الأربعاء، 11 مارس 2015

في الطريق إلى باب الجديد...في الموصل بقلم :الاستاذ خير الدين الدباغ

في الطريق إلى باب الجديد...في الموصل
بقلم :الاستاذ خير الدين الدباغ
الموصل 10-3-2015
بعد أيامٍ لم أخرج فيها من البيت ، قررت الذهاب (مشياً) إلى باب الجديد لشراء لحم ! .
لَبِسْتُ معطفاً صوفياً ثقيلاً ، معطفٌ مضى عليه ربع قَرْن مَنسياً في خزانة الملابس وألْجأني إليه إلحاح الأهل !، خوفاً عليّ من لفحةِ بردٍ أرْدَتني أختُها طريحَ الفراش لعدّة أيامٍ .. قبل أيام !.
ما أن خرجت من البيت حتى غمرتني ( ذُكاءُ) بكل بهائها وسَناها ودفئها ، وفوجئت بيوم جميل ، تملؤه وتُظلّله نسائم ربيع يندفع بكل عنفوانه وحيويّته ، شمسٌ ضاحكةٌ تبعث الدفء بمن يستحقّ ومن لا يستحقّ ممن خلق الله !، وتهزأ بمن لا يعرف قدر الإنسان وقوّته ، فيتوهّم ..ثم يتشبّث بمخلوقاتٍ هزيلةٍ مؤقّتةٍ لا تدوم لحظات من عمر الشمس ، وينسى الصَمَد خالق كل شيء !.
رجعتُ القهقري وأنا أرفع ما على رأسي من حِمْل ، ثم أخلع المعطف الثقيل الذي يُذكّرني بعباءة الأعرابي التي كان يلبسها في الجمعة والعيدين ... !، أسرعتُ بلبس (جاكيت) وخرجتُ قبل أن تتحوّل دهشة الأهل إلى سين وجيم !.
الطريق إلى باب الجديد يمرّ بشارع الغزلاني الذي يمتدّ جنوباً إلى المطار ومعمل السكّر وألبو سيف...وهو شارع له تأريخ حافل ، فقد كان شريان الموصل الرئيس أيام كان المعسكر في شبابه وكان معمل السكر ومجمّعه السكني الجميل في نشاط لا يفتر...أيام كانت زراعة البنجر تحصد ذهباً ، ذهب مع من ذهب !.
أخذت الإتّجاه الآخر ، مررت بجامع الإحبيطي الذي يقابل ساحة السجن القديم التي تبدو كخلية نحل ، بحركة البناء وضجيج ماكنات اللحيم وغيرها ، إتّجهتُ بعدها شمالاً إلى باب الجديد !.
إلتقيت بصديق ، في محلّه أمام نادي الفتوّة الرياضي العتيد ، جلست عنده نفَتّشُ في دفاترنا القديمة ونسعد بتذكّر مواقف كاد يعفو عليها الزمن ، محلّه مُزدحم بمواد مستعملة ، دواليب كراسي مناضد أدوات مطابخ وحمّامات ، فوجئت بإنعكاس صورتي وصاحبي على مرآةٍ قديمة مركونة ، أدهشتني صراحتُها ووضوحُها ! وذكّرتني بالصديقُ المخلصُ : مرآةُ صديقه ! .
تدافعت أفكار كثيرة...
أهذه الأمتعة بقايا ورُكام أحلام وآمال وحيوات !...
أهي نهايات أم بدايات !!...
أهي بداية حياة سعيدة أبت إلاّ أن تبدأ بجديدٍ يلائم جِدّة قلوبها وشبابها !!، فباعت القديم بلا أسفٍ ولا ندم ! .
أم أنها إيذاناً بنهاية حياةِ صفاءٍ ووئام واجتماع.. عُكِّرتْ ! فإنتهت هنا يقلّبها الشريف والوضيع ! وأصحابها مبعثرون في الأرض يقلّبهم الزمان كيفما شاء ، والحسرة تملأؤهم على أيام هذا المتاع !!.
أكملتُ مشواري وقد تيقّنت أن كل نهايةُ هي : بداية...بداية !!.
وكم هو مرعبٌ ومُخيف أن يظنّ الإنسان ويعتقد أن النهاية هوّةٌ سحيقة لا قرار لها !! ، وهنا الضياع والرعب الأكبر الذي يجعل الكثيرين يعبّون من الحياة بكل قواهم قبل النهاية النهائية المظلمة...كما يظنّون !.
وصلتُ دورة باب الجديد ، ومن (نهاية) شارع الفاروق ، أطلّ موكبُ عرسٍ بهيج يؤذن بـ (بداية) حياة جديدة ، ومن جهة (باب لكش) و (الثلمي) كان موكب تشييع حزين صامت ، تقابل الموكبان ، سكتت كل الزغاريد والأصوات ، وقف موكب (البداية) باحترام ليفسح المجال لموكب (النهاية) ، منظرٌ مَهيبٌ يختصر حِكَماً ومناقشات كثيرة !.
تذكّرت ما ذهبت لأجله ، فاتّجهت إلى سوق اللحم المجاور ، وقفت أمام دكان تزدحم على واجهته لحوم طازجة ، لعجول وخراف تَفَنّنَ في حُسن عَرْضِها صاحبُها المتمرّس ، سلّمتُ عليه ، فردّ بحرارةٍ ، وَوُدّ راكَمَتْهُ بيننا سنون طوال ، كَبُرت إبتسامتُه وهو يقول : قبل دقائق كُنت على بالي !، عندي لك لحم ضأنٍ ممتاز.. مع باجته ! ...
نهاية تؤذن ببداية لذيذة !!!.
ربّ اجعل ( نهاية ) حياتنا ( بداية ) سعادة أبدية لا نهاية لها...
في جنّتك وفي ظلّ رحمتك ورضوانك ....
*الصورة بعدسة الاستاذ خير الدين الدباغ 10-3-2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين

  كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل  لا ابالغ اذا قلت انه من ال...