بين الشاعرين الموصليين شاذل طاقة ويوسف الصائغ
بقلم :نواف شاذل طاقة*
باريس-فرنسا
نشرت الصحف ومواقع
انترنت عديدة مؤخرا مقالات تناولت التجربة الأدبية والشعرية لوالدي المرحوم شاذل
طاقة. لن أتحدث عن الجانب الأدبي من الإسهامات تلك فذلك من اختصاص المعنيين بشؤون
الشعر والأدب، لكني أرغب في تسليط بعض الضوء على جانب آخر من حياة شاذل طاقة يرتبط
بتجربته الإنسانية في الحياة خلال الفترة التي سبقت ورافقت تعيينه بمنصب وزير
خارجية العراق، لحين وفاته في مدينة الرباط المغربية عام 1974 أثناء حضوره
اجتماعات وزراء الخارجية العرب التي عقدت هناك. إن القصد من هذه الحلقات هو تقديم
سجل أمين، من خلال حوادث يومية بسيطة، لحقبة من الزمن تمتد منذ مطلع الخمسينات
لغاية عام 1974.
أشرت في حلقات ماضية إلي أصدقاء والدي، شاذل طاقة، الذين كانوا قد أصدروا ديوانا شعريا مشتركا عام 1956 تحت عنوان : (قصائد غير صالحة للنشر)، ضمّ قصائد لجيل، ربما لن يتكرر، من شعراء عراقيين من مدينة الموصل هم شاذل طاقة وعبد الحليم اللاوند وهاشم الطعان ويوسف الصائغ. أود أن أتحدث اليوم عن ذكريات كنت إما شاهدا عليها أو سمعتها من والديّ تتعلق بأحد أصدقاء والدي وهو الشاعر والروائي والرسام والسياسي يوسف الصائغ.
مسيحيو العراق
ينتمي يوسف الصائغ (رحمه الله) إلي عائلة مسيحية موصلية عريقة، كان والده تاجرا في مدينة الموصل، ورئيسا للشماسين في الكنيسة في الوقت عينه، توفي ولم يكن يوسف سوي صبي صغير. أما عمه، المؤرخ العراقي البارز سليمان الصائغ صاحب كتاب "تاريخ الموصل" ذي الأجزاء الثلاثة، فقد كان من أبرز مطارنة الموصل، فضلا عن كونه شخصية اجتماعية بارزة في الوسط الثقافي العراقي، يكن لها المسلمون والمسيحيون، علي حد سواء، احتراما كبيرا. وهنا لا بد أن أتحدث في بضعة سطور عن دور الطائفة المسيحية المشرف في الإسهام ببناء العراق وإعلاء شأنه عبر مراحل متعددة من تاريخه السياسي. في الوقت الذي لا يخفي فيه دور مسيحيي الموصل في إدخال المطابع إلي الموصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ودورهم فيما بعد بالعمل الصحفي في العراق عبر أسر موصلية عريقة، فقد ساهم أبناء هذه الطائفة عبر حقبات طويلة من تاريخ العراق السياسي في العمل الوطني، وقدموا التضحيات في النضال الوطني التحرري فبرزت من بينهم شخصيات مؤثرة في الحركات الوطنية التي ناهضت الاستعمار قبل تحرر العراق. من جانب آخر، وفي فترات السلم، وهب مسيحيو العراق بلدهم أفضل ما لديهم من خبرات فكان منهم العلماء والأطباء والمهندسون والأدباء والمؤرخون والسياسيون والتربويون، نساءً ورجالا، ممن يعتز العراقيون بهم. وتجدر الإشارة أيضا، إلي أن مسيحيي الموصل لعبوا دورا أساسيا في الحفاظ علي تاريخ الموصل العربي، وتراثها، وفولكلورها، من خلال نخبة من المؤرخين والآثاريين والفنانين، وشكلوا ركنا أساسيا من الطابع المديني للموصل، وكانوا دائما ذلك الوجه الجميل السمح والرقيق من النسيج الاجتماعي للعراق. وعوضا عن رعاية هذا النبت الرائع والحفاظ عليه، ساهم الاحتلال وأعوانه بتمزيقه وشنوا حربا شعواء عليه بعد أن رفض أن يصبح أداةً طيعة بيده، مما تسبب بمقتل العديد من مسيحيي العراق الأبرياء وهجرة آخرين، في إطار مشروع سياسي دنيء يهدف إلي تمزيق هذا النسيج الاجتماعي الذي افتخر به العراقيون آلاف السنين وتدمير الحياة المدنية. يوسف الصائغ، رحمه الله، من دون أدني شك، كان من طليعة هؤلاء العراقيين المسيحيين البارزين الذين منحوا العراق الكثير.
علاقة أخوية حميمة
لم أعد أتذكر بوضوح تفاصيل زيارات الصائغ إلي دارنا أواخر الستينات من القرن الماضي ، ربما لأنني كنت صغير السن، ولكني أذكر بكل وضوح رؤيته في دارنا بعد وفاة والدي مرتين خلال عامي 1974 و 1975. في كلا الحالتين لم يتكلم كثيرا في زيارتيه تلك بل مرت الزيارتان وهو يجهش بالبكاء متأثرا بوفاة والدي. وبعد أن يغادر الدار كانت والدتي (رحمها الله) تروي لنا قصصا عن العلاقة الحميمة التي جمعت والدي بالصائغ والعلاقة بين الأسرتين والذكريات الجميلة التي كانت تربطها بوالدة يوسف. كان يوسف رحمه الله، الأديب والشاعر والرسام، متحدثا لبقا، أجش الصوت، صاحب نكتة، ومن دون أدني شك محدثا رائعا. من القصص التي كنت اسمعها دائما عن يوسف الصائغ نقلا عن والدتي هي أن يوسف كان في أواسط الستينات قد حكم عليه بالسجن لانتمائه إلي الحزب الشيوعي العراقي. وكانت والدته التي تكن له حبا كبيرا، سيما أن يوسف هو الأبن الوحيد للأسرة، قد زارته أثناء مكوثه في السجن وحالما رأته بدأت تذرف الدمع حزنا علي وضعه. كان يوسف من جانبه يحاول تهدئتها، فكلما بادرت أم يوسف بالاستفسار منه عن أوضاعه في السجن، كان يؤكد لها أنه سعيد جدا ويشعر بالاطمئنان وليس لديه وقت فراغ سيما أن الكثير من أصدقائه جاءوا إلي السجن ليسلوه، مشيرا بيده إلي العدد الكبير من الأشخاص المتواجدين حينها في السجن. وكانت كلما سألته والدته سؤالا عن ظروفه، من مأكل وملبس ومنام، إلا وطمأنها بأن الأوضاع كانت علي أفضل ما يرام. وعندما فاجأته والدته بسؤال أخير قائلة له: ومن يغسل ثيابك هنا يا يوسف..؟ أجابها يوسف رحمه الله قائلا: أترين يا أمي هؤلاء الشرطة الذين يرتدون الزي العسكري. أترين كم هم كثر. هؤلاء يقومون بغسل ملابسي وكيها يوميا.. فلا تقلقي!!". وهكذا خرجت والدته رحمها الله وقد أطمأنت إلي ظروف ابنها يوسف.
وفاء الأصدقاء
تعرض شاذل طاقة ويوسف الصائغ إلي الاعتقال والسجن بعد عام 1963، كلا لسبب مختلف، فقد سجن شاذل طاقة لانتمائه إلي حزب البعث أما يوسف الصائغ فقد سجن لانتمائه إلي الحزب الشيوعي. بعد عام 1968، وتسلم حزب البعث مقاليد الحكم في العراق، أطلق سراح يوسف الصائغ وعاد للعمل في الصحافة، وفي مجلة ألف باء تحديدا، بدعم من صديقه شاذل طاقة الذي شغل حينها منصب وكيل وزارة الثقافة والإعلام. يتحدث الصحفي العراقي المعروف الأستاذ ضياء حسن في رسالة تلقيتها منه مؤخرا مستذكرا "وفاء شاذل طاقة لرفاقه وأصدقائه" مشيرا إلى "صديقه السياسي والكاتب الراحل يوسف الصائغ"، قائلا: "لقد ساند (شاذل طاقة) يوسف وتبني إيجاد عمل له في مجلة ألف باء. وأوصاني عندما كنت سكرتيرا لتحريرها أن أوفر له جوا يشعره وكأنه جزء من هيئتها الأساس، وليس جديدا عليها، وكان خياره موفقا فقد أعطي أبو مريم (يوسف الصائغ) رحمه الله من جهده" أفضل ما لديه. إلى ذلك، يقول صديق آخر، أن المساندة التي قدمها شاذل طاقه لأخيه يوسف الصائغ لم تقتصر علي الدعم في مجال العمل. في هذا السياق، يستذكر أبن خالة شاذل، اللواء الطبيب غازي جميل، أخصائي جراحة العيون، أن والدي كان قد طلب منه معالجة يوسف الصائغ بعد خروجه من السجن عام 1968 وتقديم الرعاية الطبية اللازمة له، وأنه استقبل يوسف في عيادته في بغداد حيث زاره لهذا الغرض، برفقة شاذل طاقة، والشاعرين شفيق الكمالي ومظفر النواب وذلك في مطلع عام 1969.
شغل يوسف الصائغ مواقع متقدمه في وزارة الإعلام العراقية، وعمل مديرا عاما للمؤسسة العامة للسينما والمسرح في الوزارة لسنوات طويلة، حتى بلوغه سن التقاعد، ولكن مقالاته وخواطره استمرت بالظهور علي صفحات المجلات والصحف العراقية حتى وقوع الاحتلال، في وقت عرفته، بل أحبته، الطبقة المثقفة العراقية، بأطيافها المتعددة، فمن لم يقرأ شعره العذب، قرأ أعماله الأدبية وقصصه، ومن لم يهتم بالشعر والأدب، لا بد وأن أعجب بأعماله الفنية ولوحاته الزاخرة بالحياة، ومن لم ينتبه إلي هذه أو تلك، فلا بد أن قرأ خواطره الأسبوعية التي كنا نتابعها علي صفحات العزيزة ألف باء أو بقية الصحف العراقية كتلك التي كانت تحمل توقيعا باسم (جهينة) أو (على نار هادئة). تعرض يوسف الصائغ بعد احتلال العراق إلي الإقصاء والتهميش ثم الاضطهاد، شأنه شأن معظم أدباء العراق والشخصيات الوطنية العاشقة لتراب هذا العراق العظيم. لم يقف إلي جانبه رفاقه السابقون في الحزب الشيوعي الذين جاءوا مع قوات الاحتلال الأميركية إلي العراق بل ناصبوه العداء، مما اضطره للهجرة إلي سوريا. وفي دمشق، التي لم يمكث فيها إلاّ فترة وجيزة، اشتد المرض على يوسف، فوقف إلي جانبه واحتضنه إعلاميون ومثقفون وأدباء عراقيون ممن هجروا العراق مثله، حتى وفاته عام 2005. بالإضافة إلي اشتراكه في إصدار ديوان (قصائد غير صالحة للنشر) المذكور آنفا، فقد أثري يوسف الصائغ المكتبة العربية بأعمال أدبية وشعرية ومسرحية عديدة. لا زلت أذكر روايته (اللعبة) التي كنت قد أعجبت بها عندما قرأتها أول مرة في سن المراهقة، والتي أذكر بوضوح توفر أكثر من نسخة منها في مكتبة دارنا. ويجب ألا يفوتني أيضا أن أشير، إلي جانب دواوين الصائغ الشعرية، السيرة الذاتية الرائعة التي كتبها يوسف الصائغ تحت عنوان "الاعتراف الأخير لمالك بن الريب" والتي تعد بتقديري المتواضع من الأعمال الأدبية العربية الرائعة، إن لم أقل العالمية، والتي للأسف لم تحظ بالاهتمام المطلوب. بيدّ أني أود أن أذكّر هنا بقصيدة وطنية حزينة تنبأ فيها يوسف الصائغ بنهايته، وباستباحة العراق، وبالأيام الحزينة التي كانت ستمر علي البلاد وعلي العراقيين. نُشرت القصيدة في مجلة ألف باء في الأول من كانون الثاني من عام 2003 وجاء فيها: "بلى.. كان عاما مريبا.. أتي ثم راح.. وخلفني عند حافة عمري، مثل نسر كسير الجناح!.. وها هو، عام جديد...يجيء... سيأتي... ويحتل بيتي...ويشاركني زوجتي...وحفيدي... وبنتي! فيا أيها الشاعر المستباح... حاذر الآن، من أن تنام.. ربما كان عامك هذا.. حنانيك- آخر عام..! فاستفق... في زهورك ، فوق الجراح..
بحيث إذا جاء يوم الفراق.. هتفت مع الهاتفين: نموت.. ويحيا العراق!!".
أخيرا، لم تلق الأعمال الأدبية الرائعة التي قدمها يوسف الصائغ الاهتمام الذي تستحقه بعد وفاته، رغم أن عددا من الأدباء والمثقفين الوطنيين في الموصل وفي بغداد وفي المهجر لم ينقطعوا عن إبراز إسهامات يوسف الصائغ الأدبية. أما الجهات المسؤولة عن الحياة الثقافية في العراق اليوم، فما برحت تمارس تعتيما وإهمالا متعمدين لأعمال يوسف الصائغ الأدبية ليس لسبب سوي لأن يوسف كان مناضلا عربيا عراقيا موصليا مسيحيا أصيلا، محبا لعراقه، ومناهضا للاحتلال وأذنابه الذين لن يغفروا له أنه هتف بحياة العراق.
من قصيدة "شمس المطر" التي كتبها الشاعر يوسف الصائغ في تأبين صديقه الشاعر شاذل طاقة عام 1974:"زهرتان، تبقي إذن؟ زهرة فوق عينيك طيبة.. وأخري علي موضع القلب.. ثم يمر مساء حزين/ وفي ساعة، سنمشطها لفة فوق نعشك، نضفرها، خصلات، فتبيض فوق الحداد/ وننثرها.. كلمة/ كلمة.. بالرثاء إذن؟ أبالحزن؟ هذا الأمير الرزين،
دعا أهله/ وبني قومه.. وهكذا مت. ودار عليهم، يقدم من قهوة مرة، للرجال الأشداء، مكتومة/ ليس يسأل عن ربه.. أي دين يقاضي؟ وماذا نوفي؟".
*نشرت في جريدة الزمان
10 مايس-ايار 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق