الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

جان دمو : الشعر والصعلكة بقلم : الاستاذ سامي مهدي



جان دمو : الشعر والصعلكة
بقلم :  الاستاذ سامي مهدي

جاء في كتاب ( جان دمّو : التركة والحياة ) أنه ولد عام 1942 في كركوك ولم يكمل الدراسة الإعدادية ، وهاجر من كركوك إلى بغداد ليكمل خدمته العسكرية ويستقر فيها . أما إسمه الحقيقي كما ورد في الكتاب نفسه فهو ( يوخنا ممّو ) .
يرى أصدقاء جان دمو ، ممن دخلوا عالم الشعر في الثمانينيات والتسعينيات ، أنه شاعر حديث مهم ، وكذلك بعض من لم يعرفوه عن كثب من شعراء الجيل الجديد . ولكن حين يقترب بعض أصدقائه من الحقيقة يقول ( لقد كان جان شاعراً في حياته أكبر منه في نصه) . هذا قول صديقه ، وجامع إنتاجه الأدبي ، الشاعر حسين علي يونس . ولكن أدباء كثيرين يرون أن جان دمو لا يمكن أن يحمل على محمل الجد ، لا في شعره ولا في سلوكه اليومي ، وهو كذلك في رأيي . وقد سمعت ذات مرة ناقداً جاداً يقول عنه إنه مجرد ( فكاهة أدبية ) وهكذا كان ينظر إليه بعض أصدقائه الكركوكيين .
أظن أن رصيد أي شاعر هي نصوصه ، وأي حكم على شاعريته ينبغي أن ينبثق منها ، وليس من غيرها . فالتشبّه بالصعاليك والبوهيميين لا علاقة له بالشعر ، لأن الصعلكة والبوهيمية ظاهرة اجتماعية لها أسبابها العامة والخاصة ، وهي ليست ظاهرة شعرية ، ووجود شاعر صعلوك مثل رامبو لا يعني أن كل متصعلك يمكن أن يكون شاعراً مهماً ، أو حتى مجرد شاعر، وهذا ينطبق على جان دمو كما ينطبق على غيره .
ليس بين أيدينا اليوم من شعر جان دمو سوى قصائد تقل عن الثلاثين ، وليس في هذه القصائد ما يبهر ، والحسن فيها قليل في واقع الأمر ، والكثير منها لم ينشر إلا بعد أن مرّ عليها قلم آخر غير قلمه . وحين ظهر كراسه الشعري ( أسمال ) قيل : إن قلم الشاعر حسين علي يونس قد مرً عليها وهذبها ، وقد سألت حسين شخصياً عن ذلك فأكد لي ما قيل ، وإن رمى القائلين بالمبالغة . وبناء على ذلك لا يصح وصفه بأنه ( شاعر ضرورة ) أو ينسب إليه دور وهو بلا دور ولا تأثير في مسار التطور الشعري . أما مقارنته بسعدي يوسف فهي غلطة فادحة ، ومن شاء أن يتخذ من جان أباً شعرياً فذلك شأنه .
عرفت جان في أواخر الستينات ، وكان يومها خجولاً دمثاً يمر مرور النسمة ، وكان هناك من يمازحه ، وغالباً ما كان شعره هو موضوع المزاح . وقد كتب يوماً ما سمّاه ( قصيدة ) وكانت قصيدته هذه تتكون من سطرين ، السطر الأول يتكون من بضع كلمات والثاني من كلمة واحدة ، و هذه هي القصيدة :
( الجلد الذي سافر بالقطار ولم يقل للبروفسور :
نعم . )
وحين قرأها علينا ( في مقهى البرلمان ) ضحكنا ، ثم سأله أحدنا عن عنوان القصيدة ، فقال وهو يضحك ببراءة : إنه السطر الأول ، أما السطر الثاني فهو القصيدة .
وذات يوم ، وأنا أقرا كتاب أوستن وورين ورينيه ويلك ( نظرية الأدب ) وجدت هذه (القصيدة ) في نص شعري لا أتذكر صاحبه ، مع تحريف بسيط ، فضحكت طويلاً . كنت في باريس يومئذ وحين عدت إلى بغداد وجمعتني بجان جلسة في مقهى البرلمان صارحته ، بما يشبه المزاح بما وجدت ، فضحك هو الآخر ثم غادر المقهى .
في أواسط السبعينيات كنت أقضي بعض الأماسي في اتحاد الأدباء وكان جان ممن يحضرون هذه الأماسي . ولكن بعض المسيسين كان يستغل عدوانية جان حين يسكر ويحرضه على هذا الأديب أو ذاك لغرض خبيث لئيم في نفس المحرض . وحدث ذات مرة أن حرضه علي شاعر معروف قد أذكر اسمه في موقف آخر ، فجاءني وأنا بين عدد من الأصدقاء ليسمعني كلاماً فظاً عن شعري ، فهب أحد الجلوس وسحبه بعيداً عني .
وحدث في الثمانينيات أن زارني في مكتبي صديقي الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي ، وشكا إلي وضع جان المادي ، ورجاني تعيينه في جريدة الجمهورية التي كنت أرأس تحريرها يومئذ فوافقت فوراً ، على أن يلتزم جان بواجبات عمله . فجاءني جان في اليوم التالي فعينته مترجماً بأجر شهري مقطوع مقداره خمسة وسيعون ديناراً ، وقلت له إنك غير ملزم بدوام كبقية المحررين ، لعلمي بأنك لا تطيقه ، ولكن عليك أن تقدم أسبوعياً مادتين مترجمتين خفيفتين قصيرتين تنشران في الصفحة الأخيرة من الجريدة ، وأوصيته بالإلتزام ، غير أن جان لم يلتزم سوى أسبوع واحد . أخبرني بذلك المسؤول عن الصفحة الأخيرة بعد ما يقرب من شهرين من تاريخ تعيينه ، وقال لي إن جان يأتي أسبوعياً لتسلم المجلات التي ينبغي أن يترجم منها ولكنه لا يزود الجريدة بشيء ، وأضاف أنه علم بأن جان يبيع ما يتسلم من المجلات ، ورجاني أن أنسبه إلى قسم آخر . ولهذا ، ولأن جان لا يصلح للعمل في قسم آخر من أقسام الجريدة اضطررت إلى الإستغناء عن خدماته اعتباراً من بداية الشهر التالي .
يقول لي الشاعر حسين علي يونس عن هذه الواقعة : إنك تعاملت معه بصفة ربّ عمل في هذا الإجراء ، وليس بصفة شاعر ، والحق ، لو تأمل حسين الموقف ، أنني كنت شاعراً حين عيّنته ! وإلا فمن يتوقع من جان أن يلتزم بالعمل ومعاييره ؟!
في أوائل التسعينيات نظم لي اتحاد الأدباء أمسية شعرية ، وكان جان دمو ممن حضروا هذه الأمسية ، وأخبرني الصديق رياض قاسم في اليوم التالي أن هناك من حرض جان للتشويش علي في الأمسية ، ولكنه ( أي رياض ) سحبه إلى خارج القاعة ودفع عنه حساب سكرته ثمناً لإسكاته .
كان جان يستمد شجاعته من سكره ، فهو لم يكن يجرؤ على الإساءة إلى أحد في حالات صحوه ، وكان يعرف جيداً أن من يسيء إليهم يتجنبون إيذاءه ، لأنه سكران هش بلا حول ولا قوة ، ولأنهم يعرفون أيضاً أن هناك من حرضه لغرض في نفسه فيحبطون ما ينتظره المحرض .
قد نعد هذه التصرفات صعلوكية ، أو بوهيمية ، وقد نغفرها لصاحبها أو نتفهمها على
المستوى الإنساني ، ولكنها ليست هي ما يصنع الشعر والشعراء ، أو يعلي مكانتهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سناط والسناطيون ا.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

                                                            سناط في السبعينات من القرن الماضي                                               ...