الخميس، 17 أبريل 2014

حياة شرارة 1935-1997 بقلم :ا.د. سعيد عدنان

حياة شرارة 1935-1997
بقلم :ا.د. سعيد عدنان
من هذه السيدة التي تدخل مع أوائل الداخلين إلى كلية الآداب, في كل صباح, وتمضي بخطى سريعة إلى قسم اللغات الأوربية؟ كانت رشيقة, قصيرة الشعر, صارمة الملامح, كئيبة المحيا تغشاها سحابة حزن, لا تريد أن تفارقها, ويُثقلها أسى, وهي إلى ذلك تنبئ خطاها عن ثقة وثيقة بالنفس.

تدخل وحدها مصوبةً نظرها إلى طريقها لا تلتفت إلى شيء, وكأن ليس من شيء مما حولها يستلفتها, حتى إذا بلغت قسم اللغات الأوربية انحرفت يساراً إلى غرفات فرع اللغة الروسية وآدابها, وألقت بعض أشيائها هناك وعادت مع أشياء أخرى إلى مكتبة الدراسات العليا واتخذت مجلسها بين الكتب, ساعات وهي لا ترفع رأسها عما بين يديها, وإلى جوارها قارورة شاي وقدح صغير, تسكب من القارورة بين الحين والآخر في القدح الصغير وترتشف.
من هذه السيدة ؟ هي غير الأخريات في كلّ شيء, وهي غير الآخرين أيضاً حتى كأن ليس بينها وبينهم سبب, وقلما كان بينها وبين أحد كلام, كانت كأنّها تفرّ من شيء ما إلى الكتب تُغرق نفسها فيها.
كنّا في أواخر السبعينيات وكان شيء من الرماد يتسرب في نسيج الحياة و يُفقدها مذاقها, كان الرماد سريع النفاذ, وكان لون الحياة يشحب, وكانت صُفرة تنتشر في الجو.
انقطعت السيدة وخلا مكانها في مكتبة الدراسات العليا, ومضت شهور وبدا أن مابينها وبين الكّليّة قد بُتَّ.
وقال قائل: إن حياة شرارة قد نُقلت من كلية الآداب إلى وزارة الصناعة مترجمة في مصنع من مصانع الإسمنت جزاء على رفضها الالتحاق بالحزب الحاكم, وأتمّ آخر إنها عند تلقيها أمر النقل جلست في بيتها ولم تذهب إلى مصنع الإسمنت!
كانت حياة قد نشأت في بيت أدب وفكر سمته صدق الموقف وصلابته, ورأت في منزل أبيها, في مدارج طفولتها, خيرة أدباء البلد يلتقون على الكلمة الراقية صدقاً وصفاء, وشهدت مولد حداثة الشعر و ما صحبها من فكر يتجه نحو أفق رحيب. وكانت جهارة الرأي مما لايحيد عنه المنزل على فادح ما نزل به, فما كان لها وهي ابنته أن تعرف إدهاناً أو مداجاة. وكان ما نشأت عليه من اتساق الفكر يحجزها عن أن تتردى في مهوى الاضطراب.
درستْ الأدب الروسي وتخصصتْ به, وشرعتْ تكتب فيه, وتترجم عنه ورائدها صدق التجربة الأدبية وإنسانيتها ومغزاها الذي يتعدى نطاق بيئتها.
كتبت (( تولستوي فناناً )) متلمسة الموقف الإنساني وقد أتخذ شكلاً فنياً استطاع أن يهبه معناه وأن يبقيه خالداً قادراً على مخاطبة الإنسان على تنائي الزمان والمكان. ورجعت إلى النقد الأدبي الروسي في القرن التاسع عشر فوقفت عند رائد اتضحت لديه معالم النقد الأدبي على صعيدي النظرية والتطبيق على أتم وجه وارتقى بها, إذ كتبت عن (( بيلينسكي )) ولعل مما دعاها إليه- فضلاً عن ريادته في النقد – ما كان له من موقف إنساني سام ٍوما كان ينطوي عليه من نزوعً إلى الخير .
لم تكن الكتابة لديها لهواً وتزجية وقت, وإنما كانت رسالةً ترمي إلى الاستنارة وإشاعة القيم الرفيعة في ما حولها ومحاربة الظلام, ولم يكن طريقها إلى ما تُريد سهلاً معبداً بل كانت الثنيات الموحشة لا تفتأ تتراءى على جنباته.
وزاولت الترجمة مع التأليف, وكان مما ترجمت: (( الأفكار والأسلوب )) وهو كتاب يدرس أدب تولستوي, ويرجع بها إلى كتابها (( تولستوي .. فناناً )) ويلتقي عندها التأليف بالترجمة في توخّي ما رصدت نفسها له من صدق واتساق ووضوح ونزوع إلى ما هو خير .
عادت بعد مدة إلى كلية الآداب لكي تصل ما انقطع على الرغم مما ران عليها من أسى واكتئاب زاد فيه فقدان والدها, وقيل في رجوعها إن امرأ من آل شرارة الذين في لبنان كلمّ رئاسة الجمهورية – وكانت له حظوة فيها – بشأنها وإنها ظُلمتْ بإبعادها إلى مصنع الإسمنت, عادت, ولكنّ خطاها بدت – وهي تقطع المسافة من مدخل الكلية إلى قسم اللغات الأوربية – ثقيلة كأن شيئاً يشدّها إلى الأرض .
ورجعت إلى ملاذها في مكتبة الدراسات العليا, بين الكتب!
كانت الجامعة تلين شيئاً فشيئاً في قبضة السلطة, ومن كان عصياً نُصبت له الحبائل, ورُصد في غدوّه ورواحه حتى يضيق علية كلّ متسع! ووجد في الجامعة من يسعى في خرابها ويفتت كيانها ويقدّم ما هو حزبي على ما هو أكاديمي. ولقيت حياة وأمثالها من ذلك أذى خفيّاً ومستعلناً, ولم يكن إزاء المرء, وهو في موقف مثل هذا, إلاّ أن يعتصم بنفسه ويرجع إلى أعماقه يزيد من حصانتها ويستعيد ما كان له في صدر حياته مما يعتز به, كتبتْ, وهي في سياق من ذلك (( تلك أيام خلت )) تسترجع الأجواء الأدبية التي شهدتها في الندوة التي كانت تقام في دار أبيها في سنوات منتصف الأربعينيات, تحدثت عن السياب وعن نازك ومن كان معهما حديث مشاهدة وخبرة, وحديث من يلذّه أن يستعيد أشياء كانت له .
دخل البلد في مطلع التسعينيات في ظُلمة أخرى وهو لما يخرج من ظُلمة قبلها, وازداد الأُفق ضيقاً وكآبة, وازدادت ريبةُ السلطة بالناس, واشتدت وطأة الحصار. وكانت (( تلك أيام خلت )) يتردد صداها في نفسها فيفصلها عما هي فيه ويرجع بها سنواتٍ, إلى أيام مشرقة بالثقافة غنية بالمعرفة, وأرادت أن تحيا في تلك الأجواء مرة أخرى فشرعت تكتب (( صفحات من حياة نازك الملائكة )) وتستعيد جيرة وأُلفة عزيزة عليها, وكأنّها إذ تكتب عن نازك تكتب عن نفسها بنحو ما, وترى مجرى حياتها في مرآة من تكتب عنها.
كانت (( تلك أيام خلت )) و (( وصفحات من حياة نازك الملائكة ))ملاذاً تأوي إليه فراراً من واقع خشنٍ قاسٍ!
تردّى أمر الجامعة, وكان لابد أن تكتب شهادة صدق عما رأت وعما وقع عليها, وأرادت أن تتخذ هذه الشهادة شكل الرواية فأنشأت: (( إذا الأيام أغسقت )), كان معنى الغسق ينتشر في كلّ شيء ويتقهقر به, وكان الذبول يشيع في مناحي الحياة. دارت الرواية في بيئة الجامعة, مبينةً عن أنماط من التسلّط, والفساد, وضياع القيم الأكاديمية, وهدر إنسانية الإنسان, فكانت شهادةً على ما تفعله الدكتاتورية بالمجتمع, وبالجامعة, وكانت أيضاً سبيلاً من سبل صيانة النفس وحياطتها.
كان زحف الغسق حثيثا لا يدع شيئاً إلاّ طواه! كان يهدّ القُوى!
وفرّ من البلد من استطاع الفرار, ومن أوهم نفسه بالاستطاعة!
وحاولت حياة أن تغادر وتتقى شرّ غروب داهم فاعترضت عقبات, وحاولت الإحالة على التقاعد, وعندها من الخدمة الوظيفية ما يكفي, فلم تقبل الجامعة, واستعصى عليها أن تبقى في عملها فتركته وعُدت مستقيلة! وضاقت بها الحياة, وكانت تتعزى بروايات دستويفسكي تقرؤها كل ليلة, وبلغ بها اليأس ذروته, حتى بدا لها من خلاله أمر: أن تُفلت زمام الحياة من يدها! فما أن أتى الأول من آب سنة 1997 حتى كانت قد سلكت ذلك الدرب الموحش الذي لا أوبة منه, فكانت حياتها, وكان مماتها شهادة صدق على وضع رديء وما آل إليه.
*http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=327664

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...