
بوضوح الى ميولها اليهودية الصهيونية. وبعد
توقفها عن الصدور أسس انور شاؤل، المجلة الاسبوعية "الحاصد"،
في الفترة بين 1928 و1939. وعلى
الرغم من ان انور شاؤول اصبح من المدافعين عن الوطنية العراقية وسياسة التوجه
القومي العربي، فأن مجلته "الحاصد" تم
اغلاقها عشية الحرب العالمية الثانية من جراء الضغوط الذي مارسها القوميون
العراقيون والفلسطينيون المناصرون للنازية في العراق بقيادة مفتي القدس الحاج أمين
الحسيني.
انضم العديد من هؤلاء الكتاب
اليهود الى تيارات القوى الوطنيةٍ الليبرالية واليسارية ونظموا القصائد الوطنية
والمقالات والقصص القصيرة في الاشادة بانجازات العراق وفي دعم الاصلاحات
الاجتماعية والثقافية مثل تحرير المرأة والتسامح الديني والاخاء والتعاون في سبيل
احياء نهضة علمية وثقافية واجتماعية وانتقاد الفساد الاداري السائد والرشوة وتعاطي
المخدرات. واصدر شاؤول حداد، المدير اليهودي
لمدرسة مسعودة شيمطوب الابتدائية ( بغداد 1910-2010 ) صحيفة "البرهان" للدفاع
عن الاقلية اليهودية ضد النشاطات النازية المتصاعدة، وكتب الشاعر ابراهيم عوبديا
في المراحل الاولى من نشاطاته الشعرية في مدح العائلة المالكة العراقية وساند
الوطنية العراقية. ونشر الاقتصادي مير بصري، الذي
التحق بوزارة الخارجية العراقية، مقالات حول الاقتصاد العراقي وقصائد وقصصا قصيرة
دارت حول المشاكل الاجتماعية للعراق وحبه للعراق. وقام
كل من بصري والكاتب اليهودي يعقوب بلبول بتحرير مجلة "التجارة" ( بصور
متعاقبة، 1938-1945 و1945-1951) والتي
قامت بنشرها غرفة تجارة بغداد.
ان النجاح اليهودي في توحيد
الصهيونية الدينية والوطنية العراقية انتهى مع وفاة الملك فيصل الاول في 1933. وبدأت
الحكومة العراقية بتوظيف معلمين من الفلسطينيين من الذين فروا الى العراق كلاجئين مند احداث
الانتفاضات التي حصلت في عام 1929 في
فلسطين ومجزرة اليهود في الخليل (حبرون)،
ومن ثم بعد الثورة الفلسطينية في عام 1936،
وضاعف الوطنيون العراقيون والفلسطينيون من نشاطاتهم المناصرة للنازي بتشكيل منظمة "الفتوة" الشبه
العسكرية و"نادي المثنى" القومي
الذي حرض على استخدام العنف ضد اليهود.
أدت الدعاية القومية والدينية
الى مناهضة اليهود واشعال المشاعر القومية العربية وكراهية الآخر ونهاية للتسامح
الديني الذي ابدته الحكومة للتفوق اليهودي في التجارة وللنفود في المجال السياسي،
وخصوصا في النشاطات الصهيونية، وتم حظر دروس اللغة العبرية في المدارس اليهودية في
عام 1936، وتم تحديد حصص معينة لليهود في
مؤسسات التعليم العالي، وتم طرد المعلمين اليهود القادمين من فلسطين.
لقي القادة الفلسطينيون الفارين
الى العراق من مطاردة الانكليز لهم كل الترحاب والضيافة من القوميين العراقيين،
وقامت الحكومة السنية بتعيينهم في سلك التعليم مع منحهم الدعم المعنوي والحرية
لممارسة نشاطهم السياسي، وكان من بينهم مفتي القدس، الحاج امين الحسيني، الذي طرده البريطانيون
من القدس، وجمال الحسيني، رئيس حزب العرب، وعبد القادر الحسيني، وهو مناصر للنازية
وكان قد درس في المانيا، وموسى العلمي (1897-1984) الذي
بسبب تورطه بالاشتراك في العصيان العربي تم طرده من منصبه كمستشار قانوني للحكومة
الفلسطينية، والناشط الوطني الفلسطيني الشاعر برهان الدين العبوشي الذي دعا الشعب
والحكومة العراقية الى طرد او ذبح اليهود العراقيين المسيطرين على الاقتصاد.
