ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
حمدت الله ، عندما كلفتني كلية العلوم الإسلامية من خلال عميدها الصديق الهمام الأستاذ الدكتور عبد الله الظاهر ،أن أكون المتكلم الأول في نشاطها العلمي هذا ..وقد اخترت الموصل وشخصيتها ، ودورها الحضاري، موضوعا للحديث.. وتلك فرصة لنا لان نقف عند مدينتنا العزيزة ، ومحافظة نينوى لنذكر بوجوب إقالتها من عثرتها ، والارتفاع بها من المستوى الذي وصلت إليه وإعادتها إلى القها الذين عرفناه عنها منذ بدء عصور التاريخ .
والموصل .. اخواني ..اخواتي .. ليست مدينة فحسب إنها حضارة ،وهي تاريخ وتراث وموقف ودور ولقد انتبه إلى ذلك البلدانيون والجغرافيون العرب وغيرهم وأكدوا على أن الموصل مصر إقليم الجزيرة ..بلد جليل ..حسن البناء.. طيب الهواء كثير الملوك والمشايخ لا يخلو من إسناد وفقيه مذكور ..هكذا قال عنها شمس الدين أبو عبد الله البناء المقدسي البشاري 390 هجرية -1000 ميلادية ).أما أبو القاسم محمد علي الموصلي البغدادي المعروف ب "ابن حوقل" (367 هجرية -977 ميلادية ) ، فقد وصف الموصل بأنها من أكابر البلدان.. عظيمة الشأن بها لكل جنس من الأسواق الاثنان والأربعة والثلاثة مما يكون في السوق المائة حانوت وزائد . وفيها من الفنادق والمحال والحمامات والرحاب والساحات والعمارات ما دعت إليها سكان البلاد النائية فقطنوها وجذبتهم إليها برخص أسعارها .وعني الموصليون بمدينتهم فشيدوا الأبنية الفخمة وزينوها بزخارف جميلة وغرسوا في دورهم وقصورهم الرياحين والأزهار والأشجار المثمرة .ينساب الماء في جداول إلى برك وأحواض يخرج منها نافورات وبين أشجارها الحيوانات الجميلة وعلى أشجارها الطيور المغردة ووصف السري الرفاه المتوفى سنة 360 هجرية -971 ميلادية مدينته بقصائد جميلة صورت لنا ماكانت عليه الموصل من جمال التنسيق..ودقة الفن .هذه هي الموصل كما أدركتها أنا على الأقل ومجايليي من أبناء مابعد الحرب العالمية الثانية . واستطيع أن أقول أنها كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أجمل وأرقى مما هي عليه الآن بالرغم من مرور أكثر من 50 سنة على تلك الفترة ....إذا لننهض بالموصل ولتتضافر جهودنا من اجل هذا الهدف النبيل .
والموصل مركز محافظة نينوى، مدينة قديمة.. لها تاريخ عريق.وقد ارتبط تاريخها بتاريخ مدينة نينوى، عاصمة الإمبراطورية الأشورية، مدينة يونس صاحب الحوت عليه السلام. ولايتسع هنا المجال للغور في تاريخ الموصل القديم أو الإسلامي وحتى الحديث، فذلك معروف ،ولكن الأمر الذي نود هنا أن نؤكده بان الموصل كمحافظة، وكمدينة، اكتسبت عبر العصور التاريخية "شخصية حضارية". وقد ارتفع شأنها منذ أن تمكن العرب المسلمون من فتحها سنة 16 هجرية/ 637 ميلادية وذلك في عهد خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد انتصارهم على الفرس الساسانيين في معركة القادسية المشهورة.
وعظم شأن الموصل منذ ذلك الوقت، وغدت قاعدة بارزة من قواعد العرب والمسلمين فجاهدت وأمدت الجيوش العربية بعدد كبير من قادة الفتح وجنوده .ومنها انطلقت الجيوش لحمل الرسالة الإسلامية لفتح أذربيجان والجزيرة .كما اتخذت مرات عديدة مقرا للإدارة وعاصمة لإقليم الجزيرة ومركزا عسكريا للدفاع عن حدود الدولة الإسلامية الشمالية الشرقية.
ومن الطبيعي، والموصل تتميز بهذا الموقع الجغرافي والاستراتيجي المهم على طريق التجارة وقوافلها . فضلاً عن اعتدال مناخها ،وخصوبة تربتها ،وكثرة قراها ومزارعها أن يكون لها الدور الكبير في كل عصور التاريخ اللاحقة.. وقد زارها الرحالة العرب والأجانب وأشادوا بها وبأهلها . فهذا ابن بطوطة الرحالة المغربي المعروف يصف الموصليين (( بان لهم مكارم الأخلاق ،ولين كلام، وفضيلة وحب للغريب،وإقبال عليه.(( أما ياقوت الحموي فقال عنهم : ((أنهم أصحاب مروءة واعتدال)).
عندما جاء العرب فاتحين للموصل وجدوا إخوانهم ومنهم النصارى ،في استقبالهم حتى أن أحياء الموصل ومحلاتها لاتزال تحمل أسماء القبائل التي وفدت إلى الموصل ايامئذ ومنها خزرج ،والأوس، والمشاهدة،وثقيف والخواتنة ،والعكيدات.
وقد حظيت الموصل باهتمام المؤرخين ،ولدينا كتب ومصنفات كثيرة تتناول تاريخ الموصل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي سواء في عهد حكومة الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو الحمدانيين أو العقليين أو الاتابكيين أو العثمانيين.
وحين ضعفت الحكومة المركزية ببغداد، أقدم أهل الموصل على تنظيم أنفسهم، وإقامة كيانهم السياسي الخاص بهم . وقد تكرر ذلك مرات عديدة لعل آخرها انفرادهم بحكم أنفسهم بأنفسهم خلال عهد الجليليين وقد استمر ذلك بين سنتي 1726و 1834. وقد تصدت الموصل للغزاة وأسهمت في مقاومة الصليبيين الذين هددوا العالمين العربي والإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس الهجري) حتى القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري).
من منا لايتذكر عماد الدين زنكي،ونور الدين زنكي، والجامع النوري الكبير ومنارته الحدباء شاهد على ذلك العصر الذي تحملت الموصل عبره مسؤولية الجهاد ضد التجزئة .. وضد الغزاة الصليبيين القادمين من الغرب والذين هددوا المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين ومدينة القدس.. مدينة الإسراء والمعراج .. مدينة السلام.. والموصل هي موطن الحضارات، وحضارة الأشوريين معروفة وإضافتهم للحضارة الإنسانية تقف اليوم لتعلن بان الموصل - نينوى قدمت للإنسانية الكثير ابتداء من الزراعة وانتهاء بالعلوم والرياضيات مروراًَ بالعجلة والمعمار.
لقد قاومت الموصل الغزاة المغول 1260م .كما قاومت أيام حصار نادر شاه 1743 م والذي يعد من أبرز الأحداث التي وقعت في العالم الإسلامي خلال القرن الثامن عشر الميلادي.. وقصة دفاع الموصل ، ومقاومة الغزاة الفرس بقيادة الحاج حسين باشا الجليلي (1703-1757) قصة متداولة .وقد فشل نادر شاه في اقتحام المدينة .. ويقول المؤرخون أن حصار الموصل استغرق أربعين يوما بدا يوم 14 أيلول 1743 وانتهى يوم 23 تشرين الأول 1743 . ولم يشهد العالم حصار أية مدينة بمثل تلك القوة (ربع مليون مقاتل) إلا إذا استثنينا حصار نابليون لمدينة موسكو بـ (400) ألف مقاتل.
الموصل اذن تمتلك تاريخا ثرا .. ومقاومتها للغزاة الانكليز في الحرب العالمية الأولى ومابعدها لاتزال شاخصة، وحركتها الوطنية ورجالها الأفذاذ، ودفاعها عن الأرض والعرض يضرب به المثل.لقد كان للموصليين دور مشهود في إقامة الدولة العراقية الحديثة وديمومتها .كما لهم دورهم في تأسيس الجيش العراقي 1920 وقد أسهموا في كل الأحداث التي شهدها العراق وشهدتها البلاد العربية ومنها فلسطين والجزائر وسوريا والخليج العربي بعد الحرب العالمية الأولى .
لم يقبل الموصليون المذلة، ولم يخفضوا رؤوسهم إلا لله عز وجل.. وهم معروفون بأنهم فرديون لكنهم متحضرون .. وعلى وعي كبير بما يحيط بهم من أحداث .. لايصبرون على ضيم.. ولكنهم نظاميون يؤمنون بقيمة النظام ،ولايعطون ولائهم بسرعة ،ولا يميلون للفوضى، ويعتزون بمدينتهم وبالعراق وبتاريخهم ،وتراثهم، وبرجالاتهم الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم من اجل رفعة الوطن والدين والأمة.. وقد امتزجت عقيدتهم الإسلامية بوعيهم القوى بعروبتهم.. ومن هنا فان شخصية الموصل شخصية ذات ثلاث أبعاد،، (بعد وطني) و (بعد عربي) و(بعد إسلامي).. وليس من السهولة لأحد أن يغير في تراتبية هذه الأبعاد.. وهم عراقيون .. اعتزوا بعراقيتهم وظهر ذلك في أكثر من مناسبة.. وقد شهدت ساحتهم السياسية والاجتماعية هذه الحقيقة واضحة في كل المناسبات والأحداث.
دعوة مخلصة ونداء صادق للجميع من ابناء الموصل وابناء العراق .. ان يتذكروا بان الموصل رأس العراق، والحفاظ على الموصل والعناية بها وبتطويرها ، وإدراك قيمتها الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية مسالة ينبغي أن تكون في مقدمة الاولويات التي تؤخذ بالاعتبار، ونسيج الموصل- نينوى، الاجتماعي المتسم بالتنوع دليل قوة ،ودليل خير، ودليل عافية .ونحن على يقين أن الجميع يعلمون هذه الحقيقة بل ويتصرفون بموجبها .. حفظ الله العراق وأعان أهله، وحفظ الموصل الحدباء أم الربيعين ..أم العلا المحروسة بأذن الله .
*نص المحاضرة الافتتاحية التي القيتها في الندوة العلمية السابعة لكلية العلوم الاسلامية -جامعة الموصل يوم 9 مايس 2011 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق