التعدد والتنوع ضمن الوحدة
ثقافة التعددية وتعددية الثقافة
ا.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
لعل من ابرز مظاهر الحضارة العربية والإسلامية التي يؤكدها المستشرقون قبل غيرهم ،هذا التعدد والتنوع ضمن الوحدة، والذي كان وراء ازدهار تلك الحضارة واكتسابها بعدا إنسانيا واضح المعالم ..هذه الحضارة، وامتداداتها التي شملت خلال حقب التاريخ المعروف مساحات واسعة من العالم ما كان لها أن تكون كذلك لولا مبادئ التسامح والمحبة والإخلاص والدقة والمرونة والصدق الذي تميزت به .وللأسف الشديد، فأننا اليوم ، وفي عصرنا الحاضر هذا قد غادرنا الكثير من تلك الصفات، فبتنا معروفين بالتعصب ،متشبثين بالفكر الواحد.. وأصبحنا غير متسامحين ليس مع غيرنا وإنما مع بعضنا البعض الأمر الذي دفع أحد المؤرخين العالميين لان يبشر بقرب خروجنا من التاريخ، بسبب انغلاقنا على أنفسنا ..والتصور بأننا البشر الوحيدين الذين تحق لهم الحياة .
إن أية مراجعة منصفة لتاريخنا ..تكشف بان العرب حتى في عصورهم الجاهلية ،وبعد الإسلام كانوا امة متفتحة زادهم الإسلام تفتحا من خلال تأكيده على أهمية الركون إلى الكلمة الطيبة الصادقة ، والعقل ،والحكمة ،والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن .فضلا عن التحلي بالإيمان، والاستقامة، ومكارم الأخلاق .. فلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة .. ولكن خلقهم مختلفين في الشكل ،واللون ،والدين ،والمذهب والقومية ،والمشارب، بقصد التعارف .بسم الله الرحمن الرحيم : " ياايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم " صدق الله العظيم .. إذا الإيمان والعمل والاستقامة والتقوى هو المعيار في التمييز بين البشر وليس أي شيء آخر .
ومن المؤكد أن هذه الفكرة ، وهذه الدعوة، وهذا التأكيد على التنوع ،وجد له صدى في تعددية المذاهب والملل والنحل . فالحياة لايمكن أن تستقيم على فكر واحد ،ورؤية واحدة ،ومعتقد واحد .فالمذاهب ليست إلا سبلا متعددة في فهم الحياة ،وتكوين المواقف .. وهي ليست كما يتصور البعض وسائل للاختلاف .ماكان يريده احمد بن حنبل، والشافعي، وجعفر الصادق، والنعمان بن ثابت، وانس بن مالك رضي الله عنهم جميعا ،هو تسهيل أمور الحياة أمام الإنسان المسلم،وحل الإشكالات التي تعترضه سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم فكرية وحسب البيئة التي يعيش فيها ،ودون التفريط بأحكام الشريعة ،وثوابت النص القرآني والسنة النبوية .
هذا على الصعيد الفقهي . أما على الأصعدة الأخرى..فأننا نتلمس في تاريخنا أثار اتجاهات فكرية متعددة فهناك المرجئة ،والمعتزلة ، والاشاعرة والخوارج ، ثم السلفية بأجنحتها المختلفة .وكل تلك الاتجاهات والرؤى توضح - وبدون أدنى شك - أن الاختلاف رحمة .. نعم اختلاف أمتي رحمة أي أن الاختلاف، وليس التطابق هو من سنن الحياة وكما قال احد الكتاب : "إذا رأيت اثنان متفقان في كل شيئ فاحسب أن أحدهما لابد ان يكون غبيا " .
التعددية ،كما أرى ،ثقافة ..لابد من تنميتها منذ الصغر ..في البيت، وفي المدرسة،وفي مكان العمل .ولابد للأب وألام والمعلم من أن يقوموا بدور مهم في هذا الاتجاه .ينبغي لهم جميعا أن يأخذوا بأولادهم وبناتهم صغارا، وينمون لديهم الإحساس بالاختلاف مع الآخر، واحترام هذا الاختلاف .
