الأربعاء، 12 يناير 2011

الندوة العمرية في الموصل


الندوة العمرية في الموصل
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل

     كان من أبرز مظاهر الحياة الأدبية والثقافية في الموصل ، الاهتمام الشديد بفتح الدور والمنازل لإقامة المجالس الأدبية والندوات العلمية في أوقات منتظمة . ولم تقتصر هذه الظاهرة على الموصل بل أن بغداد ومعظم المدن العربية الكبرى كانت تعج بهذه المجالس ولا يزال بعضها قائماً حتى يومنا هذا . ومن طريف ما كتب عن هذه المجالس ، مقال نشرته مجلة الرسالة المصرية بعـددها ( 782 ) الصـادر يـوم 21 شعبان 1367 ( 1948 ) وكتبه الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف وأعادت نشر مقتطفات منه مجلة الجزيرة (الموصلية) ، بعددها الصادر في الأول من آب 1948 0 جاء فيه : (( كانت منازل الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركتاه ، منزل للفحول في كل علم وفن يلتقون فيها كل ليلة او كل أسبوع فيتباحثون ويتجادلون ويسمرون ويضحكون ويذهبون في فنون القول مذاهب ... وكانت هذه المجالس هي مجال التفكير العلمي والأدبي والتدبير السياسي والاجتماعي وليس من شك ان هذه المجالس قد أثرت في حياتنا الفكرية ..)) . ويضرب الكاتب مثلاً على هذه المجالس فيشير إلى مجلس البكري ، ومجلس سليمان اباظة ومجلس الإمام محمد عبده ومجلس احمد تيمور ومجلس الاميرة نازلي فاضل وكان بعض هذه المجالس يسمى كذلك بـ(الصالون).
     ولقد اعتادت الاسر العلمية والثرية في الموصل عقد مجالس وندوات في بيوتها ولعل من ابرز هذه الندوات ( الندوة الغلامية ) التي أنشأها آل الغلامي وفي مقدمتهم محمد رؤوف الغلامي ، والندوة العمرية التي أسسها ( ناظم العمري ) في داره الكائنة في محلة السجن والقريبة من مدخل شارع الغزلاني . وكان من ابرز مرتادي هذه الندوة الاستاذ إبراهيم الواعظ والشعراء إسماعيل حقي فرج ، وذو النون الشهاب ، وعبد الخالق طه الشعار ، ونعمة الله النعمة . وكان ابراهيم الواعظ يشغل منصب رئيس محكمة استئناف الموصل. أما اسماعيل حقي فرج فكان مدرساً في المتوسطة الغربية وقد عمل ذوالنون شهاب مدرساً في اعدادية الموصل في حين شغل عبد الخالق طه الشعار منصب معاون مدير تسوية حقوق الاراضي بالموصل . وكان من أعضاء الندوة كذلك فضلاً عن صاحبها ناظم العمري كلا من محمد سعيد الجليلي ، الموظف في دائرة الكمارك في الموصل ، وايوب صبري الخياط مدرس الأدب العربي في إعدادية الموصل وآخرون .   

    انشغلت مجلة الجزيرة ، (أصدرها نادي الجزيرة بالموصـل والمؤسس في 18 نيسان 1936 )، بالندوة العمرية ونقلت بعض اخبارها ، وكان لها الفضل في تدوين آثار هذه الندوة وذكر نشاطاتها مما ساعدنا في تخصيص هذا الحيز من أوراقنا التاريخية لاستذكارها . ومما تذكره في هذا المجال ، إن الندوة فتحت أبوابها سنة 1948 ويتضح ذلك مـن خـلال مقال كتبـه ( أديب ) في مجلة الجزيرة ( السنة 3 ، العدد 28 آب 1948 ) وكان بعنوان : ( الندوة العمرية ) اشار فيه (( الى ان لمدينة الموصل تاريخاً حافلاً ولرجالها ايادي تجلت فيما اثر عنهم من اعمال وما دونوه من اقوال يستقي منها المؤرخ ويرتشف منها الاديب والعالم ... وفي الفترة التي مرت بين الحربين العالميتين كان الادب والعلم اخذين بالنمو والازدهار . وفي الموصل ندوات علمية وادبية لبعض وجهائها وفضلائها لا تقل عن ندوات البلدان العربية الاخرى تدار فيها الاحاديث الطلية وتنشد فيها القصائد وتجري المناظرات والمحاضرات الدالة على كمال الفضل ، وسعة العلم ، ورهافة الحس ، وسلامة الذوق . ومن هذه الندوات الكاملة النظام ، الجامعة للفضل واهله ، والنبل ومعشره ، والثقافة الشاملة واربابها ، الندوة العمرية لسعادة السيد ناظم العمري الذي ألف بين الاصفياء فجرت احاديثهم وادابهم منعشة كالصهباء )) . 
    أرخ اسماعيل حقي فرج للندوة التي اطلق عليها سوق عكاظ حساب الجٌمل ( 1367هـ = 1948م ) بقوله :
 جنة لكن عكاظاً سميت
         فيها اعيان ولكن دون عين
لم نزل تاريخها نقرؤه
         فأدخلوها بسلام أمـنــين
      نشطت الندوة في اقامة فعاليات ادبية وثقافية كثيرة وقامت مجلة الجزيرة بمتابعة هذه الفعاليات ومن ذلك مثلاً تنظيمها لمهرجان شعري باسم ( سوق عكاظ الندوة ) . كما اقامت حفلاً تابينياً لمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة الشاعر الكبير إسماعيل حقي فرج ( ولد سنة 1892 وتوفي مساء يوم الأربعاء 7 كانون الأول 1948 ) وفي الحفل الذي اقيم يوم 18 كانون الثاني 1949 القيت كلمات وقصائد أسهم فيها ابراهيم الواعظ وايوب صبري الخياط وذوالنون الشهاب وعبد الخالق طه الشعار ومحمد سعيد الجليلي وختم الحفل بكلمة موجزة من قبل صاحب الندوة ناظم العمري وكان ذلك بحضور نجل الفقيد عبد المنعم فرج ، وكان آنذاك طالباً في الصف الخامس من إعدادية الموصل وقد خصصت مجلة الجزيرة عدداً خاصاً لنقل وقائع الحفل التأبيني ( العدد 34 الصادر في ا شباط 1949 ).
      كانت تثار في الندوة العمرية مسائل أدبية وفكرية واجتماعية وكثيراً ما تحول المجلس الى مناظرة حـول الشـعر أوأوزانه والادب وفنونه والبلاغة ودروسها والتاريخ وأبوابه حتى أن الأستاذ محمود الجومرد كتب مقالة بعنوان:  ( الى أدباء الندوة العمرية ) في مجلة الجزيرة انتقد فيها طابع المديح الذي كان يطغى على القصائد الملقاة في الندوة قائلاً : (( عندما سمعت وسمع غيري بالندوة العمرية التي يرأسها الاستاذ الجليل ابراهيم الواعظ ويجمع شملها السيد ناظم العمري فرحتٌ وفرح غيري ، وكنا نترقب الانتاج والثمار ... وصرنا نقرأ ونرتئي آراء جديرة بان يعرفها شعراء الندوة ، لأنه انتاج لم يعد خاصاً بطبقة معروفة ما دام قد نشر للناس.. بدأت الندوة أعمالها بالمديح ... ثم استمر هذا الضرب من الأدب في الندوة ، ويظهر انه يستمر الى مالا نهاية ،، والبلد بحاجة الى ندوة يلقي فيها أساتذة الأدب دروساً ومحاضرات ومناظرات في آفانين الأدب وقواعـده ...)) . 
    ومن اطراف ماقيل في الندوة ، أن بعض شعرائها أرخ للقصر الذي شيده ناظم العمري سنة 1938 0 وتناول شاعر أخر ضـم ( كراج السيارة ) لبناية القصر وأثيرت الدعايات الشعرية من قبل الأستاذ الواعظ حول ( السيارة وباتريها )، وقصيدة الأستاذ إسماعيل حقي فرج لما هاج وماج لدفع الإحراج عن قصيـــدة ( الباتري والكراج ) وكانت مساجلة شعرية طريفة حوت ابياتاً فريدة ولم يكن ذلك غربياً على الشعر العربي، فهناك مثلاً ( الداريات ) وهي القصائد التي نظمت في عصر اديب زمانه الصاحب بن عباد عندما قام بتشييد دار جديدة له . واخيراً ألا يحق لنا أن ندعو إلى إحياء مثل تلك الندوات والمجالس الأدبية في موصلنا العزيزة.
*نشرت في جريدة الحدباء ( الموصلية ) العدد 955 الاثنين6 أيلول 1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ومساؤكم خير وعز

  ومساؤكم خير وعز والصورة في الشارع المؤدي الى دورة البكر وجامع محمد طاهر زيناوة-الجانب الايسر من مدينة الموصل التقطتها لكم ظهر اليوم الاثن...