أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
- 1 -
لم تكن الثورة التي وقعت صبيحة 14 تموز 1958، حدثا بسيطا في العراق والوطن العربي كله. ولم تكن هذه الثورة من فراغ، بل كانت حصيلة نضال طويل، وشاق ، من اجل التحرير والاستقلال، والتخلص من الظلم والعبودية. ما لبثت أن انحرفت وتحولت إلى نظام دكتاتوري يميني إقليمي، وان هو احتفظ بالسمات العامة للحكم الوطني.
وفوق هذا وذاك، فهي ثورة، استطاعت أن تقلب موازين القوى في (منطقة الوطن العربي ودول الجوار). كما أنها اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تعيد النظر في ترتيبها ومخططاتها. ولقد أشار إلى شي من هذا القبيل (اندرو تولي) حينما قال :(( إن الثورة العراقية كانت مفاجأة مذهلة للحكومة الأمريكية)) ، إلى درجة أن (وليم فولبرايت) رئيس لجنة العلاقات استدعى (الن دالاس) مسؤول المخابرات للتحقيق معه، ((منعا لكوارث مماثلة للثورة العراقية ، على حد تعبيره يمكن إن تلحق الإضرار الفادحة بالأمن الأمريكي وبأمن العالم)).
-2-
حظيت الثورة باهتمام واسع من لدن المؤرخين العراقيين والعرب والأجانب. فظهرت حولها منذ أيامها الأولى وحتى الأشهر الأخيرة (دراسات وبحوث) و(كتب). كما كتب بعض الضباط الأحرار مذكراتهم التي وثقوا فيها معلوماتهم وخواطرهم وذكرياتهم عن الثورة.
ويمكن القول أن تلك (المذكرات) تتسم بالأهمية ،والقيمة العلمية، كونها صادرة عن أناس كان لهم دور في صنع تاريخ الثورة من جهة، ولهم الفضل الأول في إنقاذ الجزء اليسير من المعلومات عنها من الضياع بتسجيلهم إياها من جهة أخرى. وسنحاول أن نلقي الضوء على بعض هذه المذكرات، ونقارن المعلومات الواردة في بعضها مع المعلومات الواردة في بعضها الآخر. وهدفنا الإجابة على سؤال مهم وهو : هل يمكن الاعتماد على المذكرات الشخصية لأولئك الضباط في تكوين صورة واضحة عن حقيقة ثورة 14 تموز 1958 وطبيعتها ؟ ، والى أي حد نجح الضباط الأحرار في أماطة اللثام عن تكوين(تنظيم) أو (منظمة) الضباط الأحرار؟ وما هي أهداف ذلك التنظيم ووسائله، وأساليبه في إسقاط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق. وقبل هذا لابد أن نقف عند أهمية (المذكرات الشخصية) وموقعها في الكتابة التاريخية المعاصرة.
-3-
لاينكر المؤرخون ، الدور المهم الذي تقوم به (الميول البشرية ،والعواطف، والأهواء الشخصية ،والنزوات الفردية) في التاريخ. ولئن وجدنا من بين المؤرخين من يركز على (القوى الطبيعية) أو (الدين)، فأن هناك مؤرخين يذهبون إلى أن (المؤثرات الاقتصادية) مثلاً لها الدور الاكبر . كما ان ثمة من فس الثورة على انه ليست الا صراع بين الاجيال جيل قديم متشبث بالسلطة وجيل ناهض يريد ان يكون له دور .وقد ظهر من بين المؤرخين من يوازن بين تأثير العوامل ويذهب الى تشابكها وقدرتها على خلق الاحداث . كما اخلى البعض من المؤرخين لدور المؤثرات الشخصية والذاتية في سير حركة التاريخ .
ومما يساعد على تقدير هذه الرؤية في الحركة التاريخية . الاطلاع على (المذكرات الشخصية) التي يكتبها بعض الرجال البارزين الذين اشتركوا في توجيه سياسة بلادهم سواء في المواقف الحاسمة، أو في المواقف الحرجة، أو في أوقات السلم والأحوال العادية.
ويذكر المؤرخ المصري علي أدهم : (بان بعض المذكرات السياسية تظهر في صورة تراجم ذابلة، يكتبها السياسيون عن تجاربهم، وحوادث حياتهم، أو في القيام بمهام الدولة وتصريف شؤونها)، وينقل عن المؤرخ البريطاني (كوج) قوله: ( إن التراجم ذاتها من اقرب أنواع الأدب وأقواها جاذبية ومعظم الناس يحبون التحدث عن أنفسهم ، وما فعلوه وما حاولوا فعله). ومن مأثور الأقوال عند الرومان: ( لن أموت موتا كاملاً) . وهذا المثل يعكس رغبة الإنسان في أن تكون له حياة أطول من حياته المتاحة، وهكذا تكون المذكرات أو التراجم الذاتية بمثابة احتجاج إنساني على حدود الزمان والمكان التي لامحيض عنها، ومحاولة لإيجاد علاقة بالمستقبل الذي لانراه، وهي محاولة مثيرة للعطف ومنطوية على الكبرياء في الوقت ذاته.
وثمة مسألة لابد من الإشارة إليها في هذا المجال، وهي أن كتاب المذكرات ،يحاولون تسجيل التاريخ من وجهة نظرهم الذاتية، بالرغم مما في هذا من عيوب، فان هذا التسجيل يسهم في الكشف عن (كثير من الأسرار) ويعين المؤرخ على ((فهم الكثير من البواعث والنيات الكامنة وراء الحوادث التاريخية التي لا يمكن ان يجدها المؤرخ في كتب التاريخ الاعتيادية)). وللمذكرات الشخصية عيوب أخرى، أبرزها أن كاتبها يجد صعوبة شديدة في التخلص من أهوائه ونزعاته الخاصة، فكثيرا مانجد انه يجعل من نفسه (محورا) للإحداث وقد يشوب مايرويه من الأحداث، محاولته لتبرير أفعاله ، او كتمان بعض الأحداث ، والإضافة، إليها أو المبالغة في أهميتها، وقد أشار احد كتاب التراجم إلى عيب أخر كثيرا مايعرض لكتاب المذكرات، وهذا العيب هو النسيان وخيانة الذاكرة، ذلك ان أكثر المذاكرات يكتبها أصحابها وهم في خريف حياتهم وبعد انسحابهم من ميادين العمل أو السياسة وابتعادهم عن الوثائق والمراجع والأسانيد التي تؤيد روايتهم، وتدعم صحة حديثهم وقد يكون صاحب المذكرات أمينا مخلصا صادقا الحديث ولكن تنقصه مع ذلك القدرة على التحليل والاستقصاء وربما كانت المذكرات التي يبذل كاتبها الجهد في الظهور بمظهر الشاهد النزيه والقاضي العادل اشد خطرا في سوية التاريخ ، وتضليل المؤرخين من المذكرات التي تظهر فيها ميول الكاتب ونزعاته واضحة صارخة فقد يتوارى التحيز الشديد وراء التظاهر بالأمانة والموضوعية.
إن أكثر المذكرات الشخصية دقه وأقربها الى الحقيقة هي تلك المذكرات التي يدونها صاحبها في وقت وقوع الأحداث وليس بعد مضي وقت طويل عليها وبديهي أن مرور الوقت بين كتابة المذكرات ووقوع الأحداث ليس كافيا للقضاء على نوازع صاحب الأحداث بعد وقوعها حسنات فان هناك سيئات فالانطباع الأول عن الحادث او عن الشخص ليس بالضرورة هو الانطباع الصحيح ففي غمرة ممارسة السياسية اليومية او الحدث اليومي كثيرا مايؤدي تركيز الملاحظة على الأشخاص والجزيئات والحوادث الآنية إلى عدم رؤية الصورة العامة التي تشكلها الجزيئات والى عدم الالتفات إلى المعنى الصحيح والأعمق للحوادث وسلوك الأشخاص فيها.
ومهما يكن من أمر فان المؤرخ لايمكن أن يغفل أهمية المذكرات الشخصية وقيمتها عندما يروم ((إعادة تشكيل الحدث التاريخي كما وقع بالضبط)) ، ولكن لابد له أن يقارن ويوازن بين المعلومات الواردة فيها والمعلومات التي يجدها في المصادر الأخرى ومنها الوثائق والكتب والصحف وماشاكل.