أقول من خلال تجربتي في الحياة وما تعلمت عليه أنا ومجايلي من مواليد أواخر الحرب العالمية الثانية1945 وبدء حرب فلسطين1948 أن أهلنا ..أبائنا وأمهاتنا.. أجدادنا وجداتنا ..جيراننا ومعلمينا ، كانوا يزرعون في أنفسنا احترام الآخرين واحترام إراداتهم واحترام خياراتهم.. وهكذا عشنا مع الآخرين بأمن واحترام .كان أساتذتنا في المدرسة الابتدائية يربوننا على أن لاندعي الأصل والفصل بقدر التزامنا بالأخلاق والأدب ..كانوا يرددون أمامنا بيت الشعر الذي يقول :
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
وبيت الشعر الثاني الذي يقول :
لاتقل أصلي وفصلي هكذا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
ومن هنا فلقد كان التمييز يقوم على الأخلاق والأدب لا الادعاء بالعشيرة أو الدين أو المذهب .
كانوا يرفضون أن ننظر للآخرين بمقت واستهجان وأتذكر أن جدتي كانت تردد أن الله هو الذي خلقهم وليس ثمة داع للتكبر على الآخرين أو الادعاء بالأفضلية عليهم .
من هنا نمت تعززت لدينا ثقافة احترام الآخر والاعتراف بالتعددية الدينية، والمذهبية، والقومية . وللأسف فأننا اليوم نفتقدها ونسعى لاحياءها .
يقينا أن الأحزاب السياسية في العراق، أقول أنها لم تقم بدورها التربوي كما يجب ..أخفقت في تكريس ثقافة التعدد بل بالعكس أسهمت في زيادة الفرقة والانقسام فتصارع أبناءها، وتصادموا وكانت النتيجة إراقة المزيد من الدماء بدون أ ي سبب يذكر . وليس هنا مجال الإتيان بالأمثلة لكنني اتجرأ وأقول من هو الذي استفاد من وضع الصراع السياسي الحزبي في الموصل بعد حركة 8 من آذار 1959 المسلحة . والجواب لاأحد ... تعصب ..وتشدد.. وانقسام.. وعدم استقرار .. وضعف في الثقة.. والخوف البعض من البعض الآخر .
لابد ،إخواني وأخواتي من أن نعمل جميعا من اجل زراعة الثقة بين بعضنا البعض .ليكن لكل واحد منا دينه ،وليكن لكل واحد منا مذهبه ،ولتكن لكل واحد منا قوميته ،وليؤمن كل واحد منا بآرائه السياسية وتوجهاته الاقتصادية ..ولكن ليحترم بعضنا بعضنا .
في السبعينات من القرن الماضي ،عينت في قسم التاريخ بكلية الآداب ووجدت التعددية بأحلى مظاهرها ..هذا قومي، وذاك من الإخوان المسلمين ،والثالث اشتراكي ،والرابع ليبرالي ولكننا كنا جميعا نجلس تحت قبة واحدة هي قبة الجامعة ..ولم يمض وقت طويل حتى سادت الصبغة الواحدة والرأي الواحد والذي كانت نتائجه وخيمة على البلد وعلى الناس .
التعددية ثقافة، وسلوك.. والثقافة والسلوك يحتاجان إلى تربية وتنمية وتطوير .يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف فولتير : "أنا أخالفك الرأي لكني مستعد لان أموت من أجل أن تعبر عن رأيك " وقبله قال الإمام الشافعي رضي الله عنه بوقت طويل : "رأيك صواب يحتمل الخطأ ..ورأيي خطأ يحتمل الصواب " أي اعتراف بالتعددية هذا.. وأي احترام للرأي هذا ..وأية روحية طيبة هذه !! .انها ثقافة التعدد وتعددية الثقافة .إنها احترام الإنسان.. واحترام رأيه مهما كان مختلفا عن ما نعتقده وما نراه .
الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان، وجعل الإنسان في أحسن تقويم فلماذا يأتي البشر ليحتقر الإنسان، ويذل الإنسان ،ويلغي حق الإنسان في أن يأخذ دوره في الحياة ،ويعبر عن معتقده ، ومذهبه، ودينه، ورأيه بحرية لاتتنافى مع القيم السائدة والمتعارف عليها في كل مجتمع ؟! .
ويأتي الآن دور الرياضة في تنمية ثقافة التعددية واحترام الآخر .لقد تعارفنا جميعا على أن نقول بأن الموسيقى ثقافة عالمية .. أو بعبارة أدق لغة عالمية .قد نسمع سيمفونية موزارت ، وموسيقى جايكوفسكي ،ونتأمل تماثيل مايكل انجيلو ، ونطرب لام كلثوم ، ونتلذذ بالمقام العراقي ،ونعجب بأديث بياف . وطالما كانت الموسيقى هي لغة موحدة بين الشعوب .. إذا ليس ثمة فرق في الفهم بين البشر . وكذلك الرياضة أنها اللغة الواحدة الموحدة التي تجمع بين الشعوب على مختلف ألوانها ، وجنسياتها ، ومواقعها .هذا لاعب كرة أرجنتيني نحبه ..وتلك بطلة ساحة وميدان روسية نفرح عندما تفوز ..وذاك بطل للسباحة مصري نصفق له.. ورابع لاعب كرة سلة أميركي نحب أن نتفرج على اللعبة من أجله .
الرياضة بكل أنواعها .. تنمي الإنسان فكرا وجسدا ..تنمي عقله وقلبه .تنمي لديه الإحساس بالبطولة والتميز والتنافس الشريف ..تنمي عنده ثقافة احترام الآخر ..تنمي عنده ثقافة التعددية.. والإيمان بالاختلاف الذي هو رحمة .قد يدخل المرء حديقة فلا يرى فيها إلا نوع واحد من الورد فيمل وتنقبض نفسه ..لكنه لو دخل حديقة ورأى الورود من كل صنف ورنك لانفتحت نفسه وابتهج وسر.. وهكذا الحياة فهي متعددة في حالاتها ، ومتحولة في أشكالها ،ومتنوعة في تعقيداتها . والإنسان يصاب بالكآبة إذا ظلت الحياة على وتيرة واحدة ،والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يقول : " من تساوى يوماه فهو مغبون " فيوم الأحد يجب أن لايشبه يوم السبت ويوم الخميس يجب أن لايشبه يوم الأربعاء ..في كل يوم يجب على الإنسان أن يتغير.. ويتقدم ويتطور ..عليه أن يقدم جديدا ..جديدا في عمله.. وجديدا في فكره ..وجديدا في فلسفته ومواقفه إزاء الكون والمجتمع والحياة وإلا فانه يجمد.. ويقف عند مستوى محدد.. وتصاب مفاصله بالتصلب وقد يخرف .القراءة مثل الرياضة تنعش قلب الإنسان كما تنعش عقله وذاكرته .. اقرأ حتى لاتصاب ذاكرتك بالضعف ..رأيت شيخ المؤرخين الموصليين الأستاذ سعيد الديوه جي وقد بلغ ال90 من عمره قبيل أيام من وفاته رحمه الله وهو يتمتع بذاكرة شاب عمره 20 سنة والسبب أن القلم لم يسقط من يده .. و القراءة والكتابة لديه لم تتوقف والحديث عن التاريخ والمستقبل لم يفارقه وهكذا كان شيخ المؤرخين العرب المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري الذي فارقنا قبل أيام عن عمر ناهز ال 100عاما .
*منشورة في موقع ميدل ايست اون لاين 25-11-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق