مع عبد الله بكر آخر رئيس للديوان الملكي قبل
ثورة 14 تموز1958
بقلم: الأستاذ ليث الحمداني
مقدمة :
عبد الله بكر آخر رئيس للديوان الملكي في
العراق قبيل ثورة 14 تموز 1958 وتأسيس جمهورية العراق .سافر إلى القاهرة وعاش هناك
.وقد التقى به صديقنا الصحفي المبدع الأستاذ
ليث الحمداني وأجرى معه حوارا مفصلا نشر في على مدى خمس صفحات في مجلة الحضارة
البغدادية قبل سنوات .وقد قرأت الحوار
وكان ممتعا بحق خاصة ،وان الأستاذ عبد الله بكر موصلي ينتمي إلى عائلة موصلية
عريقة هي "بيت ال بكر أفندي " سكنت محلة رأس الكور.وقد رفدت العائلة
العراق بالكثير من رجال السياسة والقلم والإدارة والاقتصاد والجيش .وللعائلة دور مشهود في إقامة دور العلم
والمساجد ومساعدة الفقراء .ومن أعلام الأسرة كما يشير الأستاذ عماد غانم الربيعي
في كتابه : "بيوتات موصلية " يونس أفندي بن ملا حسن أفندي (توفي 1792 ) الأديب وكاتب ديوان الإنشاء، وبكر أفندي بن يونس أفندي
(توفي 1801 )صاحب الخيرات والأريب النجيب واحمد باشا بن بكر أفندي من رجال الإدارة
(1809 )ورشيد أفندي بن عبد الله مدير مال دير الزور (1895 )وتحسين نجيب سليمان
رئيس المؤسسة العامة للصناعة 1969 وبرهان الدين اسعد سليمان متصرف لواء الدليم
(الرمادي 1958 )ومظهر اسعد مدير ضريبة الدخل في الموصل وسليمان نجيب مدير الشرطة
المعروف والعميد الركن رافد حازم نوري والدكتور الحقوقي إكرام الحق بكر أفندي
وفخري بكر سكرتير مجلس الاعمار الأسبق (1956 ) وغيرهم .وللفائدة نقدم جانبا مهما
من الحوار لقراء ملتقى أبناء الموصل .تحية للأخ الأستاذ ليث الحمداني الذي يعمل في
كندا ويصدر حاليا جريدة بأسم البلاد لها موقع على الانترنت . التوقيع ا.د.إبراهيم خليل العلاف
الحوار
عبد الله بكر الرجل الموصلي
الذي عمل رئيسا للديوان الملكي ببغداد قبيل سقوط النظام الملكي وتأسيس جمهورية
العراق، اسم يعيش في ذاكرة معاصريه، ساهم في صنع أحداث، وشهد عبر مسيرة حياته
العملية أحداثا أكبر.عبد الله بكر رجل يعيش مع الذكريات،
ومع أوراق تحتضن بعضا من قصائد يعاتب فيها الأمس ،وتبحث عن الحقيقة والوفاء. قال
لي:
أين الحقائق في التاريخ ؟
مجلة الحضارة (البغدادية ) طرقت بابه الذي لم يفتح لصحفي منذ ثورة تموز 1958 ففتح لها قلبه وتحدث عن مسيرة العمر بذاكرة يحسده عليها الشباب. بادرني قائلا إني أعيش ضمن ثلاث دوائر تحيط بي فأنا أولا عراقي ثم عربي ثم مسلم. وهذه الدوائر الثلاث قررت مسيرة حياتي ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وأضاف السيد عبد الله بكر آخر رئيس للديوان الملكي قبل ثورة 14 تموز 1958 يقول:
أستطيع أن أقسم حياتي إلى ثلاث مراحل، الأولى تبدأ بالولادة أواخر عام 1907 وتنتهي بالاحتلال البريطاني للموصل 1918 والثانية تبدأ من الاحتلال ولحين تأسيس الحكم الملكي في العراق 1921 والثالثة منذ تأسيس الحكم الملكي إلى نهايته 1958 .
المرحلة الأولى: ولدت أيام الانقلاب العثماني أواخر عام 1908، أيام سقوط السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 ) وتأسيس المشروطية وقيام حزب الاتحاد والترقي على مبادئ ثلاثة (حريت – عدالت – مساوات) "تحيا الأمة" وهي مبادئ مأخوذة من الثورة الفرنسية ... كما تعلم قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وانتهت عام 1918. في هذه السنوات كانت دراستي الأولية. كنا نسكن محلة رأس الكور في الموصل، وكانت المدرسة (شمس المعارف) مدرسة أولية (قضيت فيها السنوات الثلاث التي سبقت الاحتلال البريطاني). وحين تم الاحتلال نقلنا جميعا، تلاميذ المدارس الابتدائية الثلاثة في الموصل في مدرسة واحدة هي "المدرسة الخضرية "وتقع مقابل جامع الإمام الخضر(الجامع المجاهدي أو الجامع الأحمر ) أي في (موقع الإعدادية الشرقية الحالية). كنت يومها قد انتقلت من الصف الثالث إلى الصف الرابع الابتدائي.
أين الحقائق في التاريخ ؟
مجلة الحضارة (البغدادية ) طرقت بابه الذي لم يفتح لصحفي منذ ثورة تموز 1958 ففتح لها قلبه وتحدث عن مسيرة العمر بذاكرة يحسده عليها الشباب. بادرني قائلا إني أعيش ضمن ثلاث دوائر تحيط بي فأنا أولا عراقي ثم عربي ثم مسلم. وهذه الدوائر الثلاث قررت مسيرة حياتي ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وأضاف السيد عبد الله بكر آخر رئيس للديوان الملكي قبل ثورة 14 تموز 1958 يقول:
أستطيع أن أقسم حياتي إلى ثلاث مراحل، الأولى تبدأ بالولادة أواخر عام 1907 وتنتهي بالاحتلال البريطاني للموصل 1918 والثانية تبدأ من الاحتلال ولحين تأسيس الحكم الملكي في العراق 1921 والثالثة منذ تأسيس الحكم الملكي إلى نهايته 1958 .
المرحلة الأولى: ولدت أيام الانقلاب العثماني أواخر عام 1908، أيام سقوط السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 ) وتأسيس المشروطية وقيام حزب الاتحاد والترقي على مبادئ ثلاثة (حريت – عدالت – مساوات) "تحيا الأمة" وهي مبادئ مأخوذة من الثورة الفرنسية ... كما تعلم قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وانتهت عام 1918. في هذه السنوات كانت دراستي الأولية. كنا نسكن محلة رأس الكور في الموصل، وكانت المدرسة (شمس المعارف) مدرسة أولية (قضيت فيها السنوات الثلاث التي سبقت الاحتلال البريطاني). وحين تم الاحتلال نقلنا جميعا، تلاميذ المدارس الابتدائية الثلاثة في الموصل في مدرسة واحدة هي "المدرسة الخضرية "وتقع مقابل جامع الإمام الخضر(الجامع المجاهدي أو الجامع الأحمر ) أي في (موقع الإعدادية الشرقية الحالية). كنت يومها قد انتقلت من الصف الثالث إلى الصف الرابع الابتدائي.
وفي ربيع عام 1917 شهدت
الموصل المجاعة المشهورة، وأتذكر هنا أن الناس كانوا يدورون في الشوارع وينادون
بصوت عال (جوعان ... جوعان). كان والدي يومها مديرا لناحية الشورة، وكان يأتي بين
حين وآخر إلى الموصل ، وأذكر من أبرز أصدقائه الحاج أحمد الخياط، والد الحاج رؤوف
الشهواني والذي كان ضابطا في الجيش العربي ،وقدم إلى الموصل في حينه. وفي ربيع
1919 جلب والدي لي معه" شارة العلم العربي" ، وحدثني عن الثورة العربية
للشريف حسين.. بعد سفر والدي وضعت شارة العلم العربي على صدري وذهبت إلى المدرسة.
وبعد يوم أو يومين لاحظت أن هناك عددا من التلاميذ يضعون الأعلام على صدورهم،
وأذكر من بينهم أحمد سعد الدين زيادة ،وكان يسبقني دراسيا بسنتين حيث كان يدرس في
الصف السادس بينما كنت في السنة نفسها في الصف الرابع. بعد هذا الحادث بأيام حضر
مفتش المعارف الإنجليزي في منطقة الموصل (الكابتن فارل) ووقف على الشرفة صباحا
وقال بصوت مرتفع (سياسة ماكو في المدرسة. إما ترمون هذه الشارات وإما تتركون
المدرسة). خرج أحمد سعد الدين أولنا وخرجنا جميعا بعده ... زارنا بعد ذلك ابن
خالتي وأخبرنا عن مدرسة اسمها" المدرسة الإسلامية " ، فانتقلت إليها
ووجدت فيها عبد المالك الفخري.. وفخري العبيدي وفخري الفخري وغيرهم. كنا نجلس فيها
على حصير يقابلنا صالح أفندي وهو في الأصل صاحب دكان لبيع (السبايل)أي (البايب )
المستخدمة في التدخين. وكان يلقي علينا دروسا في الصرف (صرف مراحل الأرواح). ومع
إطلالة العطلة ذهبنا إلى الشورة، ويومها عاتبني والدي على سبب تركي المدرسة، واهتم
بتدريسي شخصيا، وكان يهتم بالأدب العربي. أبرز الكتب التي كانت تحت أيدينا
(المستطرف في كل فن مستظرف) و (جواهر الأدب) و (ديوان المتنبي والفارض وديوان
الأزدي). في هذه الفترة حفظت المقامة البشرية لبديع الزمان الهمذاني بكاملها
وكثيرا من أبيات مقصورة ابن دريد ومعلقات زهير وعنترة. أما من القرآن الكريم ، فقد
حفظت قسما كبيرا من سورة طه وكثيرا من قصار السور، وكانت كل قراءاتي تتم بإشراف
(والدي) في مجال الأدب.
وبعد ذلك يجيب عبد الله بكر ... إثر فشل الثورة العربية في شمال العراق وانسحاب الجيش العربي إلى سوريا، (وكان قبلها قد اشتركتْ معه عشائر شمّر وأهالي تلعفر)، وكان من بين رجالها المرحومان مولود مخلص ،وجميل المدفعي. عيّن والدي قائمقاما لقضاء تلعفر وذهبت معه سنة 1920 وشهدت تخريب جزء منها من قبل الإنجليز الذين ضربوها بالمدافع حيث خُربت يومها محلتا (القلعة والسراي).
وأذكر هنا في أحد الأيام من عام 1921، وبعد تأسيس الحكم الوطني زار تلعفر السيد عاصم الجلبي مدير معارف منطقة الموصل، وقد وجدني جالسا عند والدي في دائرته فسألني: لماذا لم تدخل المدرسة؟ فشرحت له قضية طردنا بسبب علم الثورة العربية. وقد رفضت عرضه بالعودة للدراسة بحجة وجوب دخولي إلى الثانوية رأسا.. بعدها فكر طويلا ثم قرر تعييني معلما في مدرسة تلعفر الأولية، وكان عمري يومها أربعة عشر عاما، وكانت وظيفتي (معلم أشغال يد).. كان واجبي يقضي بأن أقطع الورق الملون بأشكال فنية ثم أعلمني بوجوب دخولي دورة معلمين ريفيين في الموصل، وحين أتخرج منها سأقبل طالبا في المدرسة الثانوية.. انضممت إلى الدورة وكان مدرسنا رشيد الخطيب، واجتزتها لأدخل الثانوية بعدها. وكانت أول سنة يتقرر فيها إدخال الامتحانات الوزارية ... أتذكر ممن كان معي في الصف الثانوي الأول (محمد حديد ،وعلي حيدر سليمان) وكانا الأول والثاني في الامتحان العام. واستمريت في الدراسة إلى سنة 1925 حين عين والدي متصرفا للواء الكوت وأنا جئت إلى بغداد حيث داومت سنة واحدة هي الرابع الثانوي، بعدها حصلت على بعثة حكومية دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت.
وعن ذكرياته في لبنان يقول الأستاذ عبد الله بكر: كان معي في الجامعة علي حيدر سليمان، وكنا نسكن في غرفة واحدة في السنتين الأوليتين في بيروت، ومحمد حديد، ويوسف الكيلاني ودرويش الحيدري وغيرهم. وفي القسم الابتدائي كان معنا حازم نامق، ومحمد النقيب. وكان في الصف الأخير من الجامعة فاضل الجمالي. وهنا أشير إلى أن قسما من الطلاب لم يكملوا دراساتهم في بيروت بل غادروها إلى لندن. جاءنا المرحوم رياض الصلح رئيس الوزراء في أحد الأيام في ربيع عام 1923 وأخذنا معه إلى مقبرة الشهداء في الحمراء، (وهي نفسها الحمراء اليوم وكانت عبارة عن أراضيَ رملية لا تحوي سوى الصبر). اختاروا يومها للخطابة يوسف الكيلاني من العراق، وأحمد الشقيري من فلسطين. بعدها قرر المندوب السامي الفرنسي إخراجهما من لبنان، فذهب يوسف إلى أكسفورد، وأحمد الشقيري إلى فلسطين حيث درس الحقوق.
ويستطرد الأستاذ بكر مستعيدا ذكرياته فيقول: في عام 1930 تخرجنا من الجامعة وعينت مدرسا في ثانوية الموصل. وقضيت في هذه الوظيفة سنة واحدة انتقلت بعدها إلى بغداد لأعمل سكرتيرا خاصا لرئيس الوزراء نوري السعيد في أول وزارة قام بتشكيلها. وقد تم اختياري من بين عدة أشخاص تقدموا لشغل هذه الوظيفة. وأظرف ما أتذكره عن تلك الأيام هو صدور ذيل قانون انضباط موظفي الدولة الذي تم بمقتضاه فصل عدد كبير من الموظفين بقرار من لجان خاصة. وكانت عرائض المفصولين تأتي إلى رئيس الوزراء وكان يحيلها لي، وكانت تعليماته أن أحيل ما يتعلق بكل وزارة للوزير المختص للنظر فيها باستثناء ما يخص القضاء والمحاكم فقد كانت تعليماته قطعية، وهي أن أعيدها إلى أصحابها وأبلغهم أن المحاكم مستقلة ولا دخل لنا بها.
وبعد ذلك يجيب عبد الله بكر ... إثر فشل الثورة العربية في شمال العراق وانسحاب الجيش العربي إلى سوريا، (وكان قبلها قد اشتركتْ معه عشائر شمّر وأهالي تلعفر)، وكان من بين رجالها المرحومان مولود مخلص ،وجميل المدفعي. عيّن والدي قائمقاما لقضاء تلعفر وذهبت معه سنة 1920 وشهدت تخريب جزء منها من قبل الإنجليز الذين ضربوها بالمدافع حيث خُربت يومها محلتا (القلعة والسراي).
وأذكر هنا في أحد الأيام من عام 1921، وبعد تأسيس الحكم الوطني زار تلعفر السيد عاصم الجلبي مدير معارف منطقة الموصل، وقد وجدني جالسا عند والدي في دائرته فسألني: لماذا لم تدخل المدرسة؟ فشرحت له قضية طردنا بسبب علم الثورة العربية. وقد رفضت عرضه بالعودة للدراسة بحجة وجوب دخولي إلى الثانوية رأسا.. بعدها فكر طويلا ثم قرر تعييني معلما في مدرسة تلعفر الأولية، وكان عمري يومها أربعة عشر عاما، وكانت وظيفتي (معلم أشغال يد).. كان واجبي يقضي بأن أقطع الورق الملون بأشكال فنية ثم أعلمني بوجوب دخولي دورة معلمين ريفيين في الموصل، وحين أتخرج منها سأقبل طالبا في المدرسة الثانوية.. انضممت إلى الدورة وكان مدرسنا رشيد الخطيب، واجتزتها لأدخل الثانوية بعدها. وكانت أول سنة يتقرر فيها إدخال الامتحانات الوزارية ... أتذكر ممن كان معي في الصف الثانوي الأول (محمد حديد ،وعلي حيدر سليمان) وكانا الأول والثاني في الامتحان العام. واستمريت في الدراسة إلى سنة 1925 حين عين والدي متصرفا للواء الكوت وأنا جئت إلى بغداد حيث داومت سنة واحدة هي الرابع الثانوي، بعدها حصلت على بعثة حكومية دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت.
وعن ذكرياته في لبنان يقول الأستاذ عبد الله بكر: كان معي في الجامعة علي حيدر سليمان، وكنا نسكن في غرفة واحدة في السنتين الأوليتين في بيروت، ومحمد حديد، ويوسف الكيلاني ودرويش الحيدري وغيرهم. وفي القسم الابتدائي كان معنا حازم نامق، ومحمد النقيب. وكان في الصف الأخير من الجامعة فاضل الجمالي. وهنا أشير إلى أن قسما من الطلاب لم يكملوا دراساتهم في بيروت بل غادروها إلى لندن. جاءنا المرحوم رياض الصلح رئيس الوزراء في أحد الأيام في ربيع عام 1923 وأخذنا معه إلى مقبرة الشهداء في الحمراء، (وهي نفسها الحمراء اليوم وكانت عبارة عن أراضيَ رملية لا تحوي سوى الصبر). اختاروا يومها للخطابة يوسف الكيلاني من العراق، وأحمد الشقيري من فلسطين. بعدها قرر المندوب السامي الفرنسي إخراجهما من لبنان، فذهب يوسف إلى أكسفورد، وأحمد الشقيري إلى فلسطين حيث درس الحقوق.
ويستطرد الأستاذ بكر مستعيدا ذكرياته فيقول: في عام 1930 تخرجنا من الجامعة وعينت مدرسا في ثانوية الموصل. وقضيت في هذه الوظيفة سنة واحدة انتقلت بعدها إلى بغداد لأعمل سكرتيرا خاصا لرئيس الوزراء نوري السعيد في أول وزارة قام بتشكيلها. وقد تم اختياري من بين عدة أشخاص تقدموا لشغل هذه الوظيفة. وأظرف ما أتذكره عن تلك الأيام هو صدور ذيل قانون انضباط موظفي الدولة الذي تم بمقتضاه فصل عدد كبير من الموظفين بقرار من لجان خاصة. وكانت عرائض المفصولين تأتي إلى رئيس الوزراء وكان يحيلها لي، وكانت تعليماته أن أحيل ما يتعلق بكل وزارة للوزير المختص للنظر فيها باستثناء ما يخص القضاء والمحاكم فقد كانت تعليماته قطعية، وهي أن أعيدها إلى أصحابها وأبلغهم أن المحاكم مستقلة ولا دخل لنا بها.
وعن نوري السعيد يذكر عبد الله بكر أذكر أنه كان يستقبل بعد أوقات الدوام رجال المعارضة منفردين، وأذكر منهم على وجه التحديد ياسين الهاشمي، وكانوا يجتمعون به لساعات ثم ينصرفون لتظهر مقالات المعارضة في صحفهم في اليوم التالي. وحسب تقديري فقد كان هناك اتفاق على المعارضة.. وكان الملك فيصل الأول(1921-1933 )، يدير المعارضة والدولة معا، وكانت الغاية من المعارضة يومها محاولة تعديل اتجاه بريطانيا السياسي لأن البلد كان يومها ضعيفا ولا يملك أية إمكانيات.
أول سفرة لي مع نوري السعيد كانت أواخر عام 1931 إلى تركيا وإيطاليا وجنيف ولندن، واستغرقت السفرة ثلاثة أشهر، وكان الهدف مع زيارتنا لتركيا عقد اتفاقات استرداد المجرمين وتوقيع معاهدة صداقة وتجارة. وكان بصحبة رئيس الوزراء مدير المالية العام إبراهيم كمال ومدير التجارة جورج جورجي. أما الغاية من سفرنا إلى إيطاليا فكانت البحث في قضايا اقتصادية تتعلق بالنفط. وأتذكر أننا، وكان رئيس الوزراء لوحده حيث عاد العضوان من تركيا، دعينا إلى الغداء خلال وجودنا في إيطاليا عند وزير خارجية (موسوليني) سنيتور غراندي ولم يقابل موسوليني سوى نوري السعيد.
وأذكر عن هذه الزيارة أنني في إحدى الحفلات المقامة من قبل الحكومة التركية في فندق أنقرة بالاس، وكنت واقفا مع طالب مشتاق، وكان سكرتيرا في المفوضية العراقية في أنقرة، وكان نوري السعيد مدعوا على العشاء مع مصطفى كمال في أحد صالونات الأوتيل. وبعد العشاء كان أول من حضر وزير الداخلية، وكان رجلا ضخما واسمه شكري قايا ، فوجدنا واقفين لوحدنا فبدأ حديثه معنا: من أين أنتما؟ ولا شك أنه كان يعرف ذلك. وبعد أن أجبناه، قال أريد أن أعطيكما درسا. ثم أردف قائلا: لما كنا نجاملهم كنا متمدنين، ولما بدأنا نقتلهم صرنا متحدين، وكان يشير بذلك إلى معاملة الدولة العثمانية للأجانب أولا، مما جعلهم يتمادون في مطالبهم. وأخيرا موقف تركيا في حربها مع اليونان وطردهم من الأناضول حيث أصبحت تركيا عندئذ دولة متمدنة بنظر الغرب ... وكانت سفرتنا إلى جنيف للتمهيد لدخول العراق إلى عضوية العصبة من قبل لجنة الانتداب إلى العصبة.
هذا الغداء كان أول درس لي في الدبلوماسية، فقد سأله غراندي: أين ستكونون في جنيف؟ فأجاب نوري السعيد باسما: لماذا؟ أجاب غراندي: أسألك هذا السؤال لأن القرارات والاتفاقات تتم في الفندق وليس في اجتماعات اللجان.
سقطت وزارة السعيد فعدت إلى وزارة المعارف(التربية ):
وبعد هذه الرحلة أسأل الأستاذ عبد الله بكر فيجيب:
بعد عودتنا سقطت الوزارة وخرجت وعدت للعمل في المعارف لعدة أشهر تأسست بعدها وزارة الخارجية فانتقلت للعمل فيها. وكان عملي يومها في المكتب الخاص وكانت ترتبط بالمكتب يومها شعبة الذاتية والمخابرات السرية وكان وزير الخارجية نوري السعيد أيضا. وبقيت في الخارجية لغاية عام 1939 وعملت في موقعين هما مدير المكتب الخاص، نقلت بعد ذلك قنصلا للعراق في كرمنشاه.
مؤتمر فلسطين لسنة 1938 – 1939 في لندن:
وفي خريف عام 1938 سافرت بمعية رئيس الوزراء نوري السعيد إلى القاهرة لحضور الاجتماعات التمهيدية للدول العربية للاجتماع فيما بعد مع الوفد البريطاني والوفد اليهودي حول فلسطين ومستقبلها. وكانت بريطانيا في تلك الفترة تتوقع حدوث حرب عامة قريبة فكنا نجتمع مع الوفد البريطاني برئاسة وزير المستعمرات مالكولم مكدونالد صباحا، وكان الوفد يجتمع مع الوفد اليهودي مساء اليوم ذاته. وكانت الوفود العربية تمثل كلا من مصر والسعودية واليمن والأردن والعراق وأعضاء اللجان العربية العليا برئاسة جمال الحسيني نيابة عن المفتي الحاج أمين الحسيني. وقد نتج عن ذلك الاجتماع الاتفاق على الكتاب الأبيض، إلا أن الوفد الفلسطيني أرجأ موافقته على موافقة الحاج أمين الحسيني. ولما لم يوافق الحاج أمين على ذلك لم يعمل بذلك الاتفاق من قبل بريطانيا. ولما طالب العرب بإصدار الكتاب الأبيض بعد ذلك قالت بريطانيا إن الوقت قد فات وضاعت الفرصة.
ومما أذكر في تلك الفترة التي كانت الاجتماعات جارية فيها زار الوفد العراقي في الشقة المخصصة له رجلا لمقابلة نوري السعيد وتوفيق السويدي، وبعد أن اختلى بهما في إحدى الغرف وخرج، سألت توفيق السويدي عن ذلك الرجل فقال إنه حاييم وايزمان. فقلت: ماذا أراد؟ قال: عرض علينا وحدة واستقلال البلاد العربية مع السماح لليهود بالهجرة إلى البلاد العربية، ووعد مقابل ذلك بتقدم علمي واقتصادي وازدهار. فقلت له: ماذا أجبتهم؟ قال: رفضنا ذلك طبعا. (تعليقا على ذلك أقول إن هدف اليهودية العالمية هو هذا، بدأت به مع الإمبراطورية العثمانية ثم مع الإمبراطورية البريطانية والآن مع الولايات المتحدة، وهدفها البلاد العربية وليس فلسطين وحدها لأن فلسطين لا تكفيها)..