ادت النشاطات التي قام بها
الوطنيون الفلسطينيون ومعهم الدكتور فريتز غروبا، القنصل الالماني في بغداد، الى
قيام حكومة مناصرة للنازية برئاسة رشيد عالي الكيلاني في شهر نيسان من عام 1941،
وبتشجيع من مفتي القدس ومن حاشيته، اثار الكيلاني بنصيحة من المفتي، الحرب ضد البريطانيين. كانت
الحرب قصيرة، وتمكن البريطانيون من اعادة سيطرتهم على العراق لحماية تدفق النفط
لمصلحة الحلفاء ولمخاوفهم من امتداد الغزو الالماني الى الشرق
الاوسط والشرق الادنى الغني بالبترول. احدث
الانتصار البريطاني على الجيش العراقي في نهاية آيار 1941 فراغا
قصير المدى في السلطة والامن في العراق بحيث ادى الى حصول مذبحة مدبرة ضد اليهود
في بغداد والمعروفة بالفرهود (من 1-2 حزيران 1941) التي
تم فيها قتل 138 يهودي في
بغداد وتسعة خارجها (حسب قائمة باسماء الضحايا في
مركز تراث يهو العراق= 147 وهناك تعقديرا اخرى مبالغ فيها من 179 والى بضع مئات) واصابة
نحو 2500 آخرين. وخلال
احداث الفرهود، كان الجيش البريطاني متمركزا في السفارة البريطانية خارج بغداد،
وامتنع عن التدخل وانقاذ اليهود بالرغم من سماعهم لعلعة رصاص رشاشات الشرطة والجيش
تحصد اليهود ورؤيتهم طوابير المفرهدين يحملون الاثاث المنهوبة على الجسر قرب
السفارة، وذلك تحت ذريعة ان اعمال العنف تلك كانت من شؤون العراق الداخلية. وتم
نهب الدور والمحلات العائدة لليهود، وتم اغتصاب النساء والاطفال واختطاف البعض
وقتلهم بصورة وحشية، ومارس الفلسطينيون دورا نشيطا في التحريض ضد اليهود.
كان الفرهود حدثا مأساويا
وخيانة عظمى لوفاء اليهود للعراق فقدوا فيه الشعور بالانتماء لوطنهم الذي اخلصوا
له ووقعة شاذة في تاريخ اليهود في العراق. كان
زلزالا مدمرا قسم المجتمع اليهودي الى ثلاث فئات. كانت الفئة
الاولى تتمثل في التيار الوطني المخلص للعراق، والذي يتألف من الادباء والشعراء
والمثقفين والمهنيين والتجار، وكانوا يرون ان مستقبلهم مربوط بحبل السرة بالعراق،
كمواطنين مخلصين. تضمنت قائمة قادة هذا التيار من
المثقفين الشاعر والاديب انور شاؤول ومير بصري والدكتور سلمان درويش واخيه كاتب
القصة القصيرة شالوم درويش ويعقوب بلبول وابراهيم عوبديا والمربي شاؤل حداد وعزرا
حداد. والفئة الثانية كانت من الشيوعيين
اليهود، الذين كانت لديهم قناعة بان الحل الوحيد للمشاكل التي تواجهها الاقليات في
العراق هو بالقيام بثورة شيوعية، والتي ستعمل على استتباب الامن والحرية والمساواة
والتخلص من رجال الدين والاقطاعيين. هذه
المجموعة كانت منظمة بصورة جيدة وتمتعت بتضامن وتعاطف الغالبية الشيعية المسلمة
ومن مختلف الاقليات الاثنية والدينية في كافة انحاء العراق. ومن
ضمن قادتهم المثقفين كان يوسف زلخا ومسرور قطان ويحسقيل قوجمان والياهو حوري وسامي
ميخائيل وشمعون بلاص. الفئة الاخيرة كانت قليلة من
الذين كانوا من ذوي الثقافة الدينية والقومية اليهودية التي انطلقت كالمارد من
قمقم التمييز الديني والاضطهاد والاعتداء والاهانات اليومية والكبت، ظهر هذا
التيار بسبب صفعة الفرهود الغادرة، واستنجاد بعض اليهود الذين كان لهم اقارب في
فلسطين بالحركة الصهيونية هناك كما ورد في كتابي الوزيرين السابقين في اسرائيل،
مردخاي بن فورات وشلومو هِلليل، وغيرهما من الذين كانوا مقتنعين بان الحل الوحيد
للاقلية اليهودية هو بتاسيس وطن قومي
في ارض الميعاد (الارض
التوراتية - اسرائيل) حيث
يستطيعون العيش بحرية وكرامة وامان ومساواة تحت نظام ديموقراطي يهتم العلم الحديث .