4
إن من أقدم الذين نشرت مذكراتهم عن ثورة 14 تموز 1958 الرئيس العراقي الراحل عبد السلام محمد عارف . أما احدث من نشر مذكرات فهو جاسم كاظم العزاوي.والجدول التالي يبين أسماء بعض الضباط الأحرار الذين نشروا مذكراتهم وعناوين مذكراتهم وتواريخ نشرها وأماكنها :
الجدول يطبع
ويتضح من الجدول أعلاه أن أربعة من الضباط الأحرار الذين كتبوا مذكراتهم كانوا أعضاء في اللجنة العليا لتنظيم الضباط وهم :
1_ عبد السلام محمد عارف
2_ صبيح علي غالب
3_ محسن حسين الحبيب
4_ عبد الكريم فرحان
كما أن اثنين من أصحاب المذكرات وهما صبحي عبد الحميد وجاسم كاظم العزاوي، كانا من أعضاء (اللجنة الوسطية) أو (اللجنة البديلة). فهل ان ما كتبه بعض الضباط الأحرار يمثل كل الحقيقة عن التنظيم؟ والجواب بالنفي، ذلك أن هناك أشخاص كان لهم دورهم الفاعل في صنع الحدث لايزالون صامتين. كما أن البعض ممن أسهم في التخطيط للثورة أو تنفيذها قد أصبح في ذمة الخلود. وثمة كتابات أو ذكريات أخرى قدمها بعض الضباط الأحرار من خلال قنوات ووسائل عديدة منها (الندوة) التي نظمتها مجلة آفاق عربية ونشرت في كتاب حمل عنوان : ( الذاكرة التاريخية لثورة 14 تموز 1958) وطبع ببغداد 1987 .أو في المقابلات الشخصية التي أجراها مؤرخون أو طلبة دراسات عليا كما حدث عندما ألف المؤرخ الأستاذ الدكتور فاضل حسن كتابه (( سقوط النظام الملكي في العراق)) ومن قبله الأستاذ الدكتور مجيد خدوري في كتابه (العراق الجمهوري) ومن بعدهما الأستاذ الدكتور ليث عبد الحسن الزبيدي الذي قدم رسالته للماجستير بعنوان (ثورة 14 تموز 1958 في العراق) كما يمكن عد ما أصدره (العميد المتقاعد) خليل إبراهيم حسين الزوبعي وهو من الضباط الأحرار (من أعضاء اللجنة أو( الحلقة الوسطية) بعنوان:(موسوعة 14 تموز) من قبيل المذكرات الشخصية نظرا لأهمية ما تضمنته من معلومات وحقائق عن الثورة، وان لم تأخذ شكل المذكرات الشخصية.
وقد تضمنت المذكرات الشخصية للضباط الأحرار التي اعتمدنا عليها متابعة لقضايا عديدة لها صلة بالتفكير بالثورة والتخطيط لها ومن ثم تنفيذها ومن ابرز هذه القضايا:
1. بداية التنظيم
2. مؤسس التنظيم
3. عدد أعضاء اللجنة العليا
4. اللجنة البديلة
5. انضمام عبد الكريم قاسم
6. انضمام عبد السلام عارف
7. أهداف الثورة
8. أسباب قيام الثورة
9. مجلس قيادة الثورة
10. العلاقة مع الأحزاب السياسية
11. البيان الأول
12. شكل الحكم بعد الثورة
13. زمن تنفيذ الثورة
14. العلاقة مع الانكليز
ففيما يتعلق ببداية التنظيم يتفق كل الضباط الأحرار على أن سنة 1952 كانت المحطة الأولى في ظهور أول خلية في الجيش العراقي أخذت على عاتقها العمل من اجل إسقاط النظام الملكي. يقول عبد السلام محمد عارف: أن عام 1952 جاء يحمل معه بشائر التحرير العربي على ارض مصر حين قامت الثورة التي كانت محفزة لباقي المخلصين فقد اخذ الإحساس يسري داخل صفوف الجيش في العراق ومفاده أن أبناء الجيش هم من أبناء الشعب وعليهم دور طليعي لابد أن يؤدوه.
أما صبيح علي غالب فيذكر : بان المقدم رجب عبد المجيد فاتحه في أواخر 1952 وتحدث معه عن ((جهود رفعت الحاج سري في جمع عدد من الضباط الذين يثق بهم في منطقة سرية ثورية تعمل على قلب نظام الحكم)).
ويذهب محسن حسين الحبيب إلى أن بعض الضباط بدأوا ((يفكرون في هذا الأمر، وكان لنجاح ثورة 23 يوليو_ تموز في مصر أثر كبير في تفكيرهم وفي اندفاعاتهم للتهيئة للثورة)) ويضيف: (بدا التفكير الجدي في هذه القضية عام 1952 من قبل بعض الضباط) . ويشير عبد الكريم فرحان إلى أن عام 1952 لم يكن ينتهي حتى بدأت الاجتماعات تعقد هنا وهناك بين الأصدقاء ورفاق السلاح تقاربت أعمارهم، فدار حوار طويل ثم تألفت أول خلية في الجيش العراقي .. وهكذا بدا تنظيم الضباط الأحرار الذي اقتصر على الأصدقاء في أول الأمر .. ومضى .. يسير بأناة وبطء وحذر.
أما صبحي عبد الحميد فيقول: (( بأن منظمة الضباط الأحرار انبثقت في شهر أيلول عام 1952))، وينقل عن رجب عبد الحميد قوله(( انه تفاتح مع المرحوم رفعت في موضوع إقامة تنظيم سري عسكري بعد ثورة 32 تموز 1952 في مصر مباشرة)). ويذكر جاسم كاظم العزاوي (بان منظمة الضباط الأحرار ... انبثقت وبسرعة .. في ثكنة الهندسة العسكرية بمعسكر الرشيد .. وكان ذلك في شهر تشرين الأول عام 1952 ) .
واتفق كل أصحاب المذكرات الشخصية من الضباط الأحرار على أن المقدم رفعت الحاج سري هو أبو التنظيم ... وان إنشاء التنظيم كان بمبادرة شخصية منه، لكن هذا الاتفاق في الرأي حول ريادة رفعت الحاج سري لم يمنع البعض من أصحاب المذكرات القول بوجود أكثر من كتلة تعمل من اجل الإطاحة بالحكم الملكي .. فعبد السلام عارف يشير إلى وجود كتلتين للضباط الأحرار ، وان الهيئة العليا لتنظيم الضباط الأحرار تشكلت من اندماج الكتلتين ، ويضيف :(( أن الضباط الأحرار وجدوا بان مجرم قيام كتلتين أو تشكيلين داخل الجيش يهدد سلامة أي عمل يقوم به أي منهما .. وفي نفس الوقت تشتيت للجهد وإضاعة للوقت)).
أما صبيح علي غالب فيؤكد وجود عدة خلايا للضباط الأحرار داخل صفوف الجيش، ولكنه يقول: بان التنظيمين الرئيسين هما التنظيم الذي كان يقوده الزعيم العميد الركن عبد الكريم قاسم والتنظيم الذي كان يقوده رفعت الحاج سري، وان اتفاقا تمت مناقشته في احد اجتماعات كتلة المقدم رفعت ، ينص على مفاتحة عبد الكريم قاسم على الانضمام إلى كتلة رفعت الحاج سري، وكان ذلك في أوائل آذار سنة 1956.
وبشان اللجنة العليا فقد ذكر أصحاب المذكرات بأنها بدأت بثمانية ضباط ثم اتسمت لتصبح في فترة ماقبل تفجير الثورة مؤلفة من (15) عضواً. ويذكر محسن حسين الحبيب بأن (اللجنة العليا للضباط الأحرار ) تشكلت في كانون الأول عام 1956 على النحو التالي :
1. العقيد الركن محي الدين عبد الحميد
2. العقيد الركن ناجي طالب
3. العقيد الركن محسن حسين الحبيب
4. المقدم المهندس رجب عبد المجيد
5. المقدم وصفي طاهر
6. المقدم الركن عبد الكريم فرحان
7. الرئيس الأول الركن صبيح علي غالب
8. الرئيس الأول الطيار المتقاعد محمد سبع
ولقد اقترح المقدم رجب ، أن ينضم المقدم رفعت الحاج سري إلى اللجنة رغم انه لم يحضر الاجتماع لأنه نقل خارج بغداد، فتمت الموافقة على الاقتراح بالإجماع.