وماذا عن ذكرياتك في كرمنشاه؟
أبرز ذكرياتي في كرمنشاه هي أن انتفاضة مايس حدثت في أثناء وجودي هناك حين هاجم الجيش مقرا القاعدة البريطانية في الحبانية واندلعت الحرب التي كان من نتائجها انسحاب الحكومة العراقية إلى إيران. وفي صباح أحد الأيام أبلغني الفرندار (الحاكم) هاتفيا بأن الجماعة في الطريق وكان ينزل عندي يومها في القنصلية طالب مشتاق وعبد القادر الكيلاني، فقلت لنذهب لاستقبالهم.. انتظرناهم عند مخفر شرطة على الطريق وأول سيارة كانت تحمل صلاح الدين الصباغ بعدها جاءت سيارة رشيد عالي الكيلاني والمفتي ثم الشريف شرف ويونس السبعاوي وبقية الضباط الأربعة حيث نزلوا في فندق قريب وقررت أن أدعوهم للعشاء. وطلبت من رشيد عالي الكيلاني أن يبلغهم بالدعوة في القنصلية وقد أجابني بأني لا أريد العشاء مع الضباط الأربعة، وطلب أن تقتصر الدعوة عليه مع المفتي والشريف شرف وقد أصررت على دعوة يونس السبعاوي لأنه كان صديقي فقال لا بأس وجاءوا إلى القنصلية وقضوا أمسيتهم ثم سافروا في اليوم التالي إلى طهران.
أعيرت خدماتي بعدها للمصرف الصناعي الزراعي كمدير عام ورئيس لمجلس الإدارة، ولم أبق فيه مدة كافية عدت بعدها للخارجية بطلب مني.
ذكريات بين بومباي ونيويورك
بعد البنك الصناعي – الزراعي، أين كانت محطتك الوظيفية ... أسأل الأستاذ عبد الله فيقول:
عدت إلى العمل في الخارجية قنصلا عاما في بومباي لمدة ثلاث سنوات انتقلت بعدها إلى نيويورك كقنصل عام أيضا لمدة سنتين..
أطرف ذكرياتي في بومباي أنه تم وزن الآغا خان بالألماس، فقد تلقيت دعوة منه للاحتفال بوزنه بالألماس بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين، وكان قد دعاني على الغداء قبل وزنه بيوم واحد، ومن بين ما ذكره لي في ذلك الغداء أن الهند ستقسم إلى دولتين إسلامية وهندوسية وحصل ذلك فعلا.
مما أتذكره أيضا أن الحكومة العراقية طلبت مني أن أقابل "محمد على جناح" وأن أكلمه للوقوف مع العرب ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.. وقد وافق ودعا المسلمين إلى الاجتماع تكلم فيه مدافعا عن العرب في فلسطين.
بعد بومباي انتقلت للعمل في نيويورك وواشنطن.. وفي واشنطن كانت وظيفتي قائما بالأعمال، وكنت في الوقت ذاته ممثلا للعراق في الأمم المتحدة. وقد مثلت العراق في حفل توقيع معاهدة الصلح مع اليابان وما زلت أحتفظ بقلم الحبر الذي تم التوقيع به.
من أبرز الأحداث التي عشتها عندما كنت قنصلا عاما في نيويورك وممثلا للوفد العراقي الذي كان يترأسه علي جودت مرض فجأة وذهب إلى أريزونا فأصبحت رئيسا للوفد بالوكالة. وحين كنت جالسا في الجمعية العامة في أحد الأيام جاءني أحد أعضاء الوفد السوفييتي وقال لي بأن مولوتوف يدعوني إلى الغداء، واستفسرت منه عن المدعوين فأبلغني أنهم رؤساء الوفود العربية فقط وفي مقر القنصلية السوفياتية في نيويورك. ذهبت فوجدت هناك فارس الخوري وكميل شمعون وأحد أعضاء الوفد السعودي الذي حضر نيابة عن الأمير فيصل ولم يحضر أحد من مصر. وبعد أن شربت الأنخاب دعانا مولوتوف إلى الغداء قائلا: إن أحد المدعوين الكرام لم يحضر، ومع ذلك سأترك المقعد المعد له خاليا. وكان الغائب هو ممثل الوفد المصري. كان وزير الخارجية الروسي يشرب على الغداء أنخاب الدول العربية الواحدة تلو الأخرى ويتكلم، وحين شرب نخب العراق شكرته وقلت له بأننا نأمل أن يساعدنا الاتحاد السوفييتي في مطالبنا الحقة والعادلة في الأمم المتحدة وأبرزها قضية فلسطين.. بعد الجلوس جاءني مترجم مولوتوف وقال لي: لقد أعجب الوزير بكلمتك، وهذا يعني حسب تقديري أن الاتحاد السوفييتي كان مستعدا لمساعدتنا في قضايانا في ذلك الوقت، وقد أخبرني أنهم – أي الروس – يريدون أن يعرفوا اتجاهاتكم. وفي السنة التي تلتها والتي حدث فيها التقسيم لم أكن ضمن الوفد العراقي.. كان موقف الدول العربية ضد الاتحاد السوفييتي على خط مستقيم. الوفود العربية عقدت سلسلة اجتماعات ونظمت دعوات دعيت إليها الوفود الأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية للدعاية لقضية فلسطين وخصصت يوما لكل دعوة من هذه الدعوات. وكانت الصحف تنقل صور وأنباء تلك الدعوات وما يدور فيها من أحاديث مع وصف للحفلات. ولم يظهر شيء عن دعوة الاتحاد السوفييتي ... وعلمت أن مسودات الموضوعات التي تشير إلى الموقف الروسي قد مزقت من قبل ممثلي الدول العربية.