وبعد تاسيس دولة اسرائيل في عام 1948،
وخصوصا بعد الهزيمة المذلة للجيوش العربية في حرب الايام الستة 1967،
اصبح العرب في العراق وفي كافة الدول العربية، لا يميزون بين اليهود والصهيونيين
فاحرقوا الاخضر واليابس. وفي
تموز 1948، وبعد شهرين من انطلاق حرب التحرير،
تم اعتبار الانتساب الى الصهيونية كمخالفة جنائية في العراق تؤدي الى السجن
والاعدام.
وبعد ذلك بمدة قصيرة في نفس
العام وكانتقام لحرب 1948، لفقت
الحكومة العراقية تهمة بيع السلاح من مخلفات الجيش البريطاني الى الصهاينة في
فلسطين، ضد الثري شفيق عدس، التاجر اليهودي من البصرة الذي شنق أمام داره وعائلته،
كانت تلك الحادثة بمثابة صفعة ثانية بالنسبة للمجتمع اليهودي، لان الكثير من
اليهود نظر الى مصرعه الغادر بنهاية عصر التصافي في العراق مفرق طرق، ينذر بان لا
مستقبل لليهود في العراق. واصدرت
الحكومة عدة مراسيم ازاحت بها اليهود عن العديد من اوجه الحياة العامة ففصلتهم عن
وظائفهم والغت رخص العمل التي يعمل بموجبها المصرفيون والتجار اليهود، واجبرت
اثرياء اليهود على مساعدة الجهود الحربية العراقية لاجل انقاذ فلسطين، وفرضت قيود
على السفر وكذلك على بيع او شراء الاملاك
أثارت مخاوف اليهود توالي
الاعتداءات عليهم منذ لجوء مفتي القدس الحاج امين الحسيني وحوالي 200 عائلة
فلسطينية من انصاره الى العراق المضياف والذي رعى المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها. وقد
حرض الفلسطينيون منذ قدومهم، الحكومة العراقية والشعب على طرد يهود
العراق ومهاجمة القواعد العسكرية البريطانية في الحبانية وسن الذبان مما جلب
الدمار على العراق، فانتقم الجيش العراقي الذي اندحر امام الانكليز من اليهود في
بغداد بذريعة ان ارتداء ملابس العيد كان شماتة بالجيش العراقي، فبدأوا بمهاجمتهم
وقتلوا بعض المحتفلين بالعيد قرب البلاط الملكي وبصورة تلقائية في منطقة باب الشيخ
بعد ان كانت ايد مجهولة قد سبقت وكتبت على دكاكين المسلمين كلمة "مسلم" فبدأ
رجال الشرطة والجيش بقتل اليهود في الشوارع وتبعهم سكان الصرائف الفقراء من منطقة
السدة بالنهب والسلب من بيوت اليهود والاغتصاب والقتل فيما عرف بمذبحة الفرهود في 1-2 حزيران 1941 وخاصة
عندما لم يتدخل السفير البريطاني ولا الجيش البرطاني الرابض في حديقة السفارة
البريطانية، في ما يحدث في بغداد. واستمرت
الاعتداءات اليومية والاضطهاد الممارس ضدهم وإعدام شفيق عدس ككبش فداء لحرب 1948 في
فلسطين. كل هذا حرض بعض اليهود العراقيين الذين
التحقوا بالقوات الصهيونية في فلسطين على مساعدة يهود العراق على تنظيم حركة
صهيونية سرية في العراق ومدهم بالسلاح للدفاع عن انفسهم، وكان اول الاتصالات مع
السلطات الصهيونية في فلسطين حدثت بعد الفرهود، وكان اول سلاح حصلوا عليه، نقله موشي
ديان مع باصات نقل الجنود البريطانيين، وكان الفرهود هو العامل الرئيسي لانتشار
الحركة الصهيونية السرية في العراق ومحاولاتها في تهريب اليهود العراقيين الى
اسرائيل. وفي
عقد الاربعينيات، بدأ اليهود بالهروب من العراق،
في البداية على شكل اعداد صغيرة عن طريق سوريا ولبنان الى فلسطين، وبعد ذلك من
خلال اعداد كبيرة ومتنامية الى ايران بمساعدة الاكراد المضطهدين البواسل الذين
تعاطفوا مع اليهود المضطهدين، متلقين المعونة من مبعوثين يهود والذين سرعان ما
وضعوا نصب اعينهم العمل على تحويل اعداد اكبر من اليهود العراقيين الى اسرائيل. وبسبب
شعور الحكومة العراقية بالاحباط والخجل من الهروب غير الشرعي لليهود بمثل هذه
الاعداد الكبيرة، اصدرت الحكومة قانون اسقاط الجنسية العراقية في شهر آيار 1950 لتنظيم
طرد اليهود ومصادرة اموالهم واملاكهم بقانون تعسفي اشد في عام 1951،
هو تجميد أموالهم وأملاكهم لاجبارهم على مغادرة مسقط رأسهم، اسوة بمذبحة يهود خيبر (628 م) الذين
طردهم فما بعد الخليفة
عمر بن الخطاب دون ان يستطيعوا اخذ ممتلكاتهم واموالهم معهم. وهكذا تم طرد الطائفة
اليهودية المؤلفة من 140 الف نسمة التي
هاجرت (واغلبهم من سكنة بغداد) في
عملية نقلهم بالطائرات التي تقاسم أرباحها السيد نوري السعيد وابنه صباح ورئيس الوزراء توفيق السويدي وغيرهم،
والتي سميت لاحقا بعملية "عزرا ونحمياه"، ومن ضمنهم كان جميع الاكراد
اليهود ال20 الف، والذين يعيشون في
شمال العراق وكانوا من الفلاحين القرويين
الفقراء بغالبيتهم. وهكذا
افلحت الحكومة العراقية في مصادرة املاك اليهود وارسالهم الى اسرائيل بدون مال
يمكنهم من مواصلة الحياة الكريمة في وطنهم الجديد- القديم. ثم
حذت الدول العربية بمبادرة من جامعة الدول العربية حذو العراق وعمدت الى طرد
واضطهاد مواطنيها اليهود ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم وطردهم الى أوروبا.
وفي نهاية الفترة التي شهدت
الهجرة الجماعية الكبرى،
بقي في العراق حوالي ستة الاف يهودي فقط. اولئك
الذين بقوا في تلك السنين كانوا في حالات عديدة من الاثرياء او من اصحاب المناصب
الرفيعة في المجتمع العراقي، واستطاعوا تحقيق ازدهارهم الاقتصادي من جديد، وخصوصا
في الفترة ما بين 1958 و1963،
في عهد الحكومة الليبرالية لعبد الكريم قاسم (1914-1963) والذي
يؤخذ عليه انه اسقط حكم العائلة الملكية واعدم العديد منها بضمنهم الملك الشاب
فيصل الثاني وولي العهد السابق، خاله الامير عبد الاله وهدم المقبرة اليهودية
لبناء برجه.
خلال احداث انقلاب عبد الكريم
قاسم في 1958، تم اتهام
اليهود بشكل خاطئ بارتكابهم لاعمال تخريب طالت محطات الوقود في مناطق الرصافة وقامت عناصر معادية
لليهود بتدمير مدرسة لورا خدوري للبنات، ومن ثم تم احتلالها من قبل اللاجئين
الفلسطينيين. ولكن الحياة عادت الى طبيعتها
بالنسبة لليهود بعد شهرين من تلك الاحداث، ومنح الزعيم عبد الكريم قاسم لليهود
الحرية الكاملة والمساواة في الحقوق أيام حكمه، ومع هذا، قام قاسم في عام 1961 بازالة
مقبرة لليهود في بغداد لاقامة ساحة تمهيدا لتشييد برج في محاولة لتقليد برج عبد
الناصر في القاهرة.
وبعد اطاحة حزب البعث بعبد
الكريم قاسم في 1963 تحت قيادة
احمد حسن البكر (1914؟-1982) بدأ
المجتمع اليهودي يعاني الاضطهاد من جديد. استمر
انقلاب البكر عشرة اشهر فقط، حتى تمكنت حكومة عبد السلام عارف (1920-1966) من
الامساك بزمام السلطة. وقام عارف
بمصادرة المتبقي من المقبرة اليهودية وحرم اليهود من جوازات السفر وشرع سلسلة
اجراءات عنصرية ضد اليهود ومنها منعهم من الدراسة الجامعية وتجريد اي يهودي من
جنسيته اذا لم يعد الى العراق بعد ثلاثة اشهر. وبعد
وفاته في 1966 على اثر تحطم
طائرته الهليكوبتر في محاولة اغتيال واضحة من قبل خصومه السياسيين، استلم شقيقه
عبد الرحمن عارف السلطة ولكن اوضاع اليهود بقيت مشابهة لتلك التي كانت سائدة في
فترة حكم شقيقه.
في عام 1968،
وبعد مرور سنة على هزيمة الجيوش العربية في حرب الايام الستة أمام اسرائيل في عام 1967،
عاد حزب البعث الى السلطة بقيادة البكر، وكأنتقام لعار الهزيمة في هذه الحرب، قاد
النظام الوحشي الذي كان يقوده البكر بمساندة من قريبه صدام حسين (1937-2006) ما
اصبح يمثل الفصل الاخير في تاريخ المجتمع اليهودي العراقي. ففي
نهاية حرب الستة ايام بقي 3350 يهودي
في العراق، ولكن هذا العدد تقلص الى عدة مئات فقط في منتصف السبعينيات. وفي 1967،
وعلى خلفلية الخيبة من الشعارات الطنانة التي اطلقها الزعماء العرب وقواد الجيوش
العربية بأن "تل ابيب
الموعد" و"تل
ابيب، سوف
تصلى باللهيب \ واليهود سيكونوا الوقود" وألأخبار
الكاذبة عن تدمير سلاح الجو الاسرائيلي لدعم معنويات العرب واكتشاف الحقيقة المرة،
حلت الاتراح بدل الأفراح حين اكتشفت الجماهير العربية كذب الاعلام العربي، وساد
الشعور بالخيبة والانكسار الذي نتج عن هزيمة العرب في حرب الايام الستة مع
اسرائيل، عند ذاك قام النظام العراقي بموجة تعسفية ارهب بها المجتمع اليهودي من
خلال اعتقالات وعمليات اعدام لضحايا ابرياء من اليهود، ومن اكثر تلك الاعمال فظاعة
ما حصل في يوم 27 كانون الثاني 1969 حيث
تم شنق تسعة من اليهود كان من بينهم فتى في سن الـ16 عاما
خدعوه باقناعه ان يصرح بانه بلغ السن 18،
مخالفين القوانين والاعراف الانسانية بدون ان يرحموا شبابه. كما
قاموا بطردهم من وظائف القطاع الخاص والعام وحرمانهم نهائيا من جواز السفر وعانوا
من القيود في تنقلهم داخل العراق، وتم تجميد حساباتهم المصرفية والغاء رخص تجارتهم
وقطع خطوطهم الهاتفية، وذلك من ضمن اجراءات تعسفية وتمييزية اخرى مورست ضد اليهود. وهرب
العديد من اليهود في الفترة ما بين 1970 و1973 بمساعدة
إنسانية بطولية من المهربين الاكراد في شمال العراق، وفي منتصف العقد السبعيني،
كانت الطوائف اليهودية في العراق قد خلت منهم بصورة عملية، منهية بذلك 2500 عام
من المنفى اليهودي البابلي.
وفي ايامنا الحالية (2008)،
يعيش اقل من 12 شخص يهودي في
العراق، اغلبهم من المسنين. ويطلق
على الاطفال من ام يهودية متزوجة بمسلم "ابن
اليهودية"، وهناك
العديد من العائلات التي اخفت حتى عن اولادها حقيقة كونهم يهودا وما زالوا يعيشون
كمسلمين.
هناك جدل ما
زال يدور الى يومنا هذا حول الاسباب التي ادت الى اختفاء المجتمع اليهودي العراقي. هل
جاء نتيجة انتشار النعرات المعادية للسامية ونتيجة النفود النازي في الثلاثينيات
والاربعينيات من القرن الماضي؟
يرى البعض أن هذا التفسير هو تفسير
جزئي للدوافع الكامنة وراء الهجرة الكبرى بين 1950-1951. ويعزو
الاخرون السبب إلى دور القومية العربية المعادية للصهيونية واليهود عامة وقيام
دولة اسرائيل كدافع رئيسي لهذه الانقلابات. ومع
هذا، فهناك من يؤكد على النشاط الصهيوني والمبعوثين من اسرائيل، مدعين إنهم قاموا
بالقاء القنابل على المقاهي والمعابد اليهودية لارهاب اليهود وتعجيل خروجهم من
العراق، وقد حكمت المحكمة الإسرائيلية ببطلان هذه التهمة التي الصقت بالوزير
الاسرائيلي السابق السيد مردخاي بن فورات، واعتذار الصحفي السيد نادل الذي قدم
الدعوى ضد الوزير واضطر الى سحبها، ثم وجه احد المطلعين على بواطن الامور من
المسلمين المتنفذين، التهمة إلى دوائر الامن العراقية بارتكاب هذه العمليات للتخلص
من اليهود والاستيلاء على اموالهم.
كتب العديد من العراقيين
مذكراتهم خارج العراق، باللغة العبرية بصورة رئيسية وبعضهم كتبها بالانكليزية
والفرنسية ومدح الكثير منهم اصدقاءهم العراقيين وروابطهم الاجتماعية والثقافية بهم
وروح التسامح التي تحلوا بها، مبدين اسفهم على مغادرة مسقط رأسهم. مع
هذا، يدعي الجيل القديم من الكتاب في اسرائيل بانه حتى في
اثناء الفترات التي سادت فيه روح التسامح، فأن اليهود حتى قبل استقلال العراق
كانوا يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، مؤكدين اقوالهم بطرق عديدة، بدءا من
ضريبة "الجزية" لتي
تم اجبارهم على دفعها كما في حالة "اهل
الذمة" خلال العهد العثماني (في
حينها كانت الصهيونية في بدء نشأتها وغير هامة) والى
اضطرارهم رشوة المسؤولين ورجال الشرطة لتيسير امور تجارتهم ومواصلة ممارسة اعمالهم
في حياتهم اليومية، الى ضمان حماية جيرانهم المسلمين او المسؤولين المتنفدين والى
معاناتهم من القيود المتكررة بين الحين والاخر على تنقلهم وتجارتهم. ولذلك
يرى الكثير من الكتاب العلمانيين العرب، ان تبجح بعض الكتاب بالتسامح الاسلامي ما
هو إلا نتيجة لمقارنتهم باضطهاد اليهود في أوروبا المسيحية. وبالنسبة الى
اليهود، فان الهروب الى بلد غربي او الى اسرائيل معناه انهم سئموا التمييز الديني
والعنصري ورغبتم في الحياة الحرة الديموقراطية بعد يئسهم من امكان تطبيقها ليس في
العراق بل في جميع الدول العربية. وضعت
مذبحة الفرهود كل هذا في تناقض حاد: كون
المرء مواطنا من الدرجة الثانية هو امر ممكن تحمله، ولكن كونه هدف لاعمال عنف
جسدية واهانات وسباب وملاحقات في لقمة العيش، فهو شيء لا يحتمل حتما.
يرى الكثير من يهود البلاد
العربية ان خيارهم الهجرة الى اسرائيل هو انتصار للصهيونية على التيارات السياسية
كالشيوعية والوطنية العراقية او المواطنة العربية، وان الحلم الصهيوني بانشاء دولة
ديموقراطية حرة علمية وعلمانية هو الحل الوحيد
للاقليات اليهودية في العالم، غير ان الكثير يأسفون لاصرار العرب وبعض المسلمين
على التفرغ لفكرة ابادة الدولة اليهودية ولم يدركوا أن هذا الموقف هو سر نكبتهم،
وان خير حل هو اقامة دولتين فلسطينة واسرائيلة والاتفاق على حل عادل ودائم
بالاعتراف باسرائيل كدولة يهودية وأن يتخلى الفلسطينيون عن فكرة العودة، والاعتراف
باسرائيل كدولة يهودية والشروع في التعاون العلمي فجميع المجالات بين اليهود
والعرب لخير الدولتين والشعبين ومستقبل الاجيال القادمة، هذا هو الحل المثالي
لاستتباب السلام والازدهار في الشرق الاوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق