جان دمو : الشعر والصعلكة
بقلم : الاستاذ سامي مهدي جاء في كتاب ( جان دمّو : التركة والحياة ) أنه ولد عام 1942 في كركوك ولم يكمل الدراسة الإعدادية ، وهاجر من كركوك إلى بغداد ليكمل خدمته العسكرية ويستقر فيها . أما إسمه الحقيقي كما ورد في الكتاب نفسه فهو ( يوخنا ممّو ) . يرى أصدقاء جان دمو ، ممن دخلوا عالم الشعر في الثمانينيات والتسعينيات ، أنه شاعر حديث مهم ، وكذلك بعض من لم يعرفوه عن كثب من شعراء الجيل الجديد . ولكن حين يقترب بعض أصدقائه من الحقيقة يقول ( لقد كان جان شاعراً في حياته أكبر منه في نصه) . هذا قول صديقه ، وجامع إنتاجه الأدبي ، الشاعر حسين علي يونس . ولكن أدباء كثيرين يرون أن جان دمو لا يمكن أن يحمل على محمل الجد ، لا في شعره ولا في سلوكه اليومي ، وهو كذلك في رأيي . وقد سمعت ذات مرة ناقداً جاداً يقول عنه إنه مجرد ( فكاهة أدبية ) وهكذا كان ينظر إليه بعض أصدقائه الكركوكيين . أظن أن رصيد أي شاعر هي نصوصه ، وأي حكم على شاعريته ينبغي أن ينبثق منها ، وليس من غيرها . فالتشبّه بالصعاليك والبوهيميين لا علاقة له بالشعر ، لأن الصعلكة والبوهيمية ظاهرة اجتماعية لها أسبابها العامة والخاصة ، وهي ليست ظاهرة شعرية ، ووجود شاعر صعلوك مثل رامبو لا يعني أن كل متصعلك يمكن أن يكون شاعراً مهماً ، أو حتى مجرد شاعر، وهذا ينطبق على جان دمو كما ينطبق على غيره . ليس بين أيدينا اليوم من شعر جان دمو سوى قصائد تقل عن الثلاثين ، وليس في هذه القصائد ما يبهر ، والحسن فيها قليل في واقع الأمر ، والكثير منها لم ينشر إلا بعد أن مرّ عليها قلم آخر غير قلمه . وحين ظهر كراسه الشعري ( أسمال ) قيل : إن قلم الشاعر حسين علي يونس قد مرً عليها وهذبها ، وقد سألت حسين شخصياً عن ذلك فأكد لي ما قيل ، وإن رمى القائلين بالمبالغة . وبناء على ذلك لا يصح وصفه بأنه ( شاعر ضرورة ) أو ينسب إليه دور وهو بلا دور ولا تأثير في مسار التطور الشعري . أما مقارنته بسعدي يوسف فهي غلطة فادحة ، ومن شاء أن يتخذ من جان أباً شعرياً فذلك شأنه . عرفت جان في أواخر الستينات ، وكان يومها خجولاً دمثاً يمر مرور النسمة ، وكان هناك من يمازحه ، وغالباً ما كان شعره هو موضوع المزاح . وقد كتب يوماً ما سمّاه ( قصيدة ) وكانت قصيدته هذه تتكون من سطرين ، السطر الأول يتكون من بضع كلمات والثاني من كلمة واحدة ، و هذه هي القصيدة : ( الجلد الذي سافر بالقطار ولم يقل للبروفسور : نعم . ) وحين قرأها علينا ( في مقهى البرلمان ) ضحكنا ، ثم سأله أحدنا عن عنوان القصيدة ، فقال وهو يضحك ببراءة : إنه السطر الأول ، أما السطر الثاني فهو القصيدة . وذات يوم ، وأنا أقرا كتاب أوستن وورين ورينيه ويلك ( نظرية الأدب ) وجدت هذه (القصيدة ) في نص شعري لا أتذكر صاحبه ، مع تحريف بسيط ، فضحكت طويلاً . كنت في باريس يومئذ وحين عدت إلى بغداد وجمعتني بجان جلسة في مقهى البرلمان صارحته ، بما يشبه المزاح بما وجدت ، فضحك هو الآخر ثم غادر المقهى . في أواسط السبعينيات كنت أقضي بعض الأماسي في اتحاد الأدباء وكان جان ممن يحضرون هذه الأماسي . ولكن بعض المسيسين كان يستغل عدوانية جان حين يسكر ويحرضه على هذا الأديب أو ذاك لغرض خبيث لئيم في نفس المحرض . وحدث ذات مرة أن حرضه علي شاعر معروف قد أذكر اسمه في موقف آخر ، فجاءني وأنا بين عدد من الأصدقاء ليسمعني كلاماً فظاً عن شعري ، فهب أحد الجلوس وسحبه بعيداً عني . وحدث في الثمانينيات أن زارني في مكتبي صديقي الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي ، وشكا إلي وضع جان المادي ، ورجاني تعيينه في جريدة الجمهورية التي كنت أرأس تحريرها يومئذ فوافقت فوراً ، على أن يلتزم جان بواجبات عمله . فجاءني جان في اليوم التالي فعينته مترجماً بأجر شهري مقطوع مقداره خمسة وسيعون ديناراً ، وقلت له إنك غير ملزم بدوام كبقية المحررين ، لعلمي بأنك لا تطيقه ، ولكن عليك أن تقدم أسبوعياً مادتين مترجمتين خفيفتين قصيرتين تنشران في الصفحة الأخيرة من الجريدة ، وأوصيته بالإلتزام ، غير أن جان لم يلتزم سوى أسبوع واحد . أخبرني بذلك المسؤول عن الصفحة الأخيرة بعد ما يقرب من شهرين من تاريخ تعيينه ، وقال لي إن جان يأتي أسبوعياً لتسلم المجلات التي ينبغي أن يترجم منها ولكنه لا يزود الجريدة بشيء ، وأضاف أنه علم بأن جان يبيع ما يتسلم من المجلات ، ورجاني أن أنسبه إلى قسم آخر . ولهذا ، ولأن جان لا يصلح للعمل في قسم آخر من أقسام الجريدة اضطررت إلى الإستغناء عن خدماته اعتباراً من بداية الشهر التالي . يقول لي الشاعر حسين علي يونس عن هذه الواقعة : إنك تعاملت معه بصفة ربّ عمل في هذا الإجراء ، وليس بصفة شاعر ، والحق ، لو تأمل حسين الموقف ، أنني كنت شاعراً حين عيّنته ! وإلا فمن يتوقع من جان أن يلتزم بالعمل ومعاييره ؟! في أوائل التسعينيات نظم لي اتحاد الأدباء أمسية شعرية ، وكان جان دمو ممن حضروا هذه الأمسية ، وأخبرني الصديق رياض قاسم في اليوم التالي أن هناك من حرض جان للتشويش علي في الأمسية ، ولكنه ( أي رياض ) سحبه إلى خارج القاعة ودفع عنه حساب سكرته ثمناً لإسكاته . كان جان يستمد شجاعته من سكره ، فهو لم يكن يجرؤ على الإساءة إلى أحد في حالات صحوه ، وكان يعرف جيداً أن من يسيء إليهم يتجنبون إيذاءه ، لأنه سكران هش بلا حول ولا قوة ، ولأنهم يعرفون أيضاً أن هناك من حرضه لغرض في نفسه فيحبطون ما ينتظره المحرض . قد نعد هذه التصرفات صعلوكية ، أو بوهيمية ، وقد نغفرها لصاحبها أو نتفهمها على المستوى الإنساني ، ولكنها ليست هي ما يصنع الشعر والشعراء ، أو يعلي مكانتهم . |
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين يسعدني أنا (الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف )أن ارحب بكم في مدونتي الثانية مدونة الدكتور ابراهيم خليل العلاف ..واود القول بانني سأخصص هذه المدونة لكتاباتي التاريخية والثقافية العراقية والعربية عملا بالقول المأثور : " من نشر علما كلله الله بأكاليل الغار ومن كتم علما ألجمه الله بلجام من نار " .
الأربعاء، 24 ديسمبر 2014
جان دمو : الشعر والصعلكة بقلم : الاستاذ سامي مهدي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف
الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....
-
(السسي) من جرزات الموصل المشهورة - ابراهيم العلاف * وعندما تحدثت عن جرزات او كرزات الموصل وقفت عند السسي ويبدو ان هناك من يحب السسي وسأل...
-
أهلا بنابتة البلاد ومرحبا جددتم العهد الذي قد أخلقا لاتيأسوا أن تستردوا مجدكم فلرب مغلوب هوى ثم إرتقى مدتْ له الامال من أفلاكها ...
-
وردحاق صاق ناصي ..............ورد الحق وصاغ النصيب ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل حين قدمتُ حلقة ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق