عز الدين بن الاثير المؤرخ الموصلي الكبير
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
واليوم أريد أن احدثكم – أحبتي الكرام – عن مؤرخ كبير له مؤلفات كثيرة اشتهر بها وهي موضع ثقة الدارسين العرب والاجانب ، واقصد به المؤرخ الموصلي الكبير عز الدين بن الاثير . ولازلت أتذكر كيف احتفت الموصل سنة 1982 من خلال الندوة الكبيرة التي اقامتها كلية الاداب بجامعة الموصل بين 27اذار الى الاول من نيسان سنة 1982 وكان لي شرف القاء بحث فيها بعنوان : (أثر عز الدين بن الاثير في تطوير الكتابة التاريخية العربية ) ، وقد ظهر ضمن الكتاب الذي ضم وقائع الندوة مطبوعا سنة 1983 .
الذي اريد ان اقوله ان عز الدين بن الاثير 1160-1232 ميلادية مؤرخ كبير ، وهو واخوته مجد الدين وضياء الدين تمتعوا بشهرة بارزة في الاوساط الثقافية العربية لم يصلها احد الا المؤرخ والمفسر الطبري الذي توفي سنة 923 ميلادية اي قبل ابن الاثير بقرنين من الزمان .
والمؤرخ عز الدين بن الاثير مؤرخ مثقف متمكن أسهمت الكثير من الظروف في تطوير فهمه لحركة التاريخ ومنها ان العصر الذي عاش فيه ابن الاثير كان عصرا مضطربا تميز بالفوضى والتقلب والاضطراب وهذا مما كان له دوره في صقل موهبة ابن الاثير فعهود النكبات في التاريخ كانت ولاتزال حافزا على التفكير في الماضي وفي المصير ومثيرة للاهتمام بتفسير التاريخ وتعليله .
وعندما نريد ان نبحث عن مصادر ثقافة ابن الاثير نقول انه من أُسرة اهتمت بالعلم وعرفت قيمته فوالده شغل مناصب حكومية عديدة اهلته لها ثقافته فضلا عن كونه واحد من ثلاثة اخوة برزوا في مجالات الحديث النبوي والتفسير واللغة والادب والشعر .
وقد تلقى ابن الاثير علومه الاولى على ايدي شيوخ وعلماء بارزين وخلال رحلاته العديدة الى عدد من البلدان العربية والاسلامية احتك بعلماء وشيوخ كثيرين اقام معهم صلات علمية وشخصية .
والمؤرخ عز الدين بن الاثير الذي اتحدث لكم عنه الان ، من المؤرخين الذين تسلحوا بعلوم القرآن والحديث ورجاله . وكان لاتقانه ذلك اثر كبير في تطوير ثقافته التاريخية ، فقد كان إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به وكما تعرفون - احبتي الكرام - ان هناك صلة بين علم التاريخ وعلم الحديث وخاصة من حيث التركيز على الاسناد وماهيته . وكان ابن الاثير حريصا على معرفة ما يهمه ،بوصفه مؤرخا ، من قوانين الجرح والتعديل .
ومما يجب علي ذكره ان المؤرخ عز الدين بن الاثير كان خبيرا في علم الانساب وادبياته . ولقد قيل عنه انه كان عارفا بالرجال خبيرا بالانساب وانه كان ( إماما نسابة ) وقد اعطاه هذا الاهتمام بعلم الانساب ، قابلية شديدة في تتبع مسار الادوار التاريخية التي تقوم بها الشخصيات التاريخية .
واريد ان اقول ايضا ، وانا اتحدث عن المؤرخ ابن الاثير الجزري الموصلي ان ابن الاثير لم يكن من المؤرخين الذين كتبوا مؤلفاتهم في غرف مقفلة وابراج عاجية بل انه انغمس في الحياة السياسية العملية .وكنت صلته الشخصية بإدارة الموصل في عهد الحكام الزنكيين 521-660 هجرية - 1127-1262 ميلادية قد جعلته في وضع سمح له بالاطلاع على المستندات والوثائق والاوامر الرسمية ومعرفة الوقائع الخارجية وماشاكل وقد يسر له خروجه محاربا ومشاهدا مع القائد صرح الدين الايوبي في الشام لقتال الصليبيين في سنة 584 هجرية – 1189 ميلادية وصف المعارك واوقفه على بعض الجونب في خطط الايوبي واساليبه العسكرية يضاف الى ذلك مشاركته في الدفاع عن الموصل حين كانت تتعرض لحصار او عدوا .
ورشك ان ما شاهده ابن الاثير شخصيا وما سمعه من معاصريه الف مصدرا ثرا من مصادره التاريخية وكان لذلك اثر كبير في تكوين ثقافته وتوسيع مدى ادراكه لكثير من وقائع التاريخ .
ولاشك فإن لقراءاته التاريخية واهتمامه بما وقع بين يديه من كتب تاريخية اثر كبير في جعل كتاباته لاتقتصر على لون واحد من الالوان التاريخية التي عرفها علم التاريخ .فقد كان محبا لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها وهذا كله ساعده في المشاركة في اربعة انواع من الكتابة التاريخية فكتابه (الكامل في التاريخ ) يصنف على انه في (التاريخ العام ) وكتابه ( الباهر في الدولة الاتتابكية ) يعد من كتب ما يسمى اليوم ب( التاريخ المحلي LOCAL HISTORY وكتابه ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) يعتبر كتاب في السير والتراجم وكتابه (اللباب ) يعتبر كتابا في الانساب .
ومن المؤكد ان كتب (ايام العرب ) وسيرهم كانت تعد من مصادر ثقافة ابن الاثير فهو من اوائل المؤرخين العرب الذين انتبهوا الى اهمية (الايام ) مصدرا لتاريخ العرب قبل الاسلام .
المؤرخ عز الدين بن الاثير كان من اوائل المؤرخين الذين اجابوا على السؤال المتعلق بهدف التاريخ وقال انه الاتعاظ واخذ العبرة وتوجيه الحكام والتوسل الى تنظيم حياة الانسان .
ولقد كان لتعرض الامة العربية والعالم الاسلامي لتحديات غزو الفرنجة من الغرب وغزو المغول من الشرق وتعاقب الاعداء عليها في تسلسل زمني مستهدفين وحدتها وتقدمها اثر كبير في اندفاع المؤرخ ابن الاثير في تتبع هذه التحديات والاخطار والكتابة عنها .
طبعا المؤرخ ابن الاثير وضع يده على العوامل الداخلية التي يسرت على الاجانب غزوهم وسهلته ومن ذلك الانقسامات والصراعات الاسرية وحالة التجزئة والتخلف التي كانت تعيشها الامة انذاك .
من الطريف ان اقول ان ابن الاثير ، كان يرى ان من اهداف الكتابة التاريخية اداة ترويح عن النفس ومادة طيبة مؤنسة في المجالس تؤنس المتكلم وتجذب اليه الحاضرين والى شيء من هذا القبيل قال : " ومنها ما يتجمل به الانسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها ونقل طريفة من طرائفها ،فنرى الاسماع مصغية اليه والوجوه مقبلة عليه ، والقلوب متأملة ما يورده ويصدره " .
التاريخ عند ابن الاثير وحوادثه ووقائعه ، تعبير عن المشيئة الالهية لكن هذا لايعني اغفاله للدور الانساني ، وفعاليات البشر فهو يتابع تعاقب الدول والامم نشأتها وسقوطها اي انه يتابع ديناميلية التقدم في التاريخ .
واخيرا فإن ابن الاثير يرى ان التاريخ دراية ورواية ، كما ان الحديث النبوي دراية ورواية . وقد اتبع طريقة الحوليات في تتبع الاحداث أي سنة وراء سنة .
وكان يفقه تقنيات واصول الكتابة التاريخية ، وهو يتبع خطوات البحث التاريخي وكان ابن الاثير مؤرخا مفكرا مدركا واعيا يوازن بين الاحداث منصفا للشخصيات التي يكتب عنها ولم يغمط دور الابطال واثرهم في ديناميكية الاحداث التاريخية . وعظمته تنعكس في اهتمامه بمساحة واسعة من التاريخ العربي والاسلامي من حيث الزمان والمكان واهتم بعصره وارخ له كما ارخ للعصور التي سبقته وكتابه الكامل في التاريخ غطى حقبة طولها اكثر من ثلاثة قرون اي ما بين وفاة صاحب كتاب (الرسل والملوك ) المؤرخ الطبري سنة 310 هجرية – 923 ميلادية وظهور كتاب ابن الاثير ( الكامل في التاريخ ) في سنة 630 هجرية -1223 ميلادية .
واخيرا المؤرخ ابن الاثير هذا الذي اعتدت عناصر داعش عند سيطرتها على الموصل بين سنتي 2014 و2017 على قبره في باب سنجار قبالة ملعب قضيب البان وجرفته وهو الذي يعرفه الناس ب(قبر البنت) وسبق ان تحدثت عنه في حلقة سابقة يدل على ان هذا المؤرخ الكبير كان كبيرا حين أرخ للموصل ، وحين أرخ للامة والعالم الاسلامي ، وحين اهتم بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي كما اهتم بالتاريخ السياسي ، وحين أكد على ان التاريخ مادة شعبية يجب ان يتابعها الناس كل الناس لاهميتها في تكوينهم الثقافي والمعرفي .
4-3-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق