الأحد، 2 مارس 2014

كنائس البصرة ....ما حل بها !! بقلم كاظم فنجان الحمامي

البصرة تفقد كنائسها العتيقة
 
جريدة المستقبل العراقي
كاظم فنجان الحمامي
 
الميزوبوتاميا ارض الآشوريين والسريان الأرثوذكس (اليعاقبة) والسريان الكاثوليك والكلدان واللاتين والنسطوريين, ومنبت الكنائس المسيحية كلها منذ العهود القديمة إلى العصور الذهبية التي عمقت فيها جذورها من نينوى إلى البصرة تاركة بصماتها الأثرية شامخة كشواهد حية لتنوع حضارة ارض الرافدين حتى يومنا هذا, لكنهالم تكن بمنأى من بلدوزرات التخريب والتدمير, ولم تكن بمنأى من حملات التفريغ والتهجير. .
فقد كان لتقلب الأوضاع السياسية في العراق وتفجرها بسلسلة متعاقبة من الثورات والانقلابات العسكرية للفترة من 1958 إلى 1978, وتورط البلاد والعباد بمتوالية مرهقة من الحروب والمآسي والنكبات للفترة من 1980 إلى 2003, وتفجر الصراعات السياسية الطائفية للفترة من 2003 إلى 2013, كان لها الأثر الكبير والمباشر على حياة المواطنين بشكل عام, وعلى حياة الأقليات المسيحية والصابئية بشكل خاص, فاستشعروا الخطر, وتعاظم قلقهم بوتائر شتى تنوعت بين الاحتلال والقهر وفقدان الأمان وغياب السلام واختلال موازين العدالة والإنصاف, ووجدوا بقائهم في العراق يضعهم في مواجهة المخاطر الداهمة, ويحرمهم من ممارسة شعائرهم الدينية على وجه الاعتياد, ويستنزف قدراتهم المادية, وينغص عيشتهم, ففضلوا الهجرة نحو محطات الغربة والاغتراب, وهكذا خسر العراق الجزء الأهم من مقوماته البشرية, وتردت قدراته المستقبلية في مواجهة التحديات القائمة, فتركت هذه الهجرة جملة من التغيرات السلبية المؤلمة في بيئتنا الحضارية والثقافية. .
ولم يتنبه السياسيون ولا علماء الاجتماع إلى التداعيات الكارثية لهذه الهجرة الواسعة للمسيحيين والصابئة المندائيين, الذين كانوا يشكلون حلقة الوصل بين الحضارة العربية والحضارة الغربية, فقد هضم المسيحيون كلتا الثقافتين وتفهموها, وتوصلوا إلى إمكانية التحاور بينهما, وكان للثقافة المسيحية العراقية (على مدى تاريخها المثمر) تأثيراً متبادلا بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية الغربية, فلعبوا دوراً كبيراً في عقلنة التطرف لدى الثقافتين على الرغم من الظروف القاسية التي واجهوها في هذا المسار الشائك. .  
وقد اخترنا مدينة البصرة لكي نستعرض من خلالها أوضاع المسحيين باعتبارها من المدن العراقية القديمة, التي استمدت اسمها (بصراياثا) من رواسب اللغة الكلدانية والمندائية, واحتفظت بالعديد من المعالم الدالة على قدم الكنائس العتيقة, وأسماء العديد من المناطق والمؤسسات والمنتجات. .
فالبصرة مدينة التآخي والمحبة والوئام, المزدانة بواجهاتها المائية, الزاهرة بتنوعها الثقافي والديني, فتكاثرت فيها دور العبادة المسيحية في ظل التفاعل الاجتماعي المتحضر لهذه المدينة المينائية المفتوحة على بحار الله الواسعة حتى بلغت (20) كنيسة وديراً تقريباً, لكنها اختزلت الآن إلى خمس كنائس فقط, أقدمها كنيسة الآباء الكرمليين, التي أسسها الأب بازيل الكرملي, وكنيسة السريان الكاثوليك في سوق التجار, وكنيسة العائلة المقدسة في محلة الباشا, وكنيسة الكلدان في محلة الخندق, وكنيسة مريم العذراء للطائفة الأرثوذكسية الأرمينية في الباشا, وكنيسة (مار أفرام) الكلدانية في محلة بريهة, وكنيسة السريان الكاثوليك في شارع الساحل, وكنيسة الآشوريين في تقاطع كوت الحجاج, وكنيسة القديسة تيريزا للكلدان الكاثوليك, وكنيسة السريان الكاثوليك في الداكير, والكنيسة الشرقية في محلة الجمهورية (الفيصلية), والكنيسة الأرثوذكسية في العزيزية, وكنيسة البروتستانت الإنجيلية في مناوي باشا, وكنيسة السبتيين الأدفنست في مناوي باشا, وكنيسة الصخرة الرسولية بالعشار, ودير راهبات التقدمة في مناوي باشا. .
لقد خسر العراق ثروة لا تقدر بثمن عندما تغافل عن هجرة العوائل المسيحية, وارتكب اكبر هفواته عندما سمح للقوى الهمجية بتهجيرهم بأساليبها الاستفزازية الظالمة, ففقدت البصرة أعز ما لديها في غضون بضعة أعوام, كانت فيها هي الخاسرة, في خضم الفوضى الأمنية التي روعت التجمعات السكانية المسالمة, حتى امتدت يد الظلم لتسهم في تشريد آلاف العوائل, بمؤامرة خبيثة استهدفت تفريغ العراق من جذوره البشرية الضاربة في عمق التاريخ, ولسنا مغالين إذا قلنا ان لهذه الأسر المسيحية في البصرة الدور الريادي الأكبر في رفد الحركة الملاحية بأصحاب المواهب الفذة, والنفوس الطيبة, والعقول المنتجة, والسواعد المسلحة بأدوات الرقي الحضاري, ولم يبق منهم الآن سوى الكابتن (عماد كامل عبودي), والمرشد البحري (رمزي إيشو داود), وطويت تلك الصفحات الذهبية من سجلات الموانئ, التي كانت مزدانة بباقة كبيرة من الربابنة والمهندسين المسيحيين, نذكر منهم الكابتن عصام عمسو, وسمير ناصر بولص, وسمير سليم ميخائيل, ونزار جرجيس بُنّي, ووليد لويس هيلو, وأميل أواديس, وأمجد فرنسيس, والمرشد البحري فرج بُنّي, وبسيم دورنة, ونبيل كامل رزوقي, وروحي فرج دانو, ووديع بطرس, ويوحنا نعمان, والمهندس بهنام عزيز فتوحي, وعصام خوشابا, وصباح جميل بولص, ووارتكيس اواكيم, والربان عصام خليل سليمان, وانترانيك نهاديت, وأوانيس ماردروسيان, والمتخصص بالرفاسات البحرية المرحوم مانؤيل فتوحي, ومن المهندسين الذين أسهموا في تنفيذ المشاريع المينائية نذكر رئيس المهندسين غازي سعيد نعوم, وإلياس حنا مدبّك, والمرحوم أدمون حناوي, ووارتكيس مهرانيان, والمساح البحري الأقدم المرحوم الكسندر فرجيبيان. .
كان هؤلاء الرواد من المبدعين والموهوبين هم الذين شاركوا مشاركة فاعلة في رسم الصور الزاهية لموانئنا بعد منتصف القرن الماضي, وهم الذين عززوا مسيرتها بوطنيتهم الصادقة, وصفاء قلوبهم المفعمة بالحب والوفاء, وهم المعين المتدفق بعطاء الطاقات الاستثنائية النادرة, فكانوا من أهم مقومات النجاح والتألق في الزمن الجميل, وكم تمنيت أن يكون مستقبلنا بجمال ماضينا, لكننا سنبقى هنا بانتظار فجر جديد, وشروق جديد, وأمل جديد, يجمعنا وإياهم في ربوع مهد الحضارات. .
في البصرة الآن سبع طوائف مسيحية تمثلها (145) عائلة فقط, فجاءت فكرة تأسيس مجلس الدفاع عن حقوقهم بمبادرة كريمة من الدكتور سعد متي بطرس, الذي كان سباقا في المطالبة بترميم الكنائس القديمة, والعناية بالمهددة بها, والسعي لتقديم الدعم والإسناد للأسر المسيحية المتضررة. .
ختاما نقول: ينبغي أن لا نبخس حقوق أشقائنا المسيحيين ودورهم التاريخي المشرف في صناعة هذا المجد الشامخ فوق أرض الميزوبوتاميا المقدسة, وينبغي أن لا يذهب هذا الإرث النفيس في مهب الريح, وأن لا نسمح لذوي النفوس الضعيفة بطمس هذه المواقع الأثرية التي تمثل إحدى الصور المشرقة لمهد الحضارات. . . . .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...