الاثنين، 22 ديسمبر 2014

مبنى معهد الفنون الجميلة ببغداد ..حنين معماري لموضوعة التراث* بقلم : الدكتور خالد السلطاني

مبنى معهد الفنون الجميلة ببغداد ..حنين معماري لموضوعة التراث*
بقلم : الدكتور خالد السلطاني
قد يكون اسم المعمار الرائد "سعيد علي مظلوم" (ولد عام 1921)، غير ذائع الصيت بما فيه الكفاية، كبقية المعماريين العراقيين الرواد، نظرا للتواضع الجم الذي وسم طبيعة هذا المعمار المتعدد الاهتمامات، وابتعاده، بقرار منه، عن تفادي المشاركة في مناقشات المعماريين الصاخبة، والنأي بنفسه عن ادعاءاتهم وتنافسهم المهني الحاد! لكن ما اجترحه سعيد علي مظلوم من مشاريع معمارية متعددة، تجعل منه ليكون احد معماريي العراق المهمين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وإذ أشعر بنوع من الغبطة الشخصية الممزوجة بالامتنان، وأنا أتحدث عن مسار هذا المعمار المجدّ (ومن دون معرفة شخصية به؛ عدا، ذات يوم، كنت أستاذاً لابنته المعمارية في نهاية السبعينات)، فإني أعترف، بأن جزءاً من ذائقتي المعمارية، يعود الفضل في تشكيلها إلى سعيد علي مظلوم ذاته، هو الذي كنت أقرأ له بشغف كبير ما يكتبه من مقالات في مجلة "أهل النفط" بالخمسينات عن العمارة العراقية وعن أعمال المعماريين العراقيين المعاصرين، حتى ولو كنت لا أدرك تماما مقاصدها ومزاياها، أنا الشاب المراهق وقتذاك، البعيد عن العمارة وهمومها المهنية. وقد تكون تلك المقالات والدراسات التي نشرها في تلك المجلة الرائجة والأثيرة لدي، وفي غيرها من المجلات، سجلاً توثيقياً ونقداً معمارياً رائدين لما كان ينتج معمارياً. وما انفككت أرجع لها (مازلت أحتفظ بتلك المقالات لحين الوقت الحاضر) كمصدر مهم ونادر لما جرى في المشهد المعماري المحلي بالخمسينات وما قبلها. ويرتفع شأن سعيد علي مظلوم مهنيا، كونه درّس (ولو لفترة قصيرة) في المدرسة المعمارية البغدادية بكلية الهندسة، ناقلا لطلابه رؤاه وتقييماته الموضوعية عن المنتج المعماري.
بالإمكان عدّ نتاج سعيد علي مظلوم، حاله حال غالبية المعماريين العراقيين العاملين وقتذاك، بكونه نتاجاً منتمياً للحداثة المعمارية ومبشراً لقيمها. ولعل الفترة الطويلة نسبياً التي عمل فيها مع أخيه المعمار الرائد "مدحت علي مظلوم" (1913-1973)، قبل ان يؤسس لنفسه مكتبا خاصاً في الستينات، كانت زاخرة في النشاط التصميمي، مثلما كان ذلك النشاط يمثل عنوانا للحداثة المعمارية الرائجة ممارستها في الخطاب المعماري العالمي آنذاك. وقد يكون مبنى "مستشفى الحيدري" (1961)، بالعلوية ببغداد، أحد النماذج المميزة التي عكست قناعاته التصميمية بشكل واضح ومقتدر. فالمبنى الذي يعطي مقياسه المعماري انطباعاً كـ <بيت سكني>، أُريد به وبهيئته الحافلة بالمعاصرة ان يغير تماما من مفهوم "المستشفى" ذي "السحنة" المعمارية القاسية والرتيبة. وقد أتت عمارته ذات الامتدادات الأفقية الأليفة والحميمية، الزاخرة سطوحها بالألوان، وسياجها المنخفض المكتظ جنباته بالشجيرات والزهور الملونة، تعبيرا عما يود المعمار إيصاله لنا عن مفهوم المبنى الصحي الجديد.
في نهاية الستينات وبدء السبعينات، طرأ انعطاف واضح في مقاربات غالبية المعماريين العراقيين، متبنين مفهوم تأويل التراث المعماري المحلي، وتوظيفه لجهة اجتراح تصاميم معمارية، يغلب عليها الابتعاد قدر الإمكان عن "دوغماتية" قيم عمارة الحداثة بنسختها "التيار الدولي". كان ذلك الانعطاف متصادياً مع التغييرات المفاجئة والسريعة والحادة ..أيضاً، التي شهدها الخطاب المعماري العالمي. إذ بدت مناشدات المعمار "روبرت فنتوري" (1925)، -الذي فتح الباب واسعا للتغييرات الجذرية التي ستحصل في العمارة-، في كتابه الشهير <التعقيد والتناقض في العمارة> (1966)، بمثابة دعوة واضحة للابتعاد عن مبادئ عمارة الحداثة ونواميسها، عندما كتب "أنا مع الفوضى المليئة بالحيوية وليس مع التركيبات الواضحة الروتينية. أنا مع الثراء أكثر من وضوح المعاني .... القليل لا يعني الكثير!". والجملة الأخيرة هي نوع من التهكم اللفظي على عبارة "ميس فان دير رو" المعروفة من ان "القليل يعني.. الكثير"! Less is More. وقد تمخضت تلك المناشدات، مع التغييرات الواسعة التي طرأت على مقاربة معماريين مشهورين عديدين عن أساليب معمارية جديدة، نأت بنفسها عن قيم عمارة الحداثة. ولم يكن هذا التغيير بعيدا عن مسلك المعماريين العراقيين ومقارباتهم التصميمية. في هذا السياق تعد عمارة "معهد الفنون الجميلة" في المنصور ببغداد (1972) للمعمار سعيد علي مظلوم، أحد تجليات ذلك التغيير العميق الذي جرى في الممارسة المعمارية المحلية.
تعيد عمارة مبنى معهد الفنون الجميلة (أو بالأحرى الواجهة الرئيسية الجنوبية فيه)، إلى الذاكرة البصرية الاستخدامات الشائعة "للشناشيل"، التي كانت يوما احدى المفردات الشائعة والأساسية في منتج العمارة التقليدية. لكن تلك الاستعادة هنا، بدت مجبولة على تأويلات خاصة وحداثية لأشكال تلك المفردة التصميمية، أجراها المعمار بحذاقة واجتهاد واضحين، لجهة تأمين حضور الإحساس بالمكان، من دون الوقوع في "أحابيل" ممارسة <باستيشية> Pastiche رخيصة. ومن خلال تلك المعالجة التصميمية، فان المعمار ضمّن لمبناه حداثته التصميمية من جهة، ومن جهة أخرى، توافق تلك المعالجة مع مجرى العمارة العالمية.
يطرح علينا مصمم الواجهة الرئيسية للمعهد إدراكه لقيمة التأويل (الذي يقع ضمن مفهوم "التناص" Intertextuality، وفقاً لمفردات النقد الحداثي)، الذي أجراه على هيئة المفردة التصميمية الشائعة في العمارة المحلية، ويستخدم مخرجاتها بصيغة مبدعة ومقنعة..أيضاً. فالمعمار يعي جيداً من ان وظيفة "الشنشول" (أو المشربية كما تدعى أحياناً)، مقتصرة في الأساس على استخداماتها المناخية، كونها تعمل بمثابة "كاسرات"Louvers لأشعة الشمس الحارة، و"مرشحاً" ومصفاة Filter للإنارة الساطعة المتسمة المناخ المحلي بها. وبهذا الإدراك التحليلي لمفهوم "الشنشول" جاءت تغطية فتحات نوافذ الواجهة في الطابقين العلويين للمبنى الذي يتكون من ثلاثة طوابق، على درجة عالية من المثابرة التصميمية، الكافلة، كما نرى، لاستدعاءات ثقافة المكان البنائية. ولقد أضفى المعمار على مبناه قيمة جمالية مضافة، جراء ديناميكية حركة الإيقاع لتلك "الشناشيل" الآجرية البارزة عن سطح الجدار الآجري هو الآخر، المحصور بين جسور خرسانية ملساء. ويزيد حضور "الفناء" الوسطي المفتوح في الحل التكويني لعمارة المعهد، في تكثيف الإحساس بالمكان، ذلك لان ممارسة توظيفات الأفنية المفتوحة، عدت دائما، احد الحلول التصميمية الشائعة والمحببة في منتج العمارة التقليدية.
ومع أن المعمار، اهدى بصنيعه المبتكر عمارة مميزة إلى البيئة المبنية، وقدم مثالاً ناجعاً في كيفية تأويل العناصر التراثية ورد الاعتبار لها والحنين إليها، فان ما يؤخذ على عمارة المعهد، التنوع المبالغ فيه باختيار "لغات" تصميمية مختلفة للواجهات الأخرى، فضلا عن تفريطه بالنجاحات التي احرزها في تنطيق الواجهة الرئيسية، وعدم مراعاة ذلك في الحل التصميمي لبقية الواجهات. كما ان اختياره لنوافذ طوليه وضيقة الفتحات لا تلائم، كما هو معروف، نوعية الإنارة في فضاءات الأبنية التعليمية التي تؤثر وتفضل الإنارة المنسجمة والمتماثلة. لكن ذلك، بالطبع، لا يمكنه ان يقلل من شأن أهمية
المنجز المجترح، أو ينقص من فعالية "التناص" التي قدمها المعمار لنا بكفاءة، كأسلوب
طازج ومعتبر في كيفية التعاطي مع مفردات الخزين التراثي المعماري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وفاة الدكتور محمد الحاج حمود 1936-2024 شيخ الدبلوماسيين العراقيين

وفاة الدكتور محمد الحاج حمود 1936-2024 شيخ الدبلوماسيين العراقيين ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل تناق...