الاثنين، 21 أبريل 2014

كتاب (في علم اجتماع الثورة) للدكتور حاتم الكعبي

 كتاب (في علم اجتماع الثورة) للدكتور حاتم الكعبي

     


 بقلم : الدكتور حميد الهاشمي *
من بين الأعمال المتميزة لعالم الاجتماع العراقي د. حاتم الكعبي هو كتاب “في علم اجتماع الثورة” الذي يعد رائدا في مجاله للمكتبة العربية، حيث صدر عام 1959 في بغداد. ولأهمية ما تناوله من تنظير سوسيولوجي لظاهرة اجتماعية مهمة تمتد في عمق التاريخ البشري ولا تستثني جماعة بشرية معينة إلى الأبد. كذلك تزامن الأحداث الحالية التي تشهدها المنطقة العربية، نعرض الكتاب مع تعقيبات وتحليلات مرتبطة بالتطورات الأخيرة في العالم العربي.
يتضمن الكتاب عشرة مباحث هي: تعريف الثور، أسبابها، معالم الفترة التي تسبق الثورة، مراحل الحركة الثورية، قادة الحركة الثورية وأتباعها، دور المفكرين والمثقفين في الحركة الثورية، ما تتوخاه الحركة الثورية وما يتمخض عنها، أنواع الثورات، ومقارنة الحركة الثورية بالحركة الإصلاحية.
في تعريف الثورة:
لا يوجد إجماع بين علماء العلوم الاجتماعية على ماهية الثورة وتعريفها، مثلما هو الحال في عدم إجماعهم على كثير من الظواهر الاجتماعية. ولكن هناك نقاط رئيسية يلتقون بها، يمكن أن تشكل إجماعا على تعريف الثورة. منها مثلا: أنها التغيير المفاجئ السريع، البعيد الأثر في الكيان الاجتماعي. ذلك التغيير الذي من شأنه أن يحطم استمرارية الأحوال الراهنة في المجتمع. من جانبه يوصف عالم الاجتماع “هربرت بلومر” الثورة بأنها تبتغي إعادة بناء وتنظيم النظام الاجتماعي كله تنظيما وبناء جديدا. ويرى كارل مانهايم أن الثورة عمل قصدي وإن كانت بعض عوامل هذا العمل الاجتماعي لاشعورية. ولذا فهو يؤكد أن الثورة تعني فيما تعنيه أن هناك توقع حدوث انحطام في الكيان الاجتماعي المبرر القائم وفي التنظيم الاجتماعي الراهن ووجود قصد لأحداث مثل هذا الانحطام والانهيار. باختصار فإن الثورة ماهي إلا ردود أفعال الأفراد والجماعات على الأحوال غير المرضية في حياتهم الاجتماعية عامة، ولكن بعد أن تنتظم هذه الردود في عمليات السلوك الجمعي.
يجب أن نميز هنا بين الانقلابات العسكرية خاصة أو تلك التي تقوم بها أحزاب سياسية، وتسميها “ثورة”. حيث تختلف بشكل كبير عن مفهوم الثورة، التي يفترض أن تعبر عن إرادة شعبية لغالبية أفراد وفئات المجتمع.
معالم الفترة التي تسبق الثورة:
هناك بعض الظواهر الاجتماعية غير المألوفة في الأحوال الاعتيادية للمجتمع، وإن من هذه ما يزيد في قوة الانفجار أو ما يعجل به. إن من علائم القلق والاضطراب الاجتماعي الذي يسبق الثورة، ارتباك وعشوائية سلوك الناس وعدم استقرارهم والقيام بإخلال النظام والخروج عليه واقتراف جرائم عاطفية وزيادة الجرائم الجنسية وحوادث الجنون وانتشار التشهير بنقائص النظام القائم والتحريض على تغييره. ويبدأ في هذه المرحلة أيضا تبلور “ايديولوجي ثوري” يوجه السلوك الجمعي بالتدريج وجهة معينة واضحة.
يذهب ادواردز إلى أنه لابد من بروز ظاهرتين في المرحلة التي تسبق الثورة وهما: انتقال وتحول ولاء المثقفين، وتكون الخرافة الاجتماعية (الحلم بتحقيق أوسع أهداف الثورة أو الذهاب بعيدا بها، إلى حد التصور بتحقيق حياة مثالية). يصاحب هذه المرحلة ضعف وانهيار قوة السلطة السياسية الحاكمة.
يجب الانتباه إلى أن الثورة كظاهرة اجتماعية تتغير أسبابها ومعالمها، ومراحلها باختلاف حياة المجتمعات، والوسائل التي تستخدمها بما فيها وسائل الاتصال. لذا لا غرابة أن نجد أن بعض الوصف أو معظمه لا ينطبق على ما حدث أو يحدث من ثورات في العالم العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
مراحل الحركة الثورية:
يجمع الباحثون في هذا الميدان على أن الحركة الثورية لا تتم بين عشية وضحاها، بل تمر بمراحل متعددة مختلفة، وإن لها دورة حياة قد تستغرق سنة أو بعض السنة أو جيلا أو عدة أجيال. إن تقسيم الحركة الثورية إلى مراحل لا يعني أن هناك حدودا واضحة بين هذه المراحل، ذلك أن الحركات الثورية شأنها شأن الحركات الاجتماعية في هذا الوجه تنتقل من مرحلة لأخرى بطريقة لا يشعر بها.
عموما يقسم المختصون مراحل الثورة بصورة عامة إلى قسمين رئيسيين. تكون الحركة في الجزء الأول منها سيالة رجراجة، تلقائية لا تتميز إلا بشئ قليل جدا من التنظيم . أما الأهداف فهي موجودة بصورة جنينية أولية. أما الجزء الثاني من حياة الثورة فيتميز بالتنظيم الواضح، في تقسيم العمل وفي تبلور الأهداف وتبني وسائل وأساليب معينة لتحقيق تلك الأهداف، وفي ظهور القيادة أو الزعامة في الحركة. حتى إذا نجحت الثورة ووفقت في أهدافها، شغلت بإقامة نظام اجتماعي جديد.
يصف جيروم ديفز مراحل دورة حياة الثورة كما يلي:
تبدأ الحركة بوجود حركة محسوسة لدى الأفراد يعبرون عنها أمام بعضهم البعض. ومن ثم التحريض والإثارة والدعاية، فالشعور الاجتماعي بالحاجة ومن ثم التنظيم، فالمرحلة الأساسية التي تتميز بتمخض الحركة عن تكوين مؤسسات لها. ومن ثم نشأة وظهور الوجه المكتبي لهذا التنظيم المؤسسي ومن بعدها جمود هذا التنظيم وعدم مرونته. في حين يرى كل من داوسون وغيتز أن الحركة تمر بأربع مراحل تبدأ بالقلق والاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار، ثم مرحلة الهياج الجمعي، فالمرحلة الشكلية وأخيرا المرحلة المؤسسة.
قادة الحركة الثورية:
يتفق فريق كبير من الباحثين في هذا الميدان ومنهم بلومر، داوسون وهيوز، كشلو، بارك وغيرهم على أن الزعيم في الحركة في مراحلها الأولى هو من نوع المهيج والمحرض. وفي مرحلة الهياج تصبح أهداف الثورة أكثر وضوحا ويكون الزعيم في الأعم الأغلب من نوع النبي أو المصلح. وفي المرحلة التي تكتسب فيها الحركة الثورية شكلياتها تتسم عادة، أكثر من ذي قبل بتكون قواعد وأنظمة وانضباط وخطة عامة للعمل في سبيل تحقيق أهداف الحركة. وفي هذه المرحلة يكون الزعيم أو القائد من نوع وطبيعة رجل دولة. وفي المرحلة اللاحقة التي تتبلور فيها الحركة يقوم أعضائها بادوار وظيفية والعمل على تنفيذ أغراض الحركة، ويكون الزعيم على أكبر احتمال إداريا أو من النوع الإداري.
يؤكد تشادوريك أن الحركات الثورية الوطنية منها والقومية نادرا ما تخلق من قبل ذوي مراكز عليا في المجتمع. إن الذين يبدأونها ويخلقونها في الأعم الأغلب من الأدباء والكتاب ورجال الدين.
اشتهر عن اتاتورك أنه قال: إن اؤلائك الذين يميلون في حل المشاكل إلى طرق المساومة لا يصلحون لان يقوموا بثورة.
دور المثقفين والمفكرين في الحركة الثورية:
إن الدور المهم الذي يلعبه المفكرون والمثقفون في الحركات الاجتماعية عامة وفي الحركة الثورية بصورة خاصة، هو دور لا يتناوله الباحثون إلا عرضا فيما كتبوا عن هذه الحركات، ولا يمرون به إلا مرور الكرام في الأعم الأغلب. ينقل د. حاتم الكعبي عن أستاذه في جامعة شيكاغو (بروفيسور شلز) أنه حين قدم موضوع درسه الذي يدور حول المفكرين قائلا: “لقد بحث هؤلاء المفكرون كل المواضيع في الدنيا وطرقوها ولكنهم نسوا أنفسهم فقصروا في هذا الباب”. حيث يلعب المثقفون والمفكرون دورا هاما في تنمية الحركات الاجتماعية بصورة عامة وفي توجيهها ونشرها وإرساء قواعدها بين الناس وبلورة رسالاتها والدفاع عنها، والرد على خصومها والمساهمة في وضع الخطة العملية لإنجاحها، وفي تطعيمها بالعنصر الطوبائي. وفي صياغة أهدافها ووضع عقائدها وحتى ما يتصل بهذه العقائد من أساطير وخرافات.
يقول فردريك هرتز ” إن الدور الرئيسي في كل الحركات الاجتماعية التي عرفناها، هو الدور الذي لعبته الطبقات المثقفة من أساتذة وطلاب ومحامين وموظفين وأطباء ومعلمين وكتاب وصحفيين. ويحدثنا لازويل عن دور المثقفين في الحركات القومية بعد أن يصنف الحركات القومية إلى أصناف وأنواع مختلفة فيؤكد على أن دور المثقفين فيها هو تحفيز الإحساس الراكد على إدراك الوحدة الحضارية والثقافية التي تربط الأمة الواحدة وذلك عن طريق الإنتاج الثقافي والتهييج السياسي.
يرى جوزيف شمبتر، أن المعاناة والظلم الذي يواجهه المجتمع مع النظام القائم غير كافية لإثارته على الثورة، بل لا بد من تهيئة الناس لمثل هذه الحالة، وتنمية الجو النفسي الاجتماعي إلى هذه الدرجة من النقمة وتنظيمها، وتغذيها وتعبر عنه وتقودها، ذلك أن جمهور الناس غير قادرين لوحدهم عادة على تكوين الآراء المتعلقة بهذا الوجه من الموضوع خاصة، يضاف إلى هذا أنهم اضعف قدرة مما مر على ربط هذه الآراء وتحويلها إلى مواقف ثابتة منسجمة وأعمال.
إن الطلاب أيضا يمكن أن يصنفوا جزء من فئة المثقفين، يلعبون دورا خطيرا في الحركات الثورية عادة. فقد لعب طلاب الجامعات في فرنسا دورا خطيرا في الحركات التي حدثت في باريس سنة 1830 وسنة 1848، وفي تلك التي حدثت في فيينا سنة 1848 حيث كون الطلاب كتائب ثورية وكذلك فعل طلاب ألمانيا وروسيا خلال القرن التاسع عشر وفي مصر قبيل ثورة 1952 وفي وسوريا قبل اتحادها بمصر وفي جنوب إفريقيا والعراق وغيرها.
وحتى لا يكون هناك تعميم لدور المثقفين ومواقفهم، فاننا نلجأ الى وصف مانهايم لفريق من المثقفين بـ” المثقفين الأذناب” وهم الذين يضعون خدماتهم من أجل مصالح طبقة معينة.
أنواع الثورات:
إن للثورات أنواعها المختلفة، فالماركسيون مثلا يصنفون الثورات كما يلي:
ثورة القصر الملكي، ثورة ضد الاستعمار، الثورة البرجوازية، ثورة العمال، والثورة المضادة. ويرى فريق من الكتاب أن الثورة على نوعين هما، مسلحة وغير مسلحة. فيما يرى فريق ثالث، أن تصنيفها يتوقف على الحقل الذي تحدث فيه. فهي مثلا: حضارية، صناعية، سياسية وهكذا. بينما يرى فريق آخر وعلى رأسهم داوسون، أن الثورة ما هي إلا أنواع من الحركات السياسية، ويقسمها إلى نوعين من حيث الأهداف:
1- حركات تتوخى أهدافا ثورية، حيث تنشد تغيير الآداب والمعايير السلوكية المرتبطة بها، وذلك بتحطيم النظام الاجتماعي القائم والقضاء عليه وإقامة نظام اجتماعي جديد مكانه.
2- الحركات التي تتوخى أهدافا إصلاحية تنشد إلى تغيير المؤسسات الهامة والأحوال لتجعلها منسجمة متمشية مع الآداب والقيم العامة السائدة في المجتمع. وان هذا النوع من الحركات السياسية يبتغي تغيير النظام السياسي الحاكم والإدارة القائمة.
في أسباب الثورة:
يمكن عد جملة من الأسباب تتراوح بين العوامل الداخلية والخارجية، وفقا لنظريات علم الاجتماع. فهناك العوامل النفسية للأفراد ومنها في الوضعيات المحيطة التي يعاني منها الناس. ومنها ما يمزج بين هاتين الجهتين في أحداث الثورة والتمهيد لها. ومنها ما يرجع إلى البيئة الاجتماعية. وفي العرض التالي عدد منها:
أسباب غريزية:
في رأي هربرت ميلر، أن سبب الثورة يرجع إلى ما يسميه بـ(الجنون الحصاري obsessive psychosis) الذي تعانيه الفئة المهضومة عادة في المجتمع، والتي يدفعها هذا الجنون إلى العمل على تغيير نصيبها في الحياة فتثور. بينما يرى سروكن وجريا مع المذهب الغريزي الذي كان طاغيا في الفترة التي وضع فيها نظريته، هذه، أن كف وكبت الغرائز الرئيسية هو الذي يؤدي إلى الثورة.
أسباب اقتصادية:
بينما يرى أصحاب العمل الاقتصادي ومنهم الماركسيون، أن سبب الثورة هو العامل الاقتصادي. ويتراوح تحديد العامل الاقتصادي بين البطالة والصراع الطبقي القائم على التفاوت الاقتصادي. أو التضارب بين قوى الإنتاج وبين علاقات الملكية القائمة، ذلك أن قوى الإنتاج في المجتمع هي في تغيير مستمر، ونمو دائم، ولابد لها في مرحلة من مراحل هذا التغيير أن تتضارب مع علاقات الملكية مما يكون سببا في الثورة. ويؤكد مريمان (Merriman)، نفس الاتجاه (الاقتصادي) من دراسته لست ثورات حدثت خلال القرن السابع عشر في ستة أقطار أوربية. إن كل تلك الثورات ترجع إلى جذور وأسباب مالية كالاحتجاج ضد الضرائب.
قيم وأفكار وعقائد جديدة:
يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الأسباب تعود إلى دخول قيم وأفكار وعقائد، أو خرافات ثورية جديدة، أو تمثلا ت جمعية جديدة (collective representations)، على حد تعبير دوركايم وبارك. أو في ظهور يوتوبيا أو آيديولوجي، ثوري جديد بحسب لينين وميوزل وغيرهما.
وقد نقل عن لينين القول الشهير الذي مضمونه “من دون نظرية ثورية، لا يمكن أن تحدث حركة ثورية”. وفي نفس المعنى يذهب ميوزل إلى أن كل ثورة يجب أن يسبقها آيديولوجي ثوري ليكون سببا ممهدا لحدوثها. ويرى غوستاف لوبون أن جذور الثورة وأسبابها تمتد إلى نشأة معتقد جديد يهدد المعتقد القديم. ومن هنا تكون الثورة إيذانا بنهاية معتقد قديم ونشأة معتقد جديد مكانه. في حين يرى روبرت بارك أن الثورات أعمال جمعية، موجهة نحو ضرب من ضروب التمثلات الجمعية. أما سوريل الذي اشتهر ببحوثه عن الحركات الدموية، فإنه يؤكد على أن بداية الثورة هي في وجود “الخرافات الثورية” على حد تعبيره. إن الذين يسهمون في حركة اجتماعية هامة هم اللذين يكونون هذه الخرافات الثورية، حيث يصورون لأنفسهم دائما بأن عملهم الذي سيقدمون عليه، ما هو إلا معمعة سيكتب فيها النصر لهم ولعقيدتهم. إن هذه الخرافات هي التي تكون مصدر التحفيز الملح على القيام بالعمل الثوري.
اليوتوبيا:
يذهب فريق من الباحثين إلى أن جذور الثورة وأسبابها تمتد عادة إلى طوبائية أحد الطوبائيين. ومن هنا يرى هذا الفريق أن الثورة الفرنسية تمتد بجذورها إلى ما كتبه روسو مما دعا بانجيل إلى الثورة. وأن الحركة التي قادها كرومويل في انكلترا تمتد جذورها إلى ما كتبه توماس مور، في طوبائيته الشهيرة “يوتوبيا”. وان الثورة الحمراء في روسيا تمتد جذورها إلى الطوبائية التي صورها كارل ماركس وهكذا.
إن نظرية اليوتوبيا في الثورة تؤكد ضمنا، كما هو واضح على دور المفكرين في الحركات الثورية، كما أنها تدعم موقف فريق آخر من الباحثين في سببية الثورة الذين يركزون على أهمية “الرجل العظيم” ودوره الأساسي في حفز الثورة بصورة خاصة وفي إحداث التغير الاجتماعي بصورة عامة.
الرجل العظيم:
إن هذا الرأي في الزعامة أو القيادة تتمسك به ثلة من علماء الاجتماع، تسمي نظرياتها بنظريات “الرجل العظيم The great man theories of leadership). ومن رواد هذا الاتجاه، توماس كارلايل في كتابه “عبادة الأبطال”. والأستاذ برايزغ أحد مشاهير أساتذة جامعة برلين، والفرنسي تارد، في طرحه حول أهمية الاختراع والمخترعين في إحداث التغير الاجتماعي، وماكس فيبر في أطروحته الشهيرة (الكارزما the charisma) ، وصاموئيل كشلو في بحثه حول “النبي كزعيم”. كذلك لا يمكن تجاوز آراء فلاسفة وعلماء اجتماع آخرين أمثال هيغل وسبنسر وهوك ووليم اوغبرن.
الشاذون في المجتمع:
هناك فريق آخر من الكتاب يرى أن الذين يبدأون الحركة الاجتماعية، أو يحفزون على الثورة وتحطيم النظام الاجتماعي القائم، لابد وأن يكونوا من الشواذ (لا من الناحية الايجابية كالعبقرية والعظمة وقوة الشخصية وما إليها، بل الشواذ في النواحي السلبية) في المجتمع، كإن يكونوا من المصابين بالأمراض العصبية، أو من المجانين من قبيل الخارجين على الحدود المرعبة في الضبط الاجتماعي، أو الذين يعانون انحرافا جنسيا وما شاكل. من هذا الفريق من الكتاب، لوبون وايفرت مارتن في كتابه (سلوك الجماهير) وهارولد لازويل وغيرهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أغلب الآراء من هذا الاتجاه لا تخلو من تحيز تتصف به آراء المحافظين وأصحاب النفوذ ضد أي تغيير.
الاحتكاك الحضاري:
يرجع أصحاب هذا الاتجاه سبب الثورة إلى الاحتكاك الحضاري بين شعب ما وشعوب أخرى أرقى منه، أو تختلف عنه حضاريا.
هنا يمكن إدراج الثورات والحركات الإصلاحية المعاصرة، خاصة تلك التي حدثت في بلدان عربية ولازالت تحدث في أخرى، ذلك لا بد أن يكون نتيجة الاحتكاك الحضاري (غير المباشر) خاصة، الذي يتم عبر وسائل الإعلام من خلال الفضائيات وعبر شبكة الانترنت التي تمثلتها الأجيال الشابة خاصة. كما أن تسليط الأضواء من قبل الإعلام ونقل الحدث إلى العالم بالصورة والصوت قد حد إلى درجة كبيرة من استخدام العنف المفرط ضد الثوار في معظم تلك البلدان، وعدم التمادي فيه كما كان يحصل في فترات سابقة من تاريخ البشرية.
خسارة حرب ما:
لقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن هناك رابطة بين الحرب والثورة، حيث تؤدي الحروب الخاسرة إلى ثورة في المجتمع. ومن أمثلة ذلك ما حدث من ثورات في 1917-1918 في كل من النمسا وتركيا والمجر وألمانيا وروسيا وبلغاريا واليونان وغيرها. وحدوث الثورة في روسيا سنة 1905 وفي تركيا سنة 1912 وفي فرنسا سنة 1870-1871 وغيرها.
التغيرات السكانية (الديموغرافية):
ساهم المختصون في موضوع السكان بتبيان أثر التغيرات التي تطرأ على السكان في إحداث الثورة. ومن هؤلاء الباحثين كارلي Carli الذي اشتهر بدراسة الترابط بين التغيرات السكانية وحدوث الثورات. لقد كان من نتائج هذه الدراسات أن بعض هؤلاء الباحثين قد أكدوا على أن الفترات التي تتميز بتناقص أو تزايد سريع في السكان، تكون فترات ثورات وأزمات. وباختصار فإن التزايد السريع أو التناقص السريع في السكان ينطوي على تفاضل واختلاف في تزايد أو تناقض الطبقات الاجتماعية المختلفة في نفس المجتمع. وكلما كان هذا التفاضل كبيرا، كلما كانت الحوائل والموانع التي تحول دون تسرب الموهوبين وتسللهم من الطبقات الاجتماعية الدنيا إلى الطبقات العليا منيعة متشددة، كذلك يكون احتمال حدوث الثورة والأزمات كبيرا. إن هذا التفسير يلتقي مع ما يذهب إليه كل من باريتو وسروكن وسمنر واضرباهم بخصوص أثر عرقلة النقلة الاجتماعية في الهرم الاجتماعي في إحداث الثورات.
الاجتماعية:
تبذل الفئات الحاكمة المستأثرة بمراكز الحكم عنوة بالطرق غير الديموقراطية مساعي جبارة إذا هي ابتغت احتكار الحكم حفظا لمصالحها وصيانة لاستمرارية تلك المصالح، لتثبيت المجتمع وتحجير كيانه الاجتماعي وعرقلة تغيره الاجتماعي. إن عملية التثبيت هذه تقتضي إيداع تلك المؤسسات إلى أفراد الفئة الحاكمة نفسها أو أذنابها وهكذا يتم إفساد الديموقراطية في الحكم بتفشي المحسوبية والمنسوبية. كل ذلك يدفع إلى التوتر النفسي الدائم ويفوت على الأفراد الفرص الكثيرة التي تمكنهم من استغلال مواهبهم. وينجم عن هذا تثبيت وتمييز طبقي ينسحب على أسس اجتماعية بعد أن يحصل التباين على أسس السكن والتعليم والمنزلات الاجتماعية، ورؤى طبقية موحدة لكل طبقة وربما حتى لهجة متمايزة عن العامة. ولهذا يظهر التعصب في هكذا مجتمعات يسعى إلى المحافظة على البعد الاجتماعي بين الطبقات الاجتماعية والفئات المختلفة. بالنتيجة يصبح الكيان الاجتماعي جامدا.
لقد ذهب ميوزل إلى التعميم الذي من أن الثورات هي دائما ثورات الطبقات الدنيا على الطبقات العليا.
كما إن هناك فريقا من المفكرين يضع أهمية على الحاجات الأساسية، منها والجديدة في إحداث الثورات تحت ظروف معينة. من هؤلاء مالينوفسكي الذي يرى أنه لا يمكن أن يحدث اختراع ولا ثورة ولا تغير اجتماعي أو فكري إلا عندما تستحدث حاجات جديدة. كذلك يرى ديفز أن كل حركة اجتماعية ما هي إلا نتيجة سوء تكيف في المجتمع أو في جماعة منه جراء وجود حاجة أساسية غير مشبعة عند الناس. وعلى هذا الأساس فإن الثورة تقوم من أجل تحقيق وإقرار التوازن.
بالإجمال يمكن القول أن السببين الاقتصادي والسياسي المتعلق بتطلع الشعوب إلى حرية التعبير والتعددية السياسية، ورغبة باختيار حكوماتها سواء المحلية أو على مستوى الدولة، بات السببان الرئيسيان في هذه المرحلة من حياة البشرية، وذلك في ظل انتفاء دواع الأسباب الأخرى مثل الاستعمار والتأثر بالأفكار الايديولوجية أو الدينية القادمة من الخارج. على أننا لا ننكر مطلقا أن هناك احتمالات أن تقوم ثورات داخلية لدواع قومية أو مذهبية في أوساط الأقليات التي تعيش في مجتمعات أوسع مغايرة لها ومهيمنة عليها، لا تمنح لها حرية التعبير أو الممارسة العقيدية أو الحقوق الثقافية، وهذه يمكن أن توصف بأنها فئوية، أي لا تشمل شعب دولة ما بأكمله إنما طائفة منه.

* مختص بعلم الاجتماع- hashimi98@yahoo.com 
نشرت في جريدة ايلاف الالكترونية 06.04.2011
*http://al-hashimi.blog.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شيخ المحققين العرب الاستاذ عبد السلام محمد هارون 1908 -1988

الملك خالد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية 1975-1982 يسلم جائزة الملك فيصل العالمية للعلامة المحقق الكبير الاستاذ عبد السلام هارو...