الحُلم
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
والحُلم - أحبتي الكرام - ايضا من الصفات النبيلة التي
يجب ان يتميز بها الانسان . و(الُحلم) عكس
( الغضب) ، والحلم الاناة . ولازلت اتذكر ،
وانا تلميذ صغير في المدرسة الابتدائية حيث كان كتاب القراءة يتضمن قصة بعنوان ( معن بن زائدة ) وكيف
جاءه وهو الامير والقائد الكبير توفي سنة
762 ميلادية ذلك الاعرابي يستفزه ، لكنه ظل عنوانا على الحلم ، وسعة الصدر ولم يغضب مع ان الاعرابي ، وكان يريد اختبار قدرته على الحلم ، قال له اتذكر اذ كان لحافك من جلد شاة ، ونعلاك
من جلد بعير فرد ، اذكر ذلك ولا أنساه ، ثم
قال له فسبحان الذي أعطاك ملكا ، وعلمك الجلوس على السرير فقال معن سبحانه وتعالى
الى ان قال له فإعطني يا ابن ناقصة ، فقال
معن اعطوه الف دينار ثم زاد المبلغ ودون ان يغضب ، وهنا قال الاعرابي بأبي انت وأمي ايها الامير ونفسي، فأنت نسيج وحدك في الحلم ، ونادرة دهرك في الجود
.
نعم الحلم قيمة انسانية نبيلة لاتتوفر في كل انسان ، وهي
تتوفر في الانسان المؤمن الواثق من نفسه ، وامكانياته ، وقدراته .وعندما يكون
الانسان حليما ؛ فإنه يستطيع المواجهة بشكل اكبر مما يكون سريع الغضب ، فسرعة
الغضب قد تفقده رشده ، وقد تنقص من قدره أمام الاخرين خاصة ، وان هناك من يصر على
استفزاز الحليم لغاية في نفسه ، أو قد يكون مدفوعا من قبل الاخرين لأسباب، وغايات عديدة .
وعندما ارسى الاسلام قواعد الصفات المحمودة عند العرب
اكدعلى الحلم وقال الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ( الحُلمُ سيد الاخلاق ) .
ومن المؤكد ان الحلم هذه الصفة أو هذه القيمة الانسانية
تحتاج الى قدرات ، وخصائص .. كما انها تعكس القوة التي يتميز بها الانسان الحليم .
قال الشاعر الحبيب بن اوس الطائي يذكر قيمة الحلم :
من لي بإنسان إذا أغضبته *** جَهَلْتَ وكان الحلم ردُ
جوابه
يقول الدكتور جمال نصار ، احد اساتذة علم النفس ، في مقالة له عن الحلم ، وهو
يتحدث عن ضرورة التحلي بالحلم بأن الحُلم خلق عظيم ، وهو يعني ان يتريث الانسان ، ويتثبت
من الامر قبل ان يدلو بدلوه ؛ فالحلم هو الاناة ، وضبط النفس ، وهو ضبط إرادي
للانفعال في مواجهة الاساءة ، وهذا الانضباط الإرادي يعطي الانسان الفرصة لكي يفكر
، ويقدر كيف يرد على الاساءة بالطريقة التي لاتُفقده حلمه .
والحلم من صفات الله سبحانه وتعالى فهو ( الحليم) . وكما
جاء في ايات كثيرة في القرآن الكريم ومن
ذلك قوله جل وعلا ( إعلموا أن الله غفور حليم ) .
كما وصف الله سبحانه وتعالى النبي ابراهيم عليه السلام
بأنه أواه حليم ، ولازلنا نتذكر قصة تلك
الجارية التي كانت تصب الماء على يد سيدها فصبته على ملابسه من دون قصد فنظر اليها بغضب ، فقالت له والكاظمين الغيظ فرد
كظمتُ غيضي وقالت والعافين عن الناس ‘ فقال عفوت عنكِ وقالت والله يحب المحسنين
فرد اذهبي فأنت حرة .
وقد حث الرسول القائد الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على وجوب التحلي بالحُلم
من خلال احاديث كثيرة منها ان الشديد
القوي هو الذي يملك نفسه عند الغضب ، وكثيرا ما دعا اصحابه الى عدم الغضب .
وللحلم ، الكثير
من الفوائد للانسان . وقد يساعد الحلم
على خلق المحبة بين الناس ، وازالة الجفاء يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم
( وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .
وهكذا ، فالحُلم يدل على القوة ، ويدل على الايمان
ويعطي الانطباع ، بأن الانسان الحليم هو
الانسان المثقف الواعي الذي يتحمل آراء الاخرين ، ويتعامل معها من خلال المبدأ
الذي يدعو الى احترام ما نسميه اليوم ب( الرآي والرأي الاخر) ، فقد يختلف الناس في ثقافتهم ، وقد يختلفون في
افكارهم ، ولابد لنا ان نأخذ ذلك بنظر الاعتبار ، ونتحمل الجاهل ، ونتحمل السفيه ،
ونتحمل المسيئ من خلال اظهار قيمة الحلم وعدم الغضب مهما كان الامر .
لقد كان
الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا جميعا في التمسك بصفة الحلم ، وكثيرا ما كان يبحث عن
ايسر الحلول واسهلها في معالجة مشكلات الناس ، ولم يُعرف عنه انه غضب من أحد ، والقصص
التي تثبت ذلك كثيرة ، مما لايتسع المجال لذكرها .
كما اننا ومن خلال دراستنا لبعض رجالات الدولة في العالم نقول ، ان كثيرا
من اؤلئك كان يتميزون بالحلم ، لهذا نجحوا في إدارة بلدانهم ، وتركوا بصمات واضحة
في تاريخها .
ورحم
الله الامام الشافعي ورضي عنه عندما اكد
على قيمة الحلم ببضعة ابيات من الشعر قال فيها :
يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ *** فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلماً *** كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا
واليوم ، ونحن في هذا
الشهر الفضيل شهر القرآن .. شهر الصيام .. شهر جهاد النفس ، كم نحتاج الى ان ندعو
الى الحلم ، ونؤكد ضرورة التمسك بهذه القيمة الانسانية النبيلة ، وان نَصفح ، ونعفو
ونسامح من يسيء ...رمضانكم كريم ، وصيامكم مقبول ، ودعائكم مستجاب ، والى حلقة
أخرى من برنامج ( ماقل ودل ) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق