جندي من ذلك الجيش
بقلم : رباح آل جعفر
هنالك سؤال حائر لا بُدّ أن نتوقف عنده طويلاً ..نسأله لأنفسنا بجميع ما ينطوي عليه من أحزان وأشجان ، فهو السؤال الأكثر مدعاة للحيرة والألم.
ما الجائزة التي ربحها المشاركون ، أو الموافقون على قرار بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال بحلّ منظومة الجيش العراقي السابق ، ثمّ ما لبث المتورّطون أن تنبّهوا للخطيئة ، فأحالوه في الآتي من الزمن إلى ذكريات جنرال متقاعد بنظرات من عطف ، وكلمات من رثاء ؟!.
أمس مرّت ذكرى تأسيس الجيش العراقي وكان لي في المناسبة أن أتذكر تاجاً من تيجانه وراية خفاقة من راياته ، وأن أفتح صفحة من دفاتر اللواء الركن الراحل محمود شيت خطاب ، الذي بلغت كتبه المطبوعة والمخطوطة نحو ( 400 ) كتاب في السيرة والتاريخ والقصص والتراجم والإسلاميات والعلوم العسكريّة ، وعدا عن ذلك كله فقد كان نموذجً العسكريّ النادر . حفظ القران الكريم منذ صباه الباكر ، وكان يقضي أكثر ساعات الليل في تهجّد وخشوع فإذا غلب الخشوع النعاس أجهش بكاءً من خشية الله .
ومن عجائب هيبة هذا الجنديّ أنه صلّى صلاة العيد في مسجد السيّدة زينب في القاهرة ، وعندما انتهى من الصلاة ، التفت إليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، فرآه بين الصفوف ، فجاءه وأخذه معه إلى ضريح السيدة زينب يداً بيد بطريقة ملفتة للنظر حتى انتهت مراسيم الزيارة ، وفي الطريق حدّثه وزير الأوقاف المصري ـ آنذاك ـ الدكتور عبد الغني كامل ، وقال له : لم أر عبد الناصر عامل أحداً قبلك ، بما عاملك اليوم من الاهتمام والاحترام !.
ومرّة كان يصلّي في مسجد أبي يوسف في الكاظمية ، فلمح عالماً من الهنود ، فسلّم عليه ، وسأله : هل ترغب أن أعاونك في شيء ، فقال العالم الهنديّ: أريد زيارة محمود شيت خطاب ، فصحبه خطاب معه إلى داره ، والهنديُّ لا يعرفه ، ولمّا حل في داره وعرفه ، اندهش الهنديّ وفرح كثيراً .. وهنا تمتم خطاب قائلاً : حمداً لله وكلّ شيء بقدر !.
روى لي الراحل ذات يوم ، أنه كان يعمل في القاهرة رئيساً للجنة معجم توحيد المصطلحات العسكرية ، وهناك بقي مدة خمس سنين يتعاون مع المجموعات الفدائية ، ويمدّها بالمعلومات العسكرية والتوجيهات الملائمة للصراع ، وقد قدّموا له مبلغاً كبيراً من المال مكافأة على عمله ، لكنه رفض استلامه ، وتبرّع به إلى هذه المجموعات ، التي كانت تعمل تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية .
احتفظ خطاب بعلاقات واسعة مع رجال كان لهم دور منهم شيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود ، وقد شاءت ظروف السياسة أن يفترق الاثنان بسبب فتوى شيخ الأزهر، التي أجازت زيارة السادات إلى القدس، ثمّ جمع الله بينهما في لقاءٍ ببغداد .. وانصرف خطاب بكثير من النقد لشيخ الأزهر وتفجّر غضباً عليه من دون مراعاة لمقامه ، حتى إذا هدأ روعه وانتهى من كلامه ، قال له الأزهري : ولكنني كنت في الحج يا سيادة اللواء ، وهناك من زوّر برقية التأييد باسمي !.
رحم الله هذا الجنديّ العراقيّ الباسل الذي عاش حياته زاهداً في الدنيا براتب تقاعدي بائس لا يتجاوز ستمائة دينار في أحسن الأحوال .. ولا بدّ من السؤال مرّة تلو مرّة : من المسؤول عن حلّ الجيش السابق فارتكب أكبر الخطايا ؟!.
*شكرا للاستاذ الدكتور زهير الشاروك على ارساله المقال لي عبر الايميل اليوم
بقلم : رباح آل جعفر
هنالك سؤال حائر لا بُدّ أن نتوقف عنده طويلاً ..نسأله لأنفسنا بجميع ما ينطوي عليه من أحزان وأشجان ، فهو السؤال الأكثر مدعاة للحيرة والألم.
ما الجائزة التي ربحها المشاركون ، أو الموافقون على قرار بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال بحلّ منظومة الجيش العراقي السابق ، ثمّ ما لبث المتورّطون أن تنبّهوا للخطيئة ، فأحالوه في الآتي من الزمن إلى ذكريات جنرال متقاعد بنظرات من عطف ، وكلمات من رثاء ؟!.
أمس مرّت ذكرى تأسيس الجيش العراقي وكان لي في المناسبة أن أتذكر تاجاً من تيجانه وراية خفاقة من راياته ، وأن أفتح صفحة من دفاتر اللواء الركن الراحل محمود شيت خطاب ، الذي بلغت كتبه المطبوعة والمخطوطة نحو ( 400 ) كتاب في السيرة والتاريخ والقصص والتراجم والإسلاميات والعلوم العسكريّة ، وعدا عن ذلك كله فقد كان نموذجً العسكريّ النادر . حفظ القران الكريم منذ صباه الباكر ، وكان يقضي أكثر ساعات الليل في تهجّد وخشوع فإذا غلب الخشوع النعاس أجهش بكاءً من خشية الله .
ومن عجائب هيبة هذا الجنديّ أنه صلّى صلاة العيد في مسجد السيّدة زينب في القاهرة ، وعندما انتهى من الصلاة ، التفت إليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، فرآه بين الصفوف ، فجاءه وأخذه معه إلى ضريح السيدة زينب يداً بيد بطريقة ملفتة للنظر حتى انتهت مراسيم الزيارة ، وفي الطريق حدّثه وزير الأوقاف المصري ـ آنذاك ـ الدكتور عبد الغني كامل ، وقال له : لم أر عبد الناصر عامل أحداً قبلك ، بما عاملك اليوم من الاهتمام والاحترام !.
ومرّة كان يصلّي في مسجد أبي يوسف في الكاظمية ، فلمح عالماً من الهنود ، فسلّم عليه ، وسأله : هل ترغب أن أعاونك في شيء ، فقال العالم الهنديّ: أريد زيارة محمود شيت خطاب ، فصحبه خطاب معه إلى داره ، والهنديُّ لا يعرفه ، ولمّا حل في داره وعرفه ، اندهش الهنديّ وفرح كثيراً .. وهنا تمتم خطاب قائلاً : حمداً لله وكلّ شيء بقدر !.
روى لي الراحل ذات يوم ، أنه كان يعمل في القاهرة رئيساً للجنة معجم توحيد المصطلحات العسكرية ، وهناك بقي مدة خمس سنين يتعاون مع المجموعات الفدائية ، ويمدّها بالمعلومات العسكرية والتوجيهات الملائمة للصراع ، وقد قدّموا له مبلغاً كبيراً من المال مكافأة على عمله ، لكنه رفض استلامه ، وتبرّع به إلى هذه المجموعات ، التي كانت تعمل تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية .
احتفظ خطاب بعلاقات واسعة مع رجال كان لهم دور منهم شيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود ، وقد شاءت ظروف السياسة أن يفترق الاثنان بسبب فتوى شيخ الأزهر، التي أجازت زيارة السادات إلى القدس، ثمّ جمع الله بينهما في لقاءٍ ببغداد .. وانصرف خطاب بكثير من النقد لشيخ الأزهر وتفجّر غضباً عليه من دون مراعاة لمقامه ، حتى إذا هدأ روعه وانتهى من كلامه ، قال له الأزهري : ولكنني كنت في الحج يا سيادة اللواء ، وهناك من زوّر برقية التأييد باسمي !.
رحم الله هذا الجنديّ العراقيّ الباسل الذي عاش حياته زاهداً في الدنيا براتب تقاعدي بائس لا يتجاوز ستمائة دينار في أحسن الأحوال .. ولا بدّ من السؤال مرّة تلو مرّة : من المسؤول عن حلّ الجيش السابق فارتكب أكبر الخطايا ؟!.
*شكرا للاستاذ الدكتور زهير الشاروك على ارساله المقال لي عبر الايميل اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق