الأحد، 6 أكتوبر 2013

حمامات الموصل في العهد العثماني



حمامات الموصل في العهد العثماني
                
       أ.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس  –جامعة الموصل –العراق

     يرتبط انشاء الحمامات العامة وتطورها في المدن العربية والاسلامية، ومنها مدينة الموصل بأمرين اثنين: اولهما شروط الطهارة الواجبة في الدين الاسلامي. وثانيهما الوعي الواضح والاستجابة الحقيقية للحاجات الحضرية .. ومن الطبيعي فان تشييد الحمامات ، تعد عملية يتضح فيها اكثر مما يتضح في مؤسسات اخرى ، الاهتمام بالمصالح العامة للمواطنين. لهذا فقد كان   هناك العديد من الحمامات التي شيدت كمؤسسات وقفية ، شأنها في ذلك شأن المدارس ، والمساجد ، والجوامع ، والتكايا ، والسبيلخانات . وتتوفر لدينا العديد من الحجج الوقفية التي تشير الى قيام الاثرياء ، وابناء البيوتات المعروفة بانشاء الحمامات التي كان بعضها يقع بالقرب من الجوامع والمساجـد والخانات والاسواق .
   وتذكر المصادر المتداولة ان الموصل كانت تضم قبل سقوطها على يد المغول سنة 1260م (200) حمام للرجال و(200) حمام للنساء و(10) حمامات خاصة بالبنات الابكار. وقد عرف الموصليون باهتمامهم بالنظافة الى حد كبير ، كما حرصوا عبر تاريخهم على نظافة مدينتهم وتنسيقها والمحافظة على صحتهم وسلامة اجسامهم. هذا فضلا عن عنايتهم  بدورهم الخاصة، وقد جاء ذلك، كما يقول الاستاذ سعيد الديو ه جي، وهو مؤرخ موصلي معاصر معروف ، نتيجة لما تتمتع به الموصل من طقس جميل، ووفرة في الغذاء، مع رخص في الاسعار . وكان لموقع الموصل الجغرافي بين اقاليم متباينة جبلية وسهلية وصحراوية دور كبير في النشاط التجاري المتزايد وتدفق الثروة على سكانها .. ولاننسى انها تسمى ، لاعتدال مناخها وطيب هوائها وعذوبة مياهها ،( مدينة ام الربيعين).  ويشير نيقولا سيوفي في كتابه: ((مجموع الكتابات المحررة على ابنية الموصل)) والذي حققه ونشره استاذنا سعيد الديوجي في بغداد سنة 1956، ان الموصل كانت تعج  في العهد العثماني بالحمامات العامة ومعظمها موقوف على الجوامع والمساجد ويضرب على ذلك مثلا وهو ان من اوقاف جامع الباشا التي اوقفها محمد امين باشا الجليلي حمام شهيرة تعرف بحمام القمريةوالتي عرفت فيما بعد بحمام العطارين لانها تقع داخل سوق العطارين الشهير في الموصل . ويذكر المؤرخ الموصلي محمد امين العمري في الجزء الاول من كتابه ((منهل الاولياء)) ان عدد الحمامات في الموصل اواخر القرن الثامن عشركان  (20) حماما عاما ، اما الرحالة البريطاني جيمس بكنكهام الذي زار الموصل سنة 1820 فيذكر بان عدد حمامات الموصل يقدر بنحو (30) حماما . وقد اشار الرحالة هود A.Heudeفي كتابه الذي نشر سنة 1817 بعنوان : A voyage up (Arab) Gulf…    وقد زار الموصل في الفترة ذاتها بحمامات الموصل وقال ان حمامات الموصل تعد من ((أحسن ما رأيت فاغلبها مغطى بالرخام ، وهي في غاية اللطف والنظافة )) وكان نيبور الذي زار الموصل سنة 1766 قد انتبه للملاحظة نفسها فاشارفي كتابه رحلة نيبور الى العراق في القرن الثامن عشر والذي ترجمه الى العربية من الالمانية الدكتور محمود امين ونشر ببغداد سنة 1965 ، الى ان القسم الاعظم من حمامات الموصل ((جميل وخلاب)). وقد جاء في سالنامة الموصل (الكتاب السنوي الذي تصدره سلطات ولاية الموصل )لسنة 1892 الى ان في مدينة الموصل وحدها (36 )حماما للرجال وللنساء .