وقبيل قيام ثورة 14 تموز 1958، بقليل أصبح عدد أعضاء اللجنة العليا (15) خمسة عشر ضابطا وهم:
1. الزعيم العميد الركن عبد الكريم قاسم
2. العقيد الركن عبد السلام عارف
3. العقيد الركن محي الدين عبد الحميد
4. العقيد الركن ناجي طالب
5. العقيد الركن محسن حسين الحبيب
6. العقيد الركن عبد الوهاب الأمين
7. العقيد الركن عبد الوهاب الشواف
8. العقيد الركن صبيح علي غالب
9. العقيد المهندس رجب عبد المجيد
10. العقيد طاهر يحيى
11. العقيد عبد الرحمن عارف
12. المقدم الركن عبد الكريم فرحان
13. المقدم وصفي طاهر
14. المقدم رفعت الحاج سري
15. الرائد الطيار المتقاعد محمد سبع
يقول عبد السلام عارف أن الهيئة العليا تشكلت بعد دمج الكتلتين المشار اليهما أعلاه من رفعت الحاج سري، ناجي طالب، محمد سبع، طاهر يحيى، عبد الوهاب الأمين، عبد الكريم فرحان، رجب عبد المجيد، محي الدين عبد الحميد ، عبد الوهاب الشواف، محسن حسين الحبيب، صبيح علي غالب، وصفي طاهر، عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف. ويتضح من القائمة انه اسقط اسم شقيقه عبد الرحمن عارف مع العلم انه يشير الى حضوره اجتماع دمج الكتلتين . اما محسن حسين الحبيب فيسقط اسم العقيد الركن عبد الوهاب الشواف ويورد عبد الكريم فرحان أسماء عشرة من الضباط قال عنهم بأن اللجنة العليا تألفت في أول الأمر منهم وهم : محي الدين عبد الحميد، ناجي طالب، محسن حسين الحبيب، عبد الوهاب الأمين، رجب عبد المجيد، رفعت الحاج سري، عبد الكريم فرحان، وصفي طاهر، صبيح علي غالب، محمد سبع، ثم انضم عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، طاهر يحيى، عبد الرحمن عارف، إلى الهيئة العليا. أما بشان العضو الخامس عشر وهو عبد الوهاب الشواف، فيقول عبد الكريم فرحان" بأن نشاطه قد جمد فألف كتلة من الضباط عرفت باندفاعها وعدم تقيدها والتزامها. ويذكر جاسم كاظم العزاوي في مذكراته ((ان عبد الوهاب الشواف، قد ادخل الى عضوية اللجنة العليا في وقت متأخر جدا وبعد محاولة فاشلة لتفجير الثورة يوم 11 آيار 1958 لكبح اندفاعاته)).
وبصدد انضمام عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف فأن هناك اتفاقا على انهما دخلا الهيئة العليا في تشرين الثاني 1957، وان اللجنة العليا بقيادة رفعت الحاج سري اقترحت ضم عبد الكريم قاسم لكونه احد أمراء تشكيل قتالي مهم وانضمامه يؤدي الى توسيع الحركة وقد يعجل في تنفيذ خطة الثورة.. وتعهد وصفي طاهر بمفاتحته.
أما عبد السلام عارف فقد احضره قاسم إلى احد الاجتماعات خلافا للاتفاق الذي كان سائدا بين الضباط الأحرار والقائم على عدم انضمام أي عضو جديد إلى الحركة مالم يطرح اسمه من قبل الأعضاء وعلى أن يجري قبوله بإجماع الآراء ويخبر بذلك بواسطة العضو الذي رشحه وقد ساد الاجتماع الذي احضر فيه قاسم ، عبد السلام عارف جو من الوجوم، لذلك اخذ قاسم يمدح عارف ويزكيه للانضمام الى الهيئة العليا ويبدي ثقته فيه فقبل طلبه وجرت عملية أدائه اليمين.
وتحدث عدد من الضباط عن (اللجنة البديلة)، وأطلق عليها البعض منهم (اللجنة الوسطية) او (اللجنة العليا البديلة) . فقد أشار محسن حسين الحبيب إلى أن بعضا من ضباط الركن الذين تخرجوا حديثا من كلية الأركان قد انضموا إلى الحركة... ومن هؤلاء الضباط الرئيس الأول الركن صبحي عبد الحميد و الرئيس الأول الركن جاسم كاظم العزاوي و الرئيس الركن صالح مهدي عماش . وفي أحد اجتماعات اللجنة العليا تقرر " أن تشكيل من هؤلاء الضباط لجنة عليا بديلة (احتياطية ) تقوم هي بإتمام العمل فيما إذا حصل مايمنع اللجنة العليا الأصلية من ذلك ، ولأنهم كانوا جميعا في بغداد مما يسهل عليهم الاجتماع والتشاور.
ويذكر صبحي عبد الحميد أن عبد السلام عارف أخبر عددا من أعضاء اللجنة البديلة بوجود خلافات بين أعضاء اللجنة العليا حول موعد الثورة ، وان اللجنة العليا قد قررت حل نفسها، وانه اتفق مع عبد الكريم قاسم على تأليف لجنة جديدة يشترك فيها أعضاء من الحلقة الوسطية وكتلة الشواف _رفعت ، ولكن رجب عبد الحميد نفى حل اللجنة العليا . ويضيف صبحي عبد الحميد الى ذلك قوله أن عبد السلام عارف اجتمع مع عدد من ضباط الحلقة البديلة في 12 حزيران 1958، واتفق الجميع على تأليف لجنة جديدة تأخذ على عاتقها تفجير الثورة.
وذلك على النحو التالي:
عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، وعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وثلاثة من أعضاء الحلقة الوسطية وقد ثيتت هذه اللجنة الأهداف العامة للثورة ، وخطة التنفيذ وموعده ، ويورد صبحي عبد الحميد تفاصيل الأهداف والخطة التي وضعها عدد من أعضاء اللجنة الوسطية وسلمت الى عبد السلام عارف الذي درسها وقاتل بان (تفكير عبد الكريم قاسم منسجم معها....) وفي اواخر حزيران 1958 ، يقول صبحي عبد الحميد ان عبد السلام عارف اخبرهم بصدور الأوامر بتحرك اللواء العشرين إلى الأردن في أواسط شهر تموز وانه اتفق مع عبد الكريم قاسم على استغلال هذه الفرصة وتنفيذ الثورة.
ويضيف صبحي عبد الحميد إلى أن عبد السلام عارف اجتمع يوم 10 تموز مع عدد من أعضاء الحلقة الوسطية الموجودين في بغداد، ومنهم جاسم كاظم العزاوي ومحمد مجيد عبد الستار عبد اللطيف، وابلغهم بتفاصيل الخطة ووزع عليهم الواجبات، وطلب منهم أن يقسموا على أن لايخبروا أي شخص غيرهم بالثورة ماعدا ضباط خلاياهم، وهؤلاء يجب تبليغهم ليلة 13/14 تموز . وقد رجوه أن يخبر أعضاء اللجنة العليا.. فلم يوافق.
تحدث الضباط الأحرار في مذكراتهم عن أهداف الثورة، وقال بعضهم أن اللجنة العليا لم تكن قد سطرت هذه الأهداف بتفاصيل وافية، فكل ما حدث أنهم ركزوا في عدد من اجتماعاتهم على نقاط قليلة أبرزها أن يعملوا على إسقاط النظام الملكي القائم بأية وسيلة كانت ، وإقامة النظام الجمهوري المبني على أساس الديمقراطية البرلمانية ،وضمان الحرية، وتحقيق المصالح الوطنية،واحترام حقوق الإنسان العالمية . لكن عبد السلام عارف يورد في مذكراته برنامجا كانت الثورة تريد تحقيقه ويتضمن خمس نقاط هي:
1. تصفية القواعد الرجعية والاستعمارية
2. تدعيم الجيش
3. إرساء القواعد التي تمكن الشعب من ان يحكم نفسه بنفسه
4. تحقيق الإصلاح الزراعي
5. إعلان الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.
أما محسن حسين الحبيب فيلخص الأهداف بأنها العمل على الغاء النظام الملكي ، والقضاء على الإقطاع، والتقارب مع الجمهورية العربية المتحدة والخروج من حلف بغداد وإتباع سياسية الحياد الايجابي. ويعترف بان اللجنة العليا لم تدخل في تفاصيل النقاش حول الأهداف ولا في كيفية تنفيذها , بل كان للبعض رأيهم الخاص حول قسم منه ولكن الأكثرية كانت متفقة على تلك الأهداف الرئيسية.
أما عن أسباب قيام الثورة ، فيتفق أصحاب المذكرات بأنها ترجع إلى ظروف العراق السيئة ، وفشل ثورة 1941 ضد الانكليز والسلطة الحاكمة وما حصل في فلسطين سنة 1948، ثم قدرة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 على إسقاط حكم الملك فاروق. ويضيف البعض إلى ذلك عجز الأحزاب السياسية في العراق عن أن تحقق المطالب الوطنية والأماني القومية بوسائلها التقليدية .
وبشأن تشكيل مجلس قيادة الثورة ، فان هناك اتفاقا بين الضباط الأحرار الذين كتبوا مذكراتهم وأشاروا إلى أن الشكل الذي تصورته اللجنة العليا للوضع السياسي في العراق بعد نجاح الثورة كان يقوم على أساس نقطتين مهمتين أولهما : تشكيل مجلس قيادة الثورة من أعضاء اللجنة العليا ليتولى مهام السلطة التشريعية ريثما يتم إجراء انتخابات نيابية . وثانيهما : تأليف مجلس للسيادة يتولى مهمة رئيس الجمهورية ويكون ذلك بصورة مؤقتة إلى أن يتفق على إجراء انتخاب رئيس الجمهورية .
ويشير البعض إلى أن الضباط الأحرار اتفقوا على اتفقوا على أن لايدخل أي ضابط كوزير في الحكومة المدنية التي ستتألف بعد نجاح الثورة، ويشرف عليها مجلس قيادة الثورة ، وانه بعد انتهاء فترة الانتقال يعود أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى ثكناتهم ومن يريد الاشتغال بالسياسة عليه أن يستقيل من الجيش واتفق أعضاء اللجنة العليا على التخلص من عبدالاله ونوري السعيد والملك فيصل الثاني.
كان هناك اتصال بين الضباط الأحرار والأحزاب السياسية السرية والعلنية . وقد أكد معظم أصحاب المذكرات على وجود ذلك الاتصال وقالوا : أن اللجنة العليا بعد تشكيلها اختارت رجب عبد المجيد سكرتيرا لها وخولته في الاتصال بالساسة المدنيين.
أما البيان الأول للثورة ، فقد وضع عبد السلام عارف مسودته، وقام عبد الكريم قاسم بتصحيح المسودة وإضافة بعض العبارات إليه. وعندما صدر وقع بأسم "القائد العام للقوات المسلحة الوطنية بالنيابة " لكن" كلمة النيابة " ،رفعت بعد ذلك بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم .
ويذكر جاسم كاظم العزاوي انه لم يظهر أي دليل على انفراد احدهما بوضع صيغة البيان الأول. وبصدد القضية المتعلقة بزمن تنفيذ الثورة ، فقد أكد صبحي عبد الحميد أن اللجنة العليا درست ذلك أكثر من مرة ، وجرت محاولات عديدة للتنفيذ لكنها فشلت لأسباب مختلفة، وكانت الفكرة الرئيسية التي يدور حولها النقاش تقوم على أساس انتهاز فرصة مرور احد الألوية العسكرية المؤيدة للضباط الأحرار ببغداد ، وقد اخبر عبد السلام عارف ضابط الحلقة الوسطية في أواخر حزيران سنة 1958 على انه قد اتفق مع عبد الكريم قاسم على استغلال فرصة تحريك اللواء العشرين ، وكان يعمل أمرا لأحد أفواجه إلى الأردن في أواسط تموز لتنفيذ الثورة. ويعقب صبحي عبد الحميد على ذلك قائلاً: يبدو أن عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم قررا الانفراد بالتنفيذ ومن ثم الحكم بعد، أما عبد الكريم فرحان فقد أشار إلى أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف تعمدا عدم أخبار اللجنة العليا بعزم اللواء العشرين على احتلال بغداد.. وأصر على كتمان الأمر... لذلك توزعت المناصب الخطيرة والمراكز القيادية المهمة بين الاثنين " بعد نجاح الثورة" وعبد الكريم قاسم أصبح رئيسا للوزراء وقائدا للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع وعبد السلام عارف غدا نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية ونائبا للقائد العام .. لقد انتصر ومن حق المنتصر أن يستولي على الغنائم دون منازع!!.
وغاب عن ذهننا ان الثورة حصيلة جهد طويل وكفاح دائم وعمل دؤوب استغرق عدة سنوات . وحين طلب من عبد السلام عارف تشكيل مجلس قيادة الثورة قال بالحرف الواحد : (( كيف نعمل مجلس قيادة من الضباط الذين كانوا نائمين بجوار زوجاتهم حين نفذنا الثورة ، وإذا أصروا على تشكيل مجلس قيادة الثورة أشكله من ضباط فوجي الثالث في اللواء العشرين أمثال المقدم فاضل محمد علي، والرائد بهجت سعيد ، ولما تحرج موقف عبد السلام عارف مع عبد الكريم قاسم، بعد ذلك، دعا إلى تأليف مجلس قيادة الثورة ولكن بعد فوات الأوان)) .
تبقى قضية مهمة وهي ماقيل عن وجود علاقة للانكليز بالثورة ومن خلال قراءة مذكرات الضباط الأحرار ، لم نجد أية إشارة أو تلميح لوجود مثل هذه العلاقة.
_6_
في ضوء المبادئ التي قررتها اللجنة العليا منذ تأسيسها وأبرزها عدم استعمال الكتابة والاعتماد على الكلام الشفهي، وفي ضوء عدم توفير معلومات تفصيلية مدونة عن تشكيل الضباط الأحرار سواء كانوا من أعضاء اللجنة العليا أو اللجنة البديلة مصادر أولية لايمكن لأي مؤرخ تجاهلها، لأي سبب من الأسباب فلولا ماورد فيها من معلومات لضاعت الكثير من الحقائق المتعلقة بفترة التحضير للثورة أو مابعدها . ومع هذا تقتضي متطلبات البحث التاريخي اخذ المعلومات التي توردها المذكرات الشخصية بنوع من الحذر والسعي باستمرار لمقارنتها مع غيرها من المعلومات الموجودة في وثائق ومصادر أخرى ومنها مثلا وثائق وزارة الدفاع ووثائق مديرية الأمن العامة. كما أن مااورده عدد من الضباط الأحرار من خلال المقابلات الشخصية مع الباحثين ، أو في ندوة آفاق عربية يعد مصدرا مهما يمكن الوثوق به بعد تدقيقه ومقارنته مع أكثر من مصدر واحد . وبهذه المناسبة ندعو الضباط الأحرار الذين لايزال عدد منهم على قيد الحياة إلى الإسراع بكتابة مذكراتهم أو الإدلاء بما لديهم من معلومات عن الثورة وملابساتها وعلى الضباط الذين قرروا التزام الصمت ، الخروج عن صمتهم والإسهام مع زملائهم ورفاقهم في السلاح في حركة التاريخ لهذا الحدث المهم فما لديهم من معلومات ليست ملكهم وحدهم بل ملك الأجيال والكتابة في هذا الموضوع ليس ضرورة علمية بحتة ، بل ضرورة وطنية قومية.
لقد كشفت لنا المذكرات الشخصية للضباط الأحرار جملة من الحقائق لعل من أبرزها ماياتي :
1. إن التشابه أو الاختلاف في رواية أو صف بعض الأحداث يعود إلى درجة إسهام صاحب المذكرات في الحدث ، أو قربه من مصدر القرار.
2. إن المذكرات عكست لنا شخصية قادة الثورة ورأي بعضهم بالبعض الآخر ، فمع أن الكل اتفق على أن رفعت الحاج سري هو مؤسس الحركة وأبوها الروحي حتى أنهم وصفوه بالشيخ فان هناك عددا من الضباط الأحرار أعطوا آراء مختلفة معظمها سلبي حول شخصية كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
لم تكن الثورة التي وقعت صبيحة 14 تموز 1958، حدثا بسيطا في العراق والوطن العربي كله. ولم تكن هذه الثورة من فراغ، بل كانت حصيلة نضال طويل، وشاق ، من اجل التحرير والاستقلال، والتخلص من الظلم والعبودية. ما لبثت أن انحرفت وتحولت إلى نظام دكتاتوري يميني إقليمي، وان هو احتفظ بالسمات العامة للحكم الوطني.
وفوق هذا وذاك، فهي ثورة، استطاعت أن تقلب موازين القوى في (منطقة الوطن العربي ودول الجوار). كما أنها اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تعيد النظر في ترتيبها ومخططاتها. ولقد أشار إلى شي من هذا القبيل (اندرو تولي) حينما قال :(( إن الثورة العراقية كانت مفاجأة مذهلة للحكومة الأمريكية)) ، إلى درجة أن (وليم فولبرايت) رئيس لجنة العلاقات استدعى (الن دالاس) مسؤول المخابرات للتحقيق معه، ((منعا لكوارث مماثلة للثورة العراقية ، على حد تعبيره يمكن إن تلحق الإضرار الفادحة بالأمن الأمريكي وبأمن العالم)).
-2-
حظيت الثورة باهتمام واسع من لدن المؤرخين العراقيين والعرب والأجانب. فظهرت حولها منذ أيامها الأولى وحتى الأشهر الأخيرة (دراسات وبحوث) و(كتب). كما كتب بعض الضباط الأحرار مذكراتهم التي وثقوا فيها معلوماتهم وخواطرهم وذكرياتهم عن الثورة.
ويمكن القول أن تلك (المذكرات) تتسم بالأهمية ،والقيمة العلمية، كونها صادرة عن أناس كان لهم دور في صنع تاريخ الثورة من جهة، ولهم الفضل الأول في إنقاذ الجزء اليسير من المعلومات عنها من الضياع بتسجيلهم إياها من جهة أخرى. وسنحاول أن نلقي الضوء على بعض هذه المذكرات، ونقارن المعلومات الواردة في بعضها مع المعلومات الواردة في بعضها الآخر. وهدفنا الإجابة على سؤال مهم وهو : هل يمكن الاعتماد على المذكرات الشخصية لأولئك الضباط في تكوين صورة واضحة عن حقيقة ثورة 14 تموز 1958 وطبيعتها ؟ ، والى أي حد نجح الضباط الأحرار في أماطة اللثام عن تكوين(تنظيم) أو (منظمة) الضباط الأحرار؟ وما هي أهداف ذلك التنظيم ووسائله، وأساليبه في إسقاط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق. وقبل هذا لابد أن نقف عند أهمية (المذكرات الشخصية) وموقعها في الكتابة التاريخية المعاصرة.
-3-
لاينكر المؤرخون ، الدور المهم الذي تقوم به (الميول البشرية ،والعواطف، والأهواء الشخصية ،والنزوات الفردية) في التاريخ. ولئن وجدنا من بين المؤرخين من يركز على (القوى الطبيعية) أو (الدين)، فأن هناك مؤرخين يذهبون إلى أن (المؤثرات الاقتصادية) مثلاً لها الدور الاكبر . كما ان ثمة من فس الثورة على انه ليست الا صراع بين الاجيال جيل قديم متشبث بالسلطة وجيل ناهض يريد ان يكون له دور .وقد ظهر من بين المؤرخين من يوازن بين تأثير العوامل ويذهب الى تشابكها وقدرتها على خلق الاحداث . كما اخلى البعض من المؤرخين لدور المؤثرات الشخصية والذاتية في سير حركة التاريخ .
ومما يساعد على تقدير هذه الرؤية في الحركة التاريخية . الاطلاع على (المذكرات الشخصية) التي يكتبها بعض الرجال البارزين الذين اشتركوا في توجيه سياسة بلادهم سواء في المواقف الحاسمة، أو في المواقف الحرجة، أو في أوقات السلم والأحوال العادية.
ويذكر المؤرخ المصري علي أدهم : (بان بعض المذكرات السياسية تظهر في صورة تراجم ذابلة، يكتبها السياسيون عن تجاربهم، وحوادث حياتهم، أو في القيام بمهام الدولة وتصريف شؤونها)، وينقل عن المؤرخ البريطاني (كوج) قوله: ( إن التراجم ذاتها من اقرب أنواع الأدب وأقواها جاذبية ومعظم الناس يحبون التحدث عن أنفسهم ، وما فعلوه وما حاولوا فعله). ومن مأثور الأقوال عند الرومان: ( لن أموت موتا كاملاً) . وهذا المثل يعكس رغبة الإنسان في أن تكون له حياة أطول من حياته المتاحة، وهكذا تكون المذكرات أو التراجم الذاتية بمثابة احتجاج إنساني على حدود الزمان والمكان التي لامحيض عنها، ومحاولة لإيجاد علاقة بالمستقبل الذي لانراه، وهي محاولة مثيرة للعطف ومنطوية على الكبرياء في الوقت ذاته.
وثمة مسألة لابد من الإشارة إليها في هذا المجال، وهي أن كتاب المذكرات ،يحاولون تسجيل التاريخ من وجهة نظرهم الذاتية، بالرغم مما في هذا من عيوب، فان هذا التسجيل يسهم في الكشف عن (كثير من الأسرار) ويعين المؤرخ على ((فهم الكثير من البواعث والنيات الكامنة وراء الحوادث التاريخية التي لا يمكن ان يجدها المؤرخ في كتب التاريخ الاعتيادية)). وللمذكرات الشخصية عيوب أخرى، أبرزها أن كاتبها يجد صعوبة شديدة في التخلص من أهوائه ونزعاته الخاصة، فكثيرا مانجد انه يجعل من نفسه (محورا) للإحداث وقد يشوب مايرويه من الأحداث، محاولته لتبرير أفعاله ، او كتمان بعض الأحداث ، والإضافة، إليها أو المبالغة في أهميتها، وقد أشار احد كتاب التراجم إلى عيب أخر كثيرا مايعرض لكتاب المذكرات، وهذا العيب هو النسيان وخيانة الذاكرة، ذلك ان أكثر المذاكرات يكتبها أصحابها وهم في خريف حياتهم وبعد انسحابهم من ميادين العمل أو السياسة وابتعادهم عن الوثائق والمراجع والأسانيد التي تؤيد روايتهم، وتدعم صحة حديثهم وقد يكون صاحب المذكرات أمينا مخلصا صادقا الحديث ولكن تنقصه مع ذلك القدرة على التحليل والاستقصاء وربما كانت المذكرات التي يبذل كاتبها الجهد في الظهور بمظهر الشاهد النزيه والقاضي العادل اشد خطرا في سوية التاريخ ، وتضليل المؤرخين من المذكرات التي تظهر فيها ميول الكاتب ونزعاته واضحة صارخة فقد يتوارى التحيز الشديد وراء التظاهر بالأمانة والموضوعية.
إن أكثر المذكرات الشخصية دقه وأقربها الى الحقيقة هي تلك المذكرات التي يدونها صاحبها في وقت وقوع الأحداث وليس بعد مضي وقت طويل عليها وبديهي أن مرور الوقت بين كتابة المذكرات ووقوع الأحداث ليس كافيا للقضاء على نوازع صاحب الأحداث بعد وقوعها حسنات فان هناك سيئات فالانطباع الأول عن الحادث او عن الشخص ليس بالضرورة هو الانطباع الصحيح ففي غمرة ممارسة السياسية اليومية او الحدث اليومي كثيرا مايؤدي تركيز الملاحظة على الأشخاص والجزيئات والحوادث الآنية إلى عدم رؤية الصورة العامة التي تشكلها الجزيئات والى عدم الالتفات إلى المعنى الصحيح والأعمق للحوادث وسلوك الأشخاص فيها.
ومهما يكن من أمر فان المؤرخ لايمكن أن يغفل أهمية المذكرات الشخصية وقيمتها عندما يروم ((إعادة تشكيل الحدث التاريخي كما وقع بالضبط)) ، ولكن لابد له أن يقارن ويوازن بين المعلومات الواردة فيها والمعلومات التي يجدها في المصادر الأخرى ومنها الوثائق والكتب والصحف وماشاكل.
4
إن من أقدم الذين نشرت مذكراتهم عن ثورة 14 تموز 1958 الرئيس العراقي الراحل عبد السلام محمد عارف . أما احدث من نشر مذكرات فهو جاسم كاظم العزاوي.والجدول التالي يبين أسماء بعض الضباط الأحرار الذين نشروا مذكراتهم وعناوين مذكراتهم وتواريخ نشرها وأماكنها :
الجدول يطبع
ويتضح من الجدول أعلاه أن أربعة من الضباط الأحرار الذين كتبوا مذكراتهم كانوا أعضاء في اللجنة العليا لتنظيم الضباط وهم :
1_ عبد السلام محمد عارف
2_ صبيح علي غالب
3_ محسن حسين الحبيب
4_ عبد الكريم فرحان
كما أن اثنين من أصحاب المذكرات وهما صبحي عبد الحميد وجاسم كاظم العزاوي، كانا من أعضاء (اللجنة الوسطية) أو (اللجنة البديلة). فهل ان ما كتبه بعض الضباط الأحرار يمثل كل الحقيقة عن التنظيم؟ والجواب بالنفي، ذلك أن هناك أشخاص كان لهم دورهم الفاعل في صنع الحدث لايزالون صامتين. كما أن البعض ممن أسهم في التخطيط للثورة أو تنفيذها قد أصبح في ذمة الخلود. وثمة كتابات أو ذكريات أخرى قدمها بعض الضباط الأحرار من خلال قنوات ووسائل عديدة منها (الندوة) التي نظمتها مجلة آفاق عربية ونشرت في كتاب حمل عنوان : ( الذاكرة التاريخية لثورة 14 تموز 1958) وطبع ببغداد 1987 .أو في المقابلات الشخصية التي أجراها مؤرخون أو طلبة دراسات عليا كما حدث عندما ألف المؤرخ الأستاذ الدكتور فاضل حسن كتابه (( سقوط النظام الملكي في العراق)) ومن قبله الأستاذ الدكتور مجيد خدوري في كتابه (العراق الجمهوري) ومن بعدهما الأستاذ الدكتور ليث عبد الحسن الزبيدي الذي قدم رسالته للماجستير بعنوان (ثورة 14 تموز 1958 في العراق) كما يمكن عد ما أصدره (العميد المتقاعد) خليل إبراهيم حسين الزوبعي وهو من الضباط الأحرار (من أعضاء اللجنة أو( الحلقة الوسطية) بعنوان:(موسوعة 14 تموز) من قبيل المذكرات الشخصية نظرا لأهمية ما تضمنته من معلومات وحقائق عن الثورة، وان لم تأخذ شكل المذكرات الشخصية.
وقد تضمنت المذكرات الشخصية للضباط الأحرار التي اعتمدنا عليها متابعة لقضايا عديدة لها صلة بالتفكير بالثورة والتخطيط لها ومن ثم تنفيذها ومن ابرز هذه القضايا:
1. بداية التنظيم
2. مؤسس التنظيم
3. عدد أعضاء اللجنة العليا
4. اللجنة البديلة
5. انضمام عبد الكريم قاسم
6. انضمام عبد السلام عارف
7. أهداف الثورة
8. أسباب قيام الثورة
9. مجلس قيادة الثورة
10. العلاقة مع الأحزاب السياسية
11. البيان الأول
12. شكل الحكم بعد الثورة
13. زمن تنفيذ الثورة
14. العلاقة مع الانكليز
ففيما يتعلق ببداية التنظيم يتفق كل الضباط الأحرار على أن سنة 1952 كانت المحطة الأولى في ظهور أول خلية في الجيش العراقي أخذت على عاتقها العمل من اجل إسقاط النظام الملكي. يقول عبد السلام محمد عارف: أن عام 1952 جاء يحمل معه بشائر التحرير العربي على ارض مصر حين قامت الثورة التي كانت محفزة لباقي المخلصين فقد اخذ الإحساس يسري داخل صفوف الجيش في العراق ومفاده أن أبناء الجيش هم من أبناء الشعب وعليهم دور طليعي لابد أن يؤدوه.
أما صبيح علي غالب فيذكر : بان المقدم رجب عبد المجيد فاتحه في أواخر 1952 وتحدث معه عن ((جهود رفعت الحاج سري في جمع عدد من الضباط الذين يثق بهم في منطقة سرية ثورية تعمل على قلب نظام الحكم)).
ويذهب محسن حسين الحبيب إلى أن بعض الضباط بدأوا ((يفكرون في هذا الأمر، وكان لنجاح ثورة 23 يوليو_ تموز في مصر أثر كبير في تفكيرهم وفي اندفاعاتهم للتهيئة للثورة)) ويضيف: (بدا التفكير الجدي في هذه القضية عام 1952 من قبل بعض الضباط) . ويشير عبد الكريم فرحان إلى أن عام 1952 لم يكن ينتهي حتى بدأت الاجتماعات تعقد هنا وهناك بين الأصدقاء ورفاق السلاح تقاربت أعمارهم، فدار حوار طويل ثم تألفت أول خلية في الجيش العراقي .. وهكذا بدا تنظيم الضباط الأحرار الذي اقتصر على الأصدقاء في أول الأمر .. ومضى .. يسير بأناة وبطء وحذر.
أما صبحي عبد الحميد فيقول: (( بأن منظمة الضباط الأحرار انبثقت في شهر أيلول عام 1952))، وينقل عن رجب عبد الحميد قوله(( انه تفاتح مع المرحوم رفعت في موضوع إقامة تنظيم سري عسكري بعد ثورة 32 تموز 1952 في مصر مباشرة)). ويذكر جاسم كاظم العزاوي (بان منظمة الضباط الأحرار ... انبثقت وبسرعة .. في ثكنة الهندسة العسكرية بمعسكر الرشيد .. وكان ذلك في شهر تشرين الأول عام 1952 ) .
واتفق كل أصحاب المذكرات الشخصية من الضباط الأحرار على أن المقدم رفعت الحاج سري هو أبو التنظيم ... وان إنشاء التنظيم كان بمبادرة شخصية منه، لكن هذا الاتفاق في الرأي حول ريادة رفعت الحاج سري لم يمنع البعض من أصحاب المذكرات القول بوجود أكثر من كتلة تعمل من اجل الإطاحة بالحكم الملكي .. فعبد السلام عارف يشير إلى وجود كتلتين للضباط الأحرار ، وان الهيئة العليا لتنظيم الضباط الأحرار تشكلت من اندماج الكتلتين ، ويضيف :(( أن الضباط الأحرار وجدوا بان مجرم قيام كتلتين أو تشكيلين داخل الجيش يهدد سلامة أي عمل يقوم به أي منهما .. وفي نفس الوقت تشتيت للجهد وإضاعة للوقت)).
أما صبيح علي غالب فيؤكد وجود عدة خلايا للضباط الأحرار داخل صفوف الجيش، ولكنه يقول: بان التنظيمين الرئيسين هما التنظيم الذي كان يقوده الزعيم العميد الركن عبد الكريم قاسم والتنظيم الذي كان يقوده رفعت الحاج سري، وان اتفاقا تمت مناقشته في احد اجتماعات كتلة المقدم رفعت ، ينص على مفاتحة عبد الكريم قاسم على الانضمام إلى كتلة رفعت الحاج سري، وكان ذلك في أوائل آذار سنة 1956.
وبشان اللجنة العليا فقد ذكر أصحاب المذكرات بأنها بدأت بثمانية ضباط ثم اتسمت لتصبح في فترة ماقبل تفجير الثورة مؤلفة من (15) عضواً. ويذكر محسن حسين الحبيب بأن (اللجنة العليا للضباط الأحرار ) تشكلت في كانون الأول عام 1956 على النحو التالي :
1. العقيد الركن محي الدين عبد الحميد
2. العقيد الركن ناجي طالب
3. العقيد الركن محسن حسين الحبيب
4. المقدم المهندس رجب عبد المجيد
5. المقدم وصفي طاهر
6. المقدم الركن عبد الكريم فرحان
7. الرئيس الأول الركن صبيح علي غالب
8. الرئيس الأول الطيار المتقاعد محمد سبع
ولقد اقترح المقدم رجب ، أن ينضم المقدم رفعت الحاج سري إلى اللجنة رغم انه لم يحضر الاجتماع لأنه نقل خارج بغداد، فتمت الموافقة على الاقتراح بالإجماع.
وقبيل قيام ثورة 14 تموز 1958، بقليل أصبح عدد أعضاء اللجنة العليا (15) خمسة عشر ضابطا وهم:
1. الزعيم العميد الركن عبد الكريم قاسم
2. العقيد الركن عبد السلام عارف
3. العقيد الركن محي الدين عبد الحميد
4. العقيد الركن ناجي طالب
5. العقيد الركن محسن حسين الحبيب
6. العقيد الركن عبد الوهاب الأمين
7. العقيد الركن عبد الوهاب الشواف
8. العقيد الركن صبيح علي غالب
9. العقيد المهندس رجب عبد المجيد
10. العقيد طاهر يحيى
11. العقيد عبد الرحمن عارف
12. المقدم الركن عبد الكريم فرحان
13. المقدم وصفي طاهر
14. المقدم رفعت الحاج سري
15. الرائد الطيار المتقاعد محمد سبع
يقول عبد السلام عارف أن الهيئة العليا تشكلت بعد دمج الكتلتين المشار اليهما أعلاه من رفعت الحاج سري، ناجي طالب، محمد سبع، طاهر يحيى، عبد الوهاب الأمين، عبد الكريم فرحان، رجب عبد المجيد، محي الدين عبد الحميد ، عبد الوهاب الشواف، محسن حسين الحبيب، صبيح علي غالب، وصفي طاهر، عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف. ويتضح من القائمة انه اسقط اسم شقيقه عبد الرحمن عارف مع العلم انه يشير الى حضوره اجتماع دمج الكتلتين . اما محسن حسين الحبيب فيسقط اسم العقيد الركن عبد الوهاب الشواف ويورد عبد الكريم فرحان أسماء عشرة من الضباط قال عنهم بأن اللجنة العليا تألفت في أول الأمر منهم وهم : محي الدين عبد الحميد، ناجي طالب، محسن حسين الحبيب، عبد الوهاب الأمين، رجب عبد المجيد، رفعت الحاج سري، عبد الكريم فرحان، وصفي طاهر، صبيح علي غالب، محمد سبع، ثم انضم عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، طاهر يحيى، عبد الرحمن عارف، إلى الهيئة العليا. أما بشان العضو الخامس عشر وهو عبد الوهاب الشواف، فيقول عبد الكريم فرحان" بأن نشاطه قد جمد فألف كتلة من الضباط عرفت باندفاعها وعدم تقيدها والتزامها. ويذكر جاسم كاظم العزاوي في مذكراته ((ان عبد الوهاب الشواف، قد ادخل الى عضوية اللجنة العليا في وقت متأخر جدا وبعد محاولة فاشلة لتفجير الثورة يوم 11 آيار 1958 لكبح اندفاعاته)).
وبصدد انضمام عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف فأن هناك اتفاقا على انهما دخلا الهيئة العليا في تشرين الثاني 1957، وان اللجنة العليا بقيادة رفعت الحاج سري اقترحت ضم عبد الكريم قاسم لكونه احد أمراء تشكيل قتالي مهم وانضمامه يؤدي الى توسيع الحركة وقد يعجل في تنفيذ خطة الثورة.. وتعهد وصفي طاهر بمفاتحته.
أما عبد السلام عارف فقد احضره قاسم إلى احد الاجتماعات خلافا للاتفاق الذي كان سائدا بين الضباط الأحرار والقائم على عدم انضمام أي عضو جديد إلى الحركة مالم يطرح اسمه من قبل الأعضاء وعلى أن يجري قبوله بإجماع الآراء ويخبر بذلك بواسطة العضو الذي رشحه وقد ساد الاجتماع الذي احضر فيه قاسم ، عبد السلام عارف جو من الوجوم، لذلك اخذ قاسم يمدح عارف ويزكيه للانضمام الى الهيئة العليا ويبدي ثقته فيه فقبل طلبه وجرت عملية أدائه اليمين.
وتحدث عدد من الضباط عن (اللجنة البديلة)، وأطلق عليها البعض منهم (اللجنة الوسطية) او (اللجنة العليا البديلة) . فقد أشار محسن حسين الحبيب إلى أن بعضا من ضباط الركن الذين تخرجوا حديثا من كلية الأركان قد انضموا إلى الحركة... ومن هؤلاء الضباط الرئيس الأول الركن صبحي عبد الحميد و الرئيس الأول الركن جاسم كاظم العزاوي و الرئيس الركن صالح مهدي عماش . وفي أحد اجتماعات اللجنة العليا تقرر " أن تشكيل من هؤلاء الضباط لجنة عليا بديلة (احتياطية ) تقوم هي بإتمام العمل فيما إذا حصل مايمنع اللجنة العليا الأصلية من ذلك ، ولأنهم كانوا جميعا في بغداد مما يسهل عليهم الاجتماع والتشاور.
ويذكر صبحي عبد الحميد أن عبد السلام عارف أخبر عددا من أعضاء اللجنة البديلة بوجود خلافات بين أعضاء اللجنة العليا حول موعد الثورة ، وان اللجنة العليا قد قررت حل نفسها، وانه اتفق مع عبد الكريم قاسم على تأليف لجنة جديدة يشترك فيها أعضاء من الحلقة الوسطية وكتلة الشواف _رفعت ، ولكن رجب عبد الحميد نفى حل اللجنة العليا . ويضيف صبحي عبد الحميد الى ذلك قوله أن عبد السلام عارف اجتمع مع عدد من ضباط الحلقة البديلة في 12 حزيران 1958، واتفق الجميع على تأليف لجنة جديدة تأخذ على عاتقها تفجير الثورة.
وذلك على النحو التالي:
عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، وعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وثلاثة من أعضاء الحلقة الوسطية وقد ثيتت هذه اللجنة الأهداف العامة للثورة ، وخطة التنفيذ وموعده ، ويورد صبحي عبد الحميد تفاصيل الأهداف والخطة التي وضعها عدد من أعضاء اللجنة الوسطية وسلمت الى عبد السلام عارف الذي درسها وقاتل بان (تفكير عبد الكريم قاسم منسجم معها....) وفي اواخر حزيران 1958 ، يقول صبحي عبد الحميد ان عبد السلام عارف اخبرهم بصدور الأوامر بتحرك اللواء العشرين إلى الأردن في أواسط شهر تموز وانه اتفق مع عبد الكريم قاسم على استغلال هذه الفرصة وتنفيذ الثورة.
ويضيف صبحي عبد الحميد إلى أن عبد السلام عارف اجتمع يوم 10 تموز مع عدد من أعضاء الحلقة الوسطية الموجودين في بغداد، ومنهم جاسم كاظم العزاوي ومحمد مجيد عبد الستار عبد اللطيف، وابلغهم بتفاصيل الخطة ووزع عليهم الواجبات، وطلب منهم أن يقسموا على أن لايخبروا أي شخص غيرهم بالثورة ماعدا ضباط خلاياهم، وهؤلاء يجب تبليغهم ليلة 13/14 تموز . وقد رجوه أن يخبر أعضاء اللجنة العليا.. فلم يوافق.
تحدث الضباط الأحرار في مذكراتهم عن أهداف الثورة، وقال بعضهم أن اللجنة العليا لم تكن قد سطرت هذه الأهداف بتفاصيل وافية، فكل ما حدث أنهم ركزوا في عدد من اجتماعاتهم على نقاط قليلة أبرزها أن يعملوا على إسقاط النظام الملكي القائم بأية وسيلة كانت ، وإقامة النظام الجمهوري المبني على أساس الديمقراطية البرلمانية ،وضمان الحرية، وتحقيق المصالح الوطنية،واحترام حقوق الإنسان العالمية . لكن عبد السلام عارف يورد في مذكراته برنامجا كانت الثورة تريد تحقيقه ويتضمن خمس نقاط هي:
1. تصفية القواعد الرجعية والاستعمارية
2. تدعيم الجيش
3. إرساء القواعد التي تمكن الشعب من ان يحكم نفسه بنفسه
4. تحقيق الإصلاح الزراعي
5. إعلان الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.
أما محسن حسين الحبيب فيلخص الأهداف بأنها العمل على الغاء النظام الملكي ، والقضاء على الإقطاع، والتقارب مع الجمهورية العربية المتحدة والخروج من حلف بغداد وإتباع سياسية الحياد الايجابي. ويعترف بان اللجنة العليا لم تدخل في تفاصيل النقاش حول الأهداف ولا في كيفية تنفيذها , بل كان للبعض رأيهم الخاص حول قسم منه ولكن الأكثرية كانت متفقة على تلك الأهداف الرئيسية.
أما عن أسباب قيام الثورة ، فيتفق أصحاب المذكرات بأنها ترجع إلى ظروف العراق السيئة ، وفشل ثورة 1941 ضد الانكليز والسلطة الحاكمة وما حصل في فلسطين سنة 1948، ثم قدرة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 على إسقاط حكم الملك فاروق. ويضيف البعض إلى ذلك عجز الأحزاب السياسية في العراق عن أن تحقق المطالب الوطنية والأماني القومية بوسائلها التقليدية .
وبشأن تشكيل مجلس قيادة الثورة ، فان هناك اتفاقا بين الضباط الأحرار الذين كتبوا مذكراتهم وأشاروا إلى أن الشكل الذي تصورته اللجنة العليا للوضع السياسي في العراق بعد نجاح الثورة كان يقوم على أساس نقطتين مهمتين أولهما : تشكيل مجلس قيادة الثورة من أعضاء اللجنة العليا ليتولى مهام السلطة التشريعية ريثما يتم إجراء انتخابات نيابية . وثانيهما : تأليف مجلس للسيادة يتولى مهمة رئيس الجمهورية ويكون ذلك بصورة مؤقتة إلى أن يتفق على إجراء انتخاب رئيس الجمهورية .
ويشير البعض إلى أن الضباط الأحرار اتفقوا على اتفقوا على أن لايدخل أي ضابط كوزير في الحكومة المدنية التي ستتألف بعد نجاح الثورة، ويشرف عليها مجلس قيادة الثورة ، وانه بعد انتهاء فترة الانتقال يعود أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى ثكناتهم ومن يريد الاشتغال بالسياسة عليه أن يستقيل من الجيش واتفق أعضاء اللجنة العليا على التخلص من عبدالاله ونوري السعيد والملك فيصل الثاني.
كان هناك اتصال بين الضباط الأحرار والأحزاب السياسية السرية والعلنية . وقد أكد معظم أصحاب المذكرات على وجود ذلك الاتصال وقالوا : أن اللجنة العليا بعد تشكيلها اختارت رجب عبد المجيد سكرتيرا لها وخولته في الاتصال بالساسة المدنيين.
أما البيان الأول للثورة ، فقد وضع عبد السلام عارف مسودته، وقام عبد الكريم قاسم بتصحيح المسودة وإضافة بعض العبارات إليه. وعندما صدر وقع بأسم "القائد العام للقوات المسلحة الوطنية بالنيابة " لكن" كلمة النيابة " ،رفعت بعد ذلك بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم .
ويذكر جاسم كاظم العزاوي انه لم يظهر أي دليل على انفراد احدهما بوضع صيغة البيان الأول. وبصدد القضية المتعلقة بزمن تنفيذ الثورة ، فقد أكد صبحي عبد الحميد أن اللجنة العليا درست ذلك أكثر من مرة ، وجرت محاولات عديدة للتنفيذ لكنها فشلت لأسباب مختلفة، وكانت الفكرة الرئيسية التي يدور حولها النقاش تقوم على أساس انتهاز فرصة مرور احد الألوية العسكرية المؤيدة للضباط الأحرار ببغداد ، وقد اخبر عبد السلام عارف ضابط الحلقة الوسطية في أواخر حزيران سنة 1958 على انه قد اتفق مع عبد الكريم قاسم على استغلال فرصة تحريك اللواء العشرين ، وكان يعمل أمرا لأحد أفواجه إلى الأردن في أواسط تموز لتنفيذ الثورة. ويعقب صبحي عبد الحميد على ذلك قائلاً: يبدو أن عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم قررا الانفراد بالتنفيذ ومن ثم الحكم بعد، أما عبد الكريم فرحان فقد أشار إلى أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف تعمدا عدم أخبار اللجنة العليا بعزم اللواء العشرين على احتلال بغداد.. وأصر على كتمان الأمر... لذلك توزعت المناصب الخطيرة والمراكز القيادية المهمة بين الاثنين " بعد نجاح الثورة" وعبد الكريم قاسم أصبح رئيسا للوزراء وقائدا للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع وعبد السلام عارف غدا نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية ونائبا للقائد العام .. لقد انتصر ومن حق المنتصر أن يستولي على الغنائم دون منازع!!.
وغاب عن ذهننا ان الثورة حصيلة جهد طويل وكفاح دائم وعمل دؤوب استغرق عدة سنوات . وحين طلب من عبد السلام عارف تشكيل مجلس قيادة الثورة قال بالحرف الواحد : (( كيف نعمل مجلس قيادة من الضباط الذين كانوا نائمين بجوار زوجاتهم حين نفذنا الثورة ، وإذا أصروا على تشكيل مجلس قيادة الثورة أشكله من ضباط فوجي الثالث في اللواء العشرين أمثال المقدم فاضل محمد علي، والرائد بهجت سعيد ، ولما تحرج موقف عبد السلام عارف مع عبد الكريم قاسم، بعد ذلك، دعا إلى تأليف مجلس قيادة الثورة ولكن بعد فوات الأوان)) .
تبقى قضية مهمة وهي ماقيل عن وجود علاقة للانكليز بالثورة ومن خلال قراءة مذكرات الضباط الأحرار ، لم نجد أية إشارة أو تلميح لوجود مثل هذه العلاقة.
_6_
في ضوء المبادئ التي قررتها اللجنة العليا منذ تأسيسها وأبرزها عدم استعمال الكتابة والاعتماد على الكلام الشفهي، وفي ضوء عدم توفير معلومات تفصيلية مدونة عن تشكيل الضباط الأحرار سواء كانوا من أعضاء اللجنة العليا أو اللجنة البديلة مصادر أولية لايمكن لأي مؤرخ تجاهلها، لأي سبب من الأسباب فلولا ماورد فيها من معلومات لضاعت الكثير من الحقائق المتعلقة بفترة التحضير للثورة أو مابعدها . ومع هذا تقتضي متطلبات البحث التاريخي اخذ المعلومات التي توردها المذكرات الشخصية بنوع من الحذر والسعي باستمرار لمقارنتها مع غيرها من المعلومات الموجودة في وثائق ومصادر أخرى ومنها مثلا وثائق وزارة الدفاع ووثائق مديرية الأمن العامة. كما أن مااورده عدد من الضباط الأحرار من خلال المقابلات الشخصية مع الباحثين ، أو في ندوة آفاق عربية يعد مصدرا مهما يمكن الوثوق به بعد تدقيقه ومقارنته مع أكثر من مصدر واحد . وبهذه المناسبة ندعو الضباط الأحرار الذين لايزال عدد منهم على قيد الحياة إلى الإسراع بكتابة مذكراتهم أو الإدلاء بما لديهم من معلومات عن الثورة وملابساتها وعلى الضباط الذين قرروا التزام الصمت ، الخروج عن صمتهم والإسهام مع زملائهم ورفاقهم في السلاح في حركة التاريخ لهذا الحدث المهم فما لديهم من معلومات ليست ملكهم وحدهم بل ملك الأجيال والكتابة في هذا الموضوع ليس ضرورة علمية بحتة ، بل ضرورة وطنية قومية.
لقد كشفت لنا المذكرات الشخصية للضباط الأحرار جملة من الحقائق لعل من أبرزها ماياتي :
1. إن التشابه أو الاختلاف في رواية أو صف بعض الأحداث يعود إلى درجة إسهام صاحب المذكرات في الحدث ، أو قربه من مصدر القرار.
2. إن المذكرات عكست لنا شخصية قادة الثورة ورأي بعضهم بالبعض الآخر ، فمع أن الكل اتفق على أن رفعت الحاج سري هو مؤسس الحركة وأبوها الروحي حتى أنهم وصفوه بالشيخ فان هناك عددا من الضباط الأحرار أعطوا آراء مختلفة معظمها سلبي حول شخصية كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2011/02/05/219829.html#ixzz2ztceCj9T
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق