الأحد، 2 يوليو 2023

الدكش في الموصل بقلم : ا.د.ابراهيم خليل العلاف

 



الدكش في الموصل

ا.د.ابراهيم خليل العلاف

أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

و(الدكش)  و( الجماعة إداكشوا ) ، هي حالة تنافس وعراك ومواجهة وقتال بين محلتين  وحالة الدكش كانت موجودة في مدينة الموصل في أواخر العثماني مطلع القرن العشرين وبدايات سنوات الخمسينات  من القرن الماضي .

كانت كل محلة تعتز بشبابها وتفاخر بهم وتستعرض فوتهم صباح مساء وكانت كل محلة في مدينة الموصل القديمة المسورة ذات الأبواب تعتبر مغلقة على أهلها ولا يسمح للغريب ان يدخلها الا بعد استئذان ومعرفة من يدخل حسبا ونسبا وعندما يرى الشباب شخصا غريبا يتقدمون اليه ليعرفوا من هو ويدققون في سبب دخوله محلتهم .

وتبعا لهذا السلوك كانت – كما قلت – كل محلة تفاخر بما عندها من الشباب والرجال الأقوياء أصحاب العضلات فضلا عن ما يتمتعون به من غيرة وشيمة وكبرياء وصدق. كانت العلاقات الاجتماعية أولية بمعنى ان كل رجل وكل شاب وكل فتاة عندما تسير في ازقة وعوجات ودرابين الموصل معروفين للجميع لذلك كان الناس كما نقول في العامية ( يُعيبون العيب) ونجدهم لايقومون بأي عمل شائن او مخالف للقيم والمبادئ والدين القويم .

اعود لأقول ان كلمة (الدكش) ، كلمة عربية فصيحة تعني (التبادل ) ودكش وداكش وداكشه الشيء أي بادله وقائضه وأيضا الدكش هو (ماثوغ التنوغ)  أي مايحرق به التنور حين يسجر وتلتهب ناره وغابا ما يقال ان الدكش امر غير مستحب لابل مكروه لان نتائجه وخيمة فقد ينجم عن تبادل القتال  إصابات من الطرفين وخاصة وان (المتداكشين ) يستخدمون العصي والحجارة التي تُرمى بما نسميه (الصبان) والصبان أي المقلاع .

يقول الأستاذ عبد الله أمين اغا في كتابه (محلة باب البيض الكبرى) وصدر عن مكتبة الجيل العربي في الموصل سنة 2004 ان ما كانت تتميز به محلة باب البيض ومحلات الموصل الأخرى ان العراك بين الصبيان كان امرا مألوفا او غير مستغرب وهو ان تسير وتتوجه مجموعة من هؤلاء للدخول في عراك مع صبيان محلة أخرى او زقاق آخر ضمن نفس المحلة كنوع من رد الاعتبار او الاخذ بالثأر لإهانة احدهم او اخذ حاجات منه وهو يسير غصبا عند مروره من محلتهم فتقوم جماعته بالهجوم على الاخرين واسترداد حقه . ومن الطريف ان وقت الهجوم والدكش يحدد بوقت معين وغالبا ما يتدخل العقلاء وكبار السن من المحلتين لإنهاء العراك  فيسود الهدوء وتطيب الخواطر ويرجع الجميع اخوة متحابين .

وطبيعي عادة الدكش زالت منذ سنوات بعيدة بعد ان قويت سلطة الدولة وتغيرت مفاهيم الناس وساد التعليم.

اما الأستاذ غانم محمد الحيو فيذكر في كتابه ( محلة الشيخ محمد الاباريقي)  ، وقد صدر سنة 2018 انه كثيرا ما كانت تحدث المشادات والعركات بين صبيان المحاليل (جمع محلة)  وهذه المشادات والعركات هي ما كان يُسمى (الدكش) وهو الاقتتال الجماعي عن بعد بالتراشق بالحجارة من خلال الصبان أي المقلاع والجطل وهو نوع من المقلاع توضع فيه خجرة صغيرة وتشد من خلال (الآستيك ) لتنطلق باتجاه الطرف الاخر وما يميز الدكش هو ارتفاع الأصوات ( والهوسات) وكان لكل محلة نخوتها وشعارها الخاص من قبيل ( احنا اهل الباغودجيي ويحدنا ايقيبل ميي) يعنى ( نحن أولاد محلة الشيخ محمد وهي نفسها البارودية كل شاب منا يقابل مائة منكم يامن تواجهوننا ) و ( احنا اهل تحت الداغ وسيوفنا تقدح ناغ) وتحت الدار أيضا من ضمن محلة الشيخ محمد والمعنى اننا اهل زقاق تحت الدار وسيوفنا تقدح نارا وشرارا . وهناك اهل الدكي وهم من اهل محلة الشيخ محمد الاباريقي ايضل لهم هوستهم (واحنا اهل الدكي ، وما كنكم فكي ) أي لا احدا يستطيع الفكاك منا . واهل الثلمه وهم من ضمن محلة الشيخ محمد الاباريقي يقولون في حالة الدكش ( احنا اهل الثلمي وما نقبل الغلبي ) وهكذا اهل محلة الباب الجديد لهم نخوتهم وشعرهم واهزوجتهم وهي :  (  احنا اهل باب اجديد وسيوفنا من حديد ) واهل محلة باب لكش يهزجون ( عل دكش دكش واحنا محلة باب لكش ) و(هاي محلتكم دسناها ) أي سيطرنا عليها .

وكما قلت يتدخل كبار السن والعقلاء فينهون هذه المخاصمات ويمثل الجميع من الصبيان وينسحبوا كل الى محلته .

لدينا اخبار ومدونات توثق  للدكش وقد استمر الدكش حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي لكنه لم يكن واسعا فمثلا اصدم صبيان محلتي الثلمة –أي محلة الشيخ محمد الاباريقي مع صبيان محلة التبي شيت والمحلتان متقاربتان مع بعضهما البعض وكانت مقابر باب لكش وهي مكان مبنى محافظة نينوى الذي هدم مؤخرا وتبنى بناية للبلدية محلة وخلال الدكش مرت سيارة تعود للقنصلية البريطانية فأُصيب السائق بشدخ في رأسه وتدخل القنصل محتجا وعد هذا عدوانا على بريطانيا العظمى وحضر الى مركز شرطة باب الجديد وطالب باعتقال الصبيان والاعتذار الرسمي للحكومة البريطانية وهبت نسوة المحلتين الى مركز الشرطة واصطدموا بالقنصل الذي تجاوز عليهن واعاب تربية اولادهن فردوا له الشتائم وجاء الرجال من قصابي وبقالي محلة باب الجديد الى المركز وهم يحملون السواطير (جمع ساطور) والسكاكين والعصي فقام مأمور المركز بغلق المركز والتفت الى القنصل ان يرى ما يحدث خارج المركز وانه لا يملك قوة توقف هؤلاء فإضطر القنصل البريطاني للتنازل عن الشكوى وافرج عن الصبيان وزغردت النسوة فرحا وطلب مأمور المركز ان يرفعن الحصار عن البناية وينسحب الجميع وبعد ان ساد الهدوء غادر القنصل البريطاني مركز الشرطة بحماية بعض افراد الشرطة وانتهى الامر .

2-7-2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدكتور فتحي عباس الجبوري والبعد اللبناني في المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة

  الدكتور فتحي عباس الجبوري والبعد اللبناني في المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - ج...