اما سالنامة الموصل لسنة 1325 للهجرة 1907 للميلاد فاوردت معلومة تفيد بان في مدينة الموصل انذاك (17 ) حماما. وقد احصى الاستاذالحاج عبد الجبار محمد جرجيس، وهو باحث في تراث الموصل ومدير للمكتبة المركزية العامة في الموصل سنوات طويلة ، في مقالته الموسومة :((الحمامات الشعبية في الموصل))والمنشورة في مجلة التراث الشعبي (الغدادية ) سنة 1975، عدد حمامات الموصل في العصور العثمانية  المتاخرة ومطالع القرن العشرين فوجد انها (30 ) حماما  (7) ،لعل من ابرزها حمام قره علي وتقع في محلة الرابعية وتعود ملكيتها الى احمد بك الجليلي ، وحمام عبيد أغا وتقع في محلة امام عون الدين وتعود ملكيتها الى عبيد اغا بن الحاج صالح اغا الجليلي ، وحمام السراي وتقع في محلة باب السراي ، وحمام الشيخ عمر وتقع في محلة الشيخ عمر المولى وتعرف كذلك بحمام الصابونجي ، وحمام القشلة وتقع في محلة الدندان قرب الثكنة او القشلة العسكرية التي هدمت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي واقيم مكانها مستشفى الموصل العسكري ، وحمام العطارين وتقع في سوق العطارين وتسمى كذلك بحمام القمرية وهي وقف على جامع محمد امين بك الجليلي ويرجع تاريخ انشاءها ،كما يقول عماد غانم الربيعي في كتابه عن(( محلة باب السراي)) الذي نشره في الموصل سنة 2007 ،الى سنة 1755  وحمام القلعة وتقع في محلة الميدان وهي وقف على جامع النعمانية ومدرسة يحيى باشا الجليلي وقد انشات سنة 1700 ، وحمام المنقوشة وتقع في محلة الجامع الكبير (المنقوشة ) ، وحمام باب لكش وتقع في محلة باب لكش وهي وقف يعود الى الاسرة الجليلية التي حكمت الموصل بين سنتي 1726-1834 ، وحمام العمرية وتقع في محلة الباب الجديد وهي وقف يعود الى الاسرة العمرية ، وحمام باب البيض وتقع في محلة باب البيض وهو احد ابواب الموصل وتعد وقفا لجامع باب البيض  وحمام الخاتونية في محلة الخاتونية الحالية ، وحمام العكيدات وتقع في محلة العكيدات الحالية  ، وحمام دكة بركة وتقع في محلة عبدو خوب ومالكها الاصلي مصطفى جلبي الصابونجي وقد هجرت قبل فترة قصيرة وكانت تسمى بحمام بور سعيد  ، وحمام الاحمدية وتقع في محلة اليهود ومالكتها امراة اسمها خاتون خوقة او هكذا يسميها الناس ، وحمام التك وتقع في سوق البرذعجية  ، وحمام يونس وتقع في محلة سوق الشعارين ، وحمام العلا وتقع في سوق الصياغ (الصاغة) ، وحمام الزوية وتقع في شارع الفاروق  ، وحمام زرياب وتقع قرب جامع الخضر عليه السلام  ، وحمام آل حديد وتقع في محلة باب السراي بناها الحاج حسين جلبي حديد  وحمام الوداي وتقع في محلة الجولاق (الاوس او الساعة حاليا ) ، وحمام الصالحية وتقع في محلة باب السراي وتعود ملكيتها للاسرة الجليلية ويرجع تاريخ انشاءها الى سنة 1755 . وقد هدمت، للاسف الشديد ، معظم هذه الحمامات وانشأت على انقاض بعضها بنايات وحمامات حديثة لاتمت الى الحمامات السابقة بصلة . والملاحظ ان كثرة حمامات مدينة الموصل في العصر العثماني ، ترجع الى كونها مدينة تجارية يؤمها عدد كبير من التجار والرحالة الذين يحتاجون الى ارتيادها بعد اشهر طويلة من السفر في الطرق المعفرة .وفي مدينة لم يكن تعداد نفوسها يزيد آنذاك على الـ 300000 الف نسمة، فان عدد الحمامات يبدو مناسبا اذ ان هناك حمام واحدة  لكل 10 آلاف نسمة .
    وبشأن التركيب الداخلي للحمام الموصلي ، فانه لايختلف عن ما كانت عليه الحمامات الاخرى، ومنها حمامات القاهرة، ودمشق، وحلب ، فالحمامات عادة ما تبنى في مكان منخفض من الارض ولعل من اسباب ذلك هو الرغبة في المحافظة على حرارة المياه عند تسخينها في مكان يسمى ( البيدر الحار)أو العنبار وهي كلمة تركية تعني الخزان. وقد اشار نيقولا سيوفي في كتابه مجموع الكتابات المحررة في ابنية مدينة الموصل الى ان مسجد المعاضيد في الموصل كان يسمى كذلك جامع العنبار لانه يقابل عنبار الحمام التي كانت تسمى (حمام الجويجاتي )) ولم يكن لها اثر في الخمسينات من القرن  الماضي ومعنى هذا انها اندثرت وازيلت .والعنبار او البيدر الحار هو قدر كبير تنساب منه المياه الى الاحواض الموجودة داخل الحمام بواسطة الانابيب، وتسد الفتحات بقطع من الخشب اسطوانية الشكل ثم استبدلت هذه القطع بعد ذلك بالحنفيات. أما الماء البارد فيأتي من (البيدر البارد) ويوزع في الاحواض بالطريقة ذاتها . أما تصميم بناية الحمام فيكون مؤلفا من خمسة اقسام هي : (المدخل الرئيسي) , و (المشلح ويسمى في الشام بالقسم البراني)ثم ( منطقة ما بين البابين أي الوسطاني) و (الرواق (المستحم) أي (الجواني) ، وغرفة الدوا (غرفة الشعر) ، وهناك الى جانب ذلك الحجر الحارة والدائغ. ويجلس عند مقربة من المدخل الرئيسي صاحب الحمام ( الحمام جي) او وكيله ( الخلفة) . أما (المشلح) فهو المكان المخصص لنزع الملابس الخاصة بالزبون . ,أما منطقة ما بين البابين فهي عبارة عن حجرة تقع ما بين الباب الذي يؤدي الى الحمام والباب الذي يتصل بالمشلح. وفي داخل الحمام توجد مجموعة من الاروقة المتصلة من الاعلى بقبة، وتضم مواضع الاستحمام. وفي كل رواق حوض للماء فيه سبيلان أو حنفيتان احداهما للماء الحار والاخرى للبارد . ومعظم حمامات الموصل تحتوي على 4 ـ 5 اروقة . أما (غرفة الدوا) فهي غرفة صغيرة  يقوم المستحم فيها بازالة الشعر من مناطق معينة من جسمه باستخدام مادتي النورة والزرنيخ .وهناك قطعة من الحجر الحارة وغالبا ما تكون من رخام الموصل المعروف بـ (الحلان) تتوسط الحمام وهي مبنية على انابيب الماء الحار لذلك فهي حارة جدا يجلس عليها المستحم ليتصبب عرقا ويتخلص مما يعانيه من اوجاع المفاصل والروماتيزم . وحول هذه الحجر الحارة، ثمة قطعة اخرى من المادة نفسها تأخذ شكل دائرة يجلس عليها المستحمون لاغراض التدليك وهي ،كما سبق ان اشرنا تسمى الدائغ .  ويعمل في الحمامات الموصلية عدد من الاشخاص ، ففضلا عن (الحمامجي) وكان ال البكري في الموصل من ابرز الذين اداروا الحمامات سواء المخصصة للرجال او النساء ، هناك (الخلفة) أي المساعدوهو من يقوم بمساعدة صاحب الحمام ويحل مكانه في حالة غيابه  و (الوقاد) ويسمى (الكرخان جي) وهو الذي يتولى ايقاد الحمام  والدلاك(المدلك) و(الدوشم جي) أي الذي يجلب المناشف للزبائن بعد الانتهاء من الاستحمام .
   وعادة ما يجاور حمامات الرجال حمامات اخرى ملاصقة مخصصة للنساء ، وتقوم غالبا بادارة هذه الحمامات أم أواخت أو زوجة صاحب الحمام وتسمى (القيمة) أي القائمة على شؤون الحمام. وتضطلع بمهمة مساعدة النساء المستحمات ، امرأة كبيرة في السن تدعي ( الغسالي) ولكل عائلة غسالة خاصة بها تتلقى راتبا شهريا قد يكون في بعض الاحيان نقديا وقد يكون بشكل مؤن وما شاكل .. وهناك من تقوم بتسليم النساء الازر( الفوطة )  قبل دخولهن الحمام. هذا الى جانب ( نقالة البقج) التي تنقل مستلزمات النساء من المناشف والصابون والكيس والمعدسي والحكاكي والطاسة والمقعد والقبقاب من الدور السكنية الى الحمام، وفي اوقات معينة من الاسبوع ولقاء مبالغ مالية محددة .
   وعادة ما تستخدم الحمامات كمكان لاجراء احتفالات الولادة والزفاف .. ويتم ذلك بطقوس معروفة اعتادها النسوة، وتترافق هذه الاحتفالات مع الغناء  والتصفيق. وفي حالات الزفاف بحتفل اصدقاء العريس به داخل الحمام كذلك .. وتتردد اغاني فولكلورية جميلة استبشارا بهذه المناسبة فالمدعوات وصديقات العروس يؤكدن بان العروس جميلة وطيبة وغنية وتستحق كل خير. ومما كان يردده النسوة في الاحتفالات المقامة في الحمامات ليلة الزفاف :
                التشلحوا مالا   
                           والتلبسوا مالا
               وأبوها تاجر حلب
                           جياب الحمالا
  كما يتم الاحتفالات بالام بعد سبعة ايام من الولادة داخل الحمام وتسمى المرأة عندئذ بـ( الامفيس)  . أما المناسبة فيطلق عليها ( حمام السبعة) . وللذهاب الى الحمامات عادات وطقوس لابد من مراعاتها وكثيرا ما توزع المأكولات في الحمام ويشرب الجميع الشاي ثم يقفلون راجعين الى بيوتهم بعد صلاة العصر وفي مقال الاستاذ عبد الجبار محمد جرجيس عن الحمامات والمشار اليه انفا بعض التفصيلات ذات البعد التراثي (الفولكلوري ) .
  ويحرص المستحمون سواء كانوا من الرجال او النساء على استعمال اواني ومستلزمات ومناشف خاصة بهم عند ذهابهم الى الحمام ونادرا ما يلجأون الى ادارة الحمام لتلبية احتياجاتهم .
   ولا يعني وجود الحمامات العامة خلو الدور وخاصة دور الاغنياء والمسؤولين في الحكومة من الحمامات الخاصة ، الا ان الناس كثيرا ما اعتادوا آنذاك الاستحمام بالحمامات العامة لانها ، برأيهم ، اكثر فائدة للانسان لسخونة ماءها، وللاجواء الاجتماعية الجميلة التي ترافق عملية الاستحمام. وقد ادركنا منذ اواخر الاربعينات من القرن الماضي بعض العادات ، فالنسوة على سبيل المثال كن يقضين ساعات النهار كلها في الحمام ، ويتكرر ذلك لكل اسبوع ، ومن المؤكد ان وجود الحمامات العامة وارتيادها من الرجال والنساء يدل على مستوى متقدم من الوعي بأهمية النظافة ، خاصة وان الذهاب الى الحمام يترافق مع غسل الملابس والاواني والفرش المستخدمة في الحياة اليومية . ومهما يكن من أمر فان الحمامات العامة، قد اخذت بالاندثار بعد انشاء الدور والفنادق الحديثة التي تعد الحمام فيها من اهم المرافق التي يهتم بها الناس .   



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...