بعد مراجعة للرحلة السريعة في ذاكرتكم، هل تجدون شيئا هاما تودون ذكره؟ وكان الجواب:
قد يكون من المفيد أن أشير إلى أنني، وفي أثناء عملي كمدير عام في البنك الصناعي الزراعي اتصل بي مسؤول في السفارة البريطانية في بغداد وأخبرني أن شخصا أمريكيا مهما كان في زيارة للصين عائد عن طريق العراق ويود زيارة البنك. وفعلا زارني شخص ضخم طويل بسيارة تحمل العلم الأمريكي. كان رجلا كبيرا بالسن ... وبعد حوار معي عن فعالية المصرف وأعماله أشرت له عرضا خلال الحديث باسم (الإمبراطورية البريطانية). انفعل بشدة وقال لي: أريد أن أحدثك عن هذا الموضوع وعن الحرب. قبل الحرب العالمية الأولى كانت أمريكا في عزلة وكان مشروع (مونرو) مطروحا وكنا نعتقد أننا سنعيش لوقتنا (الأمريكيين). وانتهت الحرب الأولى التي اضطررنا أن ندخلها وأن نضحي بالمال والرجال، وكنا نتصور أننا في نهايتها سنلمس نتيجة واضحة لهذه التضحية وسيحدث شيء نريده. ولكن للأسف لم يحصل شيء، بل حصل رد فعل في أمريكا، ودخلنا في عزلة أخرى. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية واضطررنا أن ندخلها أيضا، ولكننا سوف لا نخرج بالنتيجة نفسها (سوف لا يبقى لا إمبراطورية بريطانية ولا إمبراطورية فرنسية هذه المرة. كان ذلك عام 1942) وهذا ما حصل فعلا بعد أن انتهت الحرب.
وعن فترة حكم الملك غازي
وعما يحمله في ذاكرته عن حكم فترة الملك غازي قال الأستاذ عبد الله بكر:
لم أكن خلال حكم الملك غازي على اتصال مباشر بالقصر فقد كنت أعمل في مقر وزارة الخارجية، وفي عام 1940 انتقلت للعمل كقنصل في كرمنشاه ومن ثم أعيرت خدماتي إلى البنك الزراعي الصناعي الذي حدثتك عنه قبل قليل، والذي قطعت إعارتي له بعد سنتي عمل وبعد ما لمست عدم إمكانية تحقيق شيء يذكر فيه لضعف إمكانيات البلد أيامها. ومع ذلك لم أكن بعيدا عن الأجواء السياسية من خلال ما كنت أسمعه من الأصدقاء والمعارف. يومها كان الجميع يتحدثون عن اندفاع الملك الشاب وعن مجموعة الشباب التي كانت تحيطه والتي كانت غالبا ما تخلط بين العواطف الشخصية والمواقف السياسية. أبرز ما أذكره عن تلك الفترة المعارضة الشديدة لفكرة زواج الملك غازي من ابنة الهاشمي، فقد عارض يومها هذه الفكرة وبشدة نوري السعيد وجعفر العسكري والسبب هو رفضه ارتباط الملك بأية أسرة عراقية.
وعن أول لقاء له مع الملك فيصل الثاني (1953-1958 ) قال :
كان الملك فيصل الثاني معجبا بالحضارة الغربية
وأضاف الأستاذ بكر:
كنت في عام 1952 ممثلا للعراق في الولايات المتحدة بدرجة وزير مفوض في واشنطن. وفي صيف ذلك العام أخبرتني وزارة الخارجية الأمريكية عن زيارة مرتقبة للملك بدعوة من الحكومة الأمريكية. أيامها كان (ترومان) رئيسا للولايات المتحدة. بعد إخباري بأيام اتصل بي الوصي عبد الإله من الباخرة (الملكة إليزابيث) من عرض البحر.. وذهبت إلى بوسطن حيث رست الباخرة التي تحمل الملك وأعضاء الوفد، وصعدت إلى الباخرة ترحيبا بالملك وأعضاء الوفد. وأول ما لمسته يومها تسلل بعض الصحفيين إلى الباخرة وإحاطتهم بالملك لأخذ أول حديث صحفي منه في الولايات المتحدة. وأذكر أن عبد الإله انسحب تاركا الملك مع الصحفيين قائلا: سأترك لكم حرية في الحديث، مع رجائي الابتعاد عن السياسة.. يومها لمست من الملك الشاب لباقة وحسن تصرف، فقد أجاب على جميع ما طرح عليه من أسئلة. وكانت إجاباته بلغة سليمة ودون أي تردد. وأثار إعجاب جميع الحاضرين بأسلوبه الذي اتسم بالرقة والخلق العالي والفهم للمحيط الذي يتحدث فيه...
وقد رافقت الملك في رحلته عبر الولايات المتحدة من الشرق إلى الغرب، وكان في تلك السفرة يبدي رغبته بالاطلاع على جميع نواحي التقدم العمراني والصناعي والزراعي. ودامت جولتنا نحو الشهر زار فيها جامعة بوسطن ثم جامعة كاليفورنيا وأقام له الطلبة العرب حفل تعارف كان خلاله يبدي لهم ملاحظاته ...وقد شملت يومها رحلتنا (ديترويت) حيث التقى الملك بالجالية العراقية، كما زار مصانع السيارات العائدة لشركة فورد.. أما في لوس أنجلوس فقد دعته شركة مترو غولدوين ماير لزيارتها، وقد اطلع على الوسائل الفنية التي تستخدم في إخراج الأفلام للسينما، كما زار جنوب كاليفورنيا واطلع على بعض المزارع هناك، وعلى مشروع وادي تنيسي واطلع على العديد من السدود التي أقيمت لدرء أخطار الفيضانات.. قبل ذلك زار مشروع سد هوفر واطلع على المشروع الذي يمد لوس أنجلوس بالكهرباء.
وفي كل أحاديثي معه لمست منه الوعي في الحديث على ما اطلع عليه من تقدم .. وخلال هذه الرحلة أخبرني الأمير عبد الإله أنه تقرر تعيين سفير في الولايات المتحدة ونقلي إلى مكان آخر. وسألني تلطفا إن كنت أرغب بالعمل في مكان معين فذكرت له اليابان لأنني لم أكن قد رأيتها.
بعد عودة الملك إلى بغداد وتسلمه سلطاته الدستورية، وبدلا من أن أنقل من الولايات المتحدة إلى طوكيو نقلت إلى بغداد حيث عينت نائبا لرئيس الديوان الملكي. وكان رئيس الديوان الملكي يومها أحمد مختار بابان. وبعد تعييني مباشرة رافقت الملك والأمير في رحلة إلى شمال العراق ووصلنا إلى منطقة (كلي شين) قرب الحدود.. كانت الرحلة للاستطلاع ولكنها لم تكن سهلة، وقد رأيت الملك الشاب متحملا للصعوبات دون أية شكوى من تعب أو عطش كما لم ألاحظ عليه مطلقا وطوال الرحلة أية ملامح غضب أو فرح ... كان كتوما..
بعد عودتنا من رحلة الشمال عينت وزيرا للخارجية في وزارة فاضل الجمالي الأولى، واستمر عملي هذه المرة ستة شهور (وهي المدة التي كان يسمح بها الدستور للوزراء المعينين من غير أعضاء مجلس النواب). وفي هذه الفترة سافرت إلى مصر لاجتماعات الجامعة العربية، وكانت رئاسة مجلس الجامعة الدورية للعراق آنذاك... وقد التقيت خلال هذه السفرة بالرئيس جمال عبد الناصر والسادة محمد نجيب وصلاح سالم. كان سفيرنا في مصر آنذاك السيد نجيب الراوي، وطلبت منهم أن يهيء لي لقاء مع محمد نجيب، وكان لا يزال رئيسا لمجلس قيادة الثورة، قال لي: لماذا لا تصرف النظر عن هذا اللقاء؟ لأن وضع محمد نجيب قلق.. ولكنني أصررت على اللقاء وقلت له: أريد أن أقابل هذه الشخصية، فهيأ لي المقابلة في ثكنة عسكرية على النيل. ذهبت مع السفير وكان المرحوم محمد نجيب وحده في غرفة صغيرة. وبعد حديث المجاملة الاعتيادية فوجئنا بدخول المرحوم جمال عبد الناصر وبدأ فور دخوله وتعارفنا بمشاركتنا الحديث الذي تركز على مواقف العراق من القضية الفلسطينية والأوضاع العربية في تلك المرحلة ...
كان عبد الناصر يفكر مثلنا في تلك المرحلة
في مقابلة أخرى مع جمال عبد الناصر في السفارة العراقية بدعوة من السفير ضمت، على ما أذكر، الرئيس جمال عبد الناصر وصلاح سالم وجمال سالم وغيرهم من أعضاء مجلس قيادة الثورة. تكلمت مع الرئيس جمال عبد الناصر في حديث خاص في طرف من قاعة الاحتفال ووجدته يحمل أفكارا لا تختلف كثيرا عما كنا نحمله من أفكار فيما يتعلق بالمخاطر المحيطة بالأقطار العربية والقضية الفلسطينية وغيرها. يومها كان الرئيس عبد الناصر ميالا إلى الغرب.
وخلال وجودي في الخارجية سافرت لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي أثناء وجودي تلقيت برقية من الحكومة العراقية تطلب مني فيها مقابلة الرئيس الأمريكي آيزنهاور وطلب المساعدة منه لتزويد العراق ببعض أنواع الأسلحة. وفي مقابلتي له في البيت الأبيض وفي غرفة جانبية صغيرة بلباس بسيط.. أخبرته عن حاجتنا لبعض أنواع الأسلحة للجيش العراقي، فقال لي: تريدون أسلحة أميركية أو أسلحة بريطانية ؟ قلت له: تسألني عن نوع الأسلحة وأنت أعلم بها من كل الناس. فأجابني: المدفع يرمي اطلاقاته إذا كان أمريكيا أو بريطانيا، ولما كان سلاحكم بريطانيا فسأوعز بهذا الشأن لإعطائكم أسلحة بريطانية مما تحتاجون ونحن ندفع الثمن. وأذكر أنه أوعز لبعض الخبراء العسكريين الأمريكان أن يتصلوا ببريطانيا بهذا الشأن. بعدها وفي نهاية المدة الدستورية لبقائي في الوزارة (الخارجية) صدرت إرادة ملكية بتعييني رئيسا للديوان الملكي.
وأسأل الأستاذ عبد الله عن مدى معرفته بعبد الإله وعن أسلوب تفكير الوصي على عرش العراق، فيقول:
علاقتي بالأمير عبد الإله كانت قديمة جدا، من أيام عملي معه في ديوان وزارة الخارجية ... كان شخصا اعتياديا، هادئا ويحترم الآخرين. ورغم مرور كل هذا الزمن إلا أنني أستطيع أن أقول لك بأن أي شخص مهما كان قريبا منه لا يستطيع أن يعرف كيف كان يفكر.. الشيء الوحيد الذي لمسته منه كان طموحه في عرش سوريا. وقد كان يستقبل الكثير من رجال السياسة السوريين في محاولة منه لتحقيق هذا الهدف.
وماذا عن لقاء صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة بالملك والأمير ونوري السعيد في سرسنك ... أذكر أن صلاح سالم وكان عضوا في مجلس قيادة الثورة المصري حضر إلى سرسنك والتقى بالملك والأمير ونوري السعيد وحضرت جانبا من هذه اللقاءات. كان الحديث يدور حول علاقات مصر بالوطن العربي وضرورة الاتحاد والتكاتف. وقد لمست يومها إعجابا وتأثرا من صلاح سالم بالسياسة العراقية خاصة بعد أن شرح له نوري السعيد السياسة الخارجية للعراق ... وأستطيع أن أؤكد بأنه حين عاد إلى مصر اختلف مع جمال عبد الناصر في الموقف من العراق ..
وحلف بغداد، ماذا تحمل منه من ذكريات؟ نسأل الأستاذ بكر فيقول:
فكرة التحالف بين العراق وجيرانه في الشرق قديمة جدا، الورقة الأولى كانت ميثاق سعد إباد الذي وقع بين تركيا والعراق وإيران وأفغانستان الذي كنت حاضرا توقيعه شخصيا. وكان رئيس الوفد العراقي يومها ناجي الأصيل، وكان الوفد يضم في عضويته سفيرنا المفوض في طهران خالد سليمان ومدير الخارجية العام نصرة الفارسي وممثل إيران الشاه الأب ووزير خارجيته وممثل تركيا رشدي أراس وزير خارجيتها وممثل الأفغان وكان واحدا من الأمراء من الأسرة المالكة الحاكمة. كان الهدف الظاهر من الحلف حماية الأمن في دول المنطقة. الورقة الثانية كانت حلف بغداد، والغرض منه كما هو معلن في حينه امن المنطقة ضد الشيوعية. ومن خلال متابعتي لمواقف العراق منه أقول إننا حاولنا الاستفادة من الدول الشرقية في مجال القضية الفلسطينية وأذكر أننا ونحن في الطريق إلى استانبول في إحدى سفراتنا الأخيرة تلقينا ونحن على الباخرة نص مشروع خطاب جلالة بايار ولم يكن يتضمن تأيدا للقضية الفلسطينية وطلبنا منه برقيا إضافة فقرة في الخطاب وتم ذلك فعلا. وفي السنة الثانية وحين ذهابنا إلى تركيا أبلغنا عدنان مندريس وكان رئيسا للوزراء انذاك أن الفقرة التي أضيفت للخطاب كلفتهم غاليا فقد أوقفت أمريكا كل مساعداتها لهم. ومن هذا يتضح أن الأمريكان كانوا يريدونه حلفا لأغراضهم بينما كان العراق يحاول أن يستفيد من الحلف لكسب تأييد للقضية الفلسطينية. وأرجو ألا يعتبر هذا تقييما للحلف. هذا ما أعتقده شخصيا فقط.
نعود إلى الملك فيصل الثاني الذي عايشته من قريب .. ما هي انطباعاتك عنه وعن موقفه في الحكم؟
نسأل فيجيب الأستاذ عبد الله بكر:
لا بد أولا من التأكيد على أن قربي من الملك جعلني أتلمس مدى حبه واحترامه لخاله الأمير عبد الإله .. فقد كان الملك فيصل لا يرفض طلبا للأمير، كما كان يسعى لإرضائه، وقد كان ذلك مبررا للأمير لكي لا يترك له أي مجال للتصرف لوحده.. أذكر هنا الممارسة الوحيدة التي سمح فيها عبد الإله للملك لممارسة سياسية واضحة كان يومها رئيس الوزراء نوري السعيد وجرت انتخابات لمجلس النواب وعند انتهاء الانتخابات كان هناك مرشحان لرئاسة المجلس، خليل كنه وعبد الوهاب مرجان وسمعنا يومها الأمير عبد الإله يقول لنوري السعيد سأترك الأمر للملك ليحل هذا الإشكال .. وأخبر الملك بذلك فعلا وكان أول ما قام به أن اتصل تليفونيا بعبد الوهاب مرجان وقال له سيدعوك رئيس الوزراء ومنافسك للاتفاق على من يكون رئيسا للمجلس فلا تتنازل عن حقك وعند حضورنا مجتمعين عند نوري السعيد أصر عبد الوهاب مرجان وكانت النتيجة تنازل خليل كنه. وباعتقادي أن نوري السعيد كان يريد إبراز شخصية الملك كرجل أول في الدولة لأنه كان حسب اعتقادي يحبه حبا حقيقيا.
وهل سمعت من الملك مباشرة رأيا ما برجال السياسة؟
كنت ألاحظ أنه كان يحترمهم جميعا بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية ولم أسمع منه أي رأي سلبي بأي منهم .. حتى المعارضون بعد مغادرتهم القصر كان الملك فيصل الثاني لا يحب أن يغتاب أحدا أبدا.
وعلاقاته العاطفية وما أثير من شائعات حول علاقته بجنفييف أرنولد؟
كل ما أثير عن علاقته بجنفييف أرنولد كذب وافتراء وهذه حقيقة أقولها للتاريخ. لم تكن للملك علاقات كما أشيع، وحين فكر بالزواج كان القرار للأسرة، وهو أن يتزوج الاميرة فاضلة التي كانت تربط والدتها صداقة بأفراد الأسرة (أم عبد الإله وخالاتها) ولكن الأسرة أرادت أن تظهر بأن الملك يحاول أن يختار عروسه فجعله الأمير يلتقي بأكثر من فتاة ليختار. وقد أراه صور بنات الملك محمد الخامس ملك المغرب وابنتى شاه إيران ولم يكن الملك الشاب بعطي أية ملاحظات، ثم قرر الارتباط بفاضلة. وأتذكر عن الخطوبة أننا سافرنا علي جودت الأيوبي رئيس الوزراء آنذاك وأنا إلى استانبول نيابة عن الأسرة المالكة وتمت مفاتحتهم بطلب فاضلة وكان حاضرا يومها عمها ووالدها وأفراد العائلة الآخرين .. وكان معنا نيشان الخطوبة حيث تم كل شيء بعد موافقة أسرة الخطيبة.
وماذا عن علاقة الملك بالجيش ونظرته للضباط؟
يجيب عبد الله بكر ردا على هذا السؤال:
كان الملك يثق ثقة مطلقة بالضباط، ولم يكن يشك بأي منهم ولم يكن يعتقد أن أحدا منهم سيناله بسوء. وأذكر هنا على سبيل المثال أن جلالة الملك حسين ملك الأردن طلب من الأسرة المالكة قبل ثورة تموز إرسال شخص معتمد لنقل معلومات مهمة حصل عليها بشأن تحركات الجيش، وقد ذكر جلالة الملك حسين في مذكراته. وفعلا ذهب رفيق عارف وجاء بالمعلومات، وقد كذب رفيق تلك المعلومات مما جعل الملك فيصل والأمير عبد الإله لا يهتمون بتلك المعلومات. وبعدها بأيام جاء بهجت العطية مدير الأمن العام إلى الديوان، وفي غرفتي قال لي إن هناك تكتلات في الجيش ولدي معلومات تفصيلية سأخبر الملك بها. وبعد مقابلته للملك والأمير استدعى الملك رئيس أركان الجيش وأبلغه بما جاء به بهجت العطية من أنباء فأجاب بأن هذه المعلومات مغلوطة وأن هذا العمل هو تجسس على الجيش من بهجت العطية (ارفضه رفضا قاطعا). وبعد خروجه من حضرة الملك جاء عندي فقلت له: أسمع عن وجود حركة في الجيش يخشى من عواقبها. أجابني بالعامية: "لا تدير بال، ترهات" وأتبعها بقهقهة.
وكانت للأمير عبد الإله اتصالاته الواسعة بالجيش أيضا، ولكنني لم أكن أطلع على تلك الاتصالات.. أتذكر في لقاءاتي الأخيرة مع نوري السعيد انه جاء قبل 14 تموز بأيام وقدم طلبا للملك للحصول على موافقة وزارة المالية لتغيير تذكرة سفره بحيث يذهب من تركيا الى لندن لإجراء فحوصات طبية على نفقته ثم يعود لبغداد وكان هناك فرق في ثمن التذكرة المرة الاخيرة التي التقيته بها كانت بعد نهاية دوام 13 تموز حين جاء لمقابلة الملك وأخبره، وكنت حاضرا اللقاء، بأن الجