حديقة الشهداء في الموصل ..تاريخ من الذكريات الجميلة *
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
في الجانب الايمن من مدينة الموصل حديقة عامة كبيرة تسمى "حديقة الشهداء " وأصل هذه الحديقة ساحة كانت تتدرب فيها قطعات الجيش العثماني حيث انها تمتد لمسافات كبيرة كانت تضم القشلة المدنية والقشلة العسكرية وهي نفسها اليوم تضم دار محافظ نينوى وبناية المتحف الحضاري وبناية المستشفى العسكري وبلدية الموصل وبناية المكتبة المركزية العامة القديمة والتي اصبحت مديرية الوسائل التعليمية .وقد اعتادت القيادة العثمانية في مقر ولاية الموصل تنظيم الاستعراضات العسكرية الرسمية والسباقات المدرسية والاحتفالات الحكومية وقد ابتدأ الوالي المصلح محمد اينجة بيرقدار والذي تولى امر الموصل سنة 1832 بتشجير الساحة التي تحولت في عهد الاحتلال البريطاني(1918-1921 ) الى حديقة عامة عندما ُسيجت واطلق عليها اسم " حديقة ايمري" وليبولد ايمري هو وزير المستعمرات البريطاني الذي احتلت الموصل في عهده وامام الحديقة الساحة التي كانت تتم فيها الاستعراضات العسكرية العثمانية وقد اطلق على الساحة سنة 1918 اسم "ميدان فانشو " نسبة الى القائد البريطاني الذي احتلت قواته الموصل في 11 تشرين الثاني –نوفمبر 1918 الجنرال فانشو.
وبعد تكوين الدولة العراقية الحديثة بذل متصرفوا الموصل جهودا كبيرة من اجل تطوير الحديقة وتجميلها وزرعها بالاشجار دائمة الخضار . وفي سنة 1923 واثناء " حركات بارزان الاولى "في شمال العراق سقطت في الحركات طائرة كان يقودها " الطيار فائق الطائي " في 8نيسان 1923 الموافق 12 ذي الحجة سنة 1315 هجرية وكان معه مساعده المرحوم " محمد عباس " ، وتقرر دفن جثمانيهما في الحديقة واصبح لهما نصب يعرف ب" نصب الشهداء" ، وتغير اسم الحديقة الى "حديقة الشهداء ". ويذكر الحاج عبد الجبار جرجيس الباحث التراث الموصلي في مقال له عن حديقة الشهداء منشور في جريدة فتى العراق في عددها 27 ايلول –سبتمبر 2008 ان الحديقة كانت تشهد في عيد تأسيس الجيش في 6 كانون الثاني –يناير من كل عام احتفالية توضع فيها اكاليل الزهور على ضريح الشهيدين واستمر الحال هكذا حتى سنة 1968 . وعندما توفي رئيس بلدية الموصل السيد خير الدين العمري سنة 1951 ، وكانت له جهوده الكبيرة في اعمار الموصل وتحديثها عندما تولى البلدية من 1932-1949 ، أراد المجلس البلدي تكريمه ، فدفن في حديقة الشهداء واقيم له نصب تذكاري لايزال موجودا في الحديقة .
وثق للحديقة عدد من ادباء الموصل وشعراءها ، وممن أرخ للحديقة ووثقها شعرا ونصا الدكتور ذو النون الاطرقجي والقاص الاستاذ انور عبد العزيز والكاتب والباحث صلاح سليم علي . وكان للجميع ،ومنهم كاتب هذه السطور، ذكريات جميلة فيها فلقد كان الطلبة عبر السنوات الماضية يدرسون فيها ويقضون امتع اوقاتهم اذ كانت هي وحديقة الشعب في الجانب الايسر من الموصل متنفسهم الوحيد وللاسف لم يبن او يؤسس اي مسؤول حكومي منذ 80 عاما حديقة في الموصل على غرار حديقتي الشهداء والشعب. وادناه ماقاله الاستاذ ذو النون الاطرقجي في حق حديقة الشهداء :
مفتوحة للعابرين والمقيمين وللجيران
لطالبي المتعة والنزهة
والمتعبون يستريحون على المصاطب الخضراء
يحلمون
والكهول ينثرون ذكرياتهم
في أخريات الضوء
والحدائقيون يشذبون ما طال من الثيل
والاس
ويزرعون شتلات جديدة تسر العابرين
والمتعبون يرمقونها ويبسمون
أبوابها الستة
مفتوحة للناس فوق مصاطبها،
يشمسون يرقبون يقظة الورود من نداها
للفصول المبطئات
للهواء ينقل العبير والغبار
والتلاميذ يروحون،
يجيئون
ساعة للدرس
ساعتين للهو وللورود
...
سياجها الطويل لم تكن له نهاية
كدجلة الطويل
كانت تسع الدنيا
ومما كتبه الاستاذ انور عبد العزيز عنها : " قبل أربعين عاماً في الخمسينات وجزء من الستينات كانت حديقة الشهداء معلماً جميلاً بهياً، وكانت رمزاً للموصل أبّهة وفرحاً ونظافة، في التصنيف البلدي لم تكن أكثر من حديقة ولكنّها كانت من أجمل حدائق العراق تخطيطاً وتنسيقاً وشجيرات ورد وزينة وطيور، كان الكلّ محباً لها معتزاً بها، لم يجرأ أحد – إلاّ في النادر – على العبث بها، وحتى الصغار يتعاملون معها بتقدير..." . أما الاستاذ صلاح سليم علي فكتب عن الحديقة وقال :" حديقة الشهداء كانت اشبه بجامعة حرة مفتوحة في الهواء الطلق ، وهي بحكم اجواء ام الربيعين تنسجم مع مناخات المدينة واجوائها الطبيعية والوجدانية معا . كما تقدم دربا مختصرا عاطرا لمن يقدم من المكتبة المركزية العامة او الجسر الجديد او شارع حلب عبر الأعدادية الشرقية او الكورنيش الى الدواسة او النبي شيت التي تختزن افكار الحركة القومية وانتفاضة الشواف ..وذكريات أخرى كثيرة ..."
**************************************************
* صورة تجمعني مع صديقين عزيزين في اوائل الستينات من القرن الماضي ونحن داخل حديقة الشهداء حيث كنا نتابع دروسنا بعد الظهر فيها عندما كنا طلابا في الاعدادية الشرقية في الموصل ويظهر في الصورة من اليمين الدكتور ابراهيم خليل العلاف والاستاذ موفق عبد المجيد الطائي ( اصبح مدرسا للتربية الرياضية ) وهاشم شيت محمد ( اصبح ضابطا وهو الان متقاعد )
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
في الجانب الايمن من مدينة الموصل حديقة عامة كبيرة تسمى "حديقة الشهداء " وأصل هذه الحديقة ساحة كانت تتدرب فيها قطعات الجيش العثماني حيث انها تمتد لمسافات كبيرة كانت تضم القشلة المدنية والقشلة العسكرية وهي نفسها اليوم تضم دار محافظ نينوى وبناية المتحف الحضاري وبناية المستشفى العسكري وبلدية الموصل وبناية المكتبة المركزية العامة القديمة والتي اصبحت مديرية الوسائل التعليمية .وقد اعتادت القيادة العثمانية في مقر ولاية الموصل تنظيم الاستعراضات العسكرية الرسمية والسباقات المدرسية والاحتفالات الحكومية وقد ابتدأ الوالي المصلح محمد اينجة بيرقدار والذي تولى امر الموصل سنة 1832 بتشجير الساحة التي تحولت في عهد الاحتلال البريطاني(1918-1921 ) الى حديقة عامة عندما ُسيجت واطلق عليها اسم " حديقة ايمري" وليبولد ايمري هو وزير المستعمرات البريطاني الذي احتلت الموصل في عهده وامام الحديقة الساحة التي كانت تتم فيها الاستعراضات العسكرية العثمانية وقد اطلق على الساحة سنة 1918 اسم "ميدان فانشو " نسبة الى القائد البريطاني الذي احتلت قواته الموصل في 11 تشرين الثاني –نوفمبر 1918 الجنرال فانشو.
وبعد تكوين الدولة العراقية الحديثة بذل متصرفوا الموصل جهودا كبيرة من اجل تطوير الحديقة وتجميلها وزرعها بالاشجار دائمة الخضار . وفي سنة 1923 واثناء " حركات بارزان الاولى "في شمال العراق سقطت في الحركات طائرة كان يقودها " الطيار فائق الطائي " في 8نيسان 1923 الموافق 12 ذي الحجة سنة 1315 هجرية وكان معه مساعده المرحوم " محمد عباس " ، وتقرر دفن جثمانيهما في الحديقة واصبح لهما نصب يعرف ب" نصب الشهداء" ، وتغير اسم الحديقة الى "حديقة الشهداء ". ويذكر الحاج عبد الجبار جرجيس الباحث التراث الموصلي في مقال له عن حديقة الشهداء منشور في جريدة فتى العراق في عددها 27 ايلول –سبتمبر 2008 ان الحديقة كانت تشهد في عيد تأسيس الجيش في 6 كانون الثاني –يناير من كل عام احتفالية توضع فيها اكاليل الزهور على ضريح الشهيدين واستمر الحال هكذا حتى سنة 1968 . وعندما توفي رئيس بلدية الموصل السيد خير الدين العمري سنة 1951 ، وكانت له جهوده الكبيرة في اعمار الموصل وتحديثها عندما تولى البلدية من 1932-1949 ، أراد المجلس البلدي تكريمه ، فدفن في حديقة الشهداء واقيم له نصب تذكاري لايزال موجودا في الحديقة .
وثق للحديقة عدد من ادباء الموصل وشعراءها ، وممن أرخ للحديقة ووثقها شعرا ونصا الدكتور ذو النون الاطرقجي والقاص الاستاذ انور عبد العزيز والكاتب والباحث صلاح سليم علي . وكان للجميع ،ومنهم كاتب هذه السطور، ذكريات جميلة فيها فلقد كان الطلبة عبر السنوات الماضية يدرسون فيها ويقضون امتع اوقاتهم اذ كانت هي وحديقة الشعب في الجانب الايسر من الموصل متنفسهم الوحيد وللاسف لم يبن او يؤسس اي مسؤول حكومي منذ 80 عاما حديقة في الموصل على غرار حديقتي الشهداء والشعب. وادناه ماقاله الاستاذ ذو النون الاطرقجي في حق حديقة الشهداء :
مفتوحة للعابرين والمقيمين وللجيران
لطالبي المتعة والنزهة
والمتعبون يستريحون على المصاطب الخضراء
يحلمون
والكهول ينثرون ذكرياتهم
في أخريات الضوء
والحدائقيون يشذبون ما طال من الثيل
والاس
ويزرعون شتلات جديدة تسر العابرين
والمتعبون يرمقونها ويبسمون
أبوابها الستة
مفتوحة للناس فوق مصاطبها،
يشمسون يرقبون يقظة الورود من نداها
للفصول المبطئات
للهواء ينقل العبير والغبار
والتلاميذ يروحون،
يجيئون
ساعة للدرس
ساعتين للهو وللورود
...
سياجها الطويل لم تكن له نهاية
كدجلة الطويل
كانت تسع الدنيا
ومما كتبه الاستاذ انور عبد العزيز عنها : " قبل أربعين عاماً في الخمسينات وجزء من الستينات كانت حديقة الشهداء معلماً جميلاً بهياً، وكانت رمزاً للموصل أبّهة وفرحاً ونظافة، في التصنيف البلدي لم تكن أكثر من حديقة ولكنّها كانت من أجمل حدائق العراق تخطيطاً وتنسيقاً وشجيرات ورد وزينة وطيور، كان الكلّ محباً لها معتزاً بها، لم يجرأ أحد – إلاّ في النادر – على العبث بها، وحتى الصغار يتعاملون معها بتقدير..." . أما الاستاذ صلاح سليم علي فكتب عن الحديقة وقال :" حديقة الشهداء كانت اشبه بجامعة حرة مفتوحة في الهواء الطلق ، وهي بحكم اجواء ام الربيعين تنسجم مع مناخات المدينة واجوائها الطبيعية والوجدانية معا . كما تقدم دربا مختصرا عاطرا لمن يقدم من المكتبة المركزية العامة او الجسر الجديد او شارع حلب عبر الأعدادية الشرقية او الكورنيش الى الدواسة او النبي شيت التي تختزن افكار الحركة القومية وانتفاضة الشواف ..وذكريات أخرى كثيرة ..."
**************************************************
* صورة تجمعني مع صديقين عزيزين في اوائل الستينات من القرن الماضي ونحن داخل حديقة الشهداء حيث كنا نتابع دروسنا بعد الظهر فيها عندما كنا طلابا في الاعدادية الشرقية في الموصل ويظهر في الصورة من اليمين الدكتور ابراهيم خليل العلاف والاستاذ موفق عبد المجيد الطائي ( اصبح مدرسا للتربية الرياضية ) وهاشم شيت محمد ( اصبح ضابطا وهو الان متقاعد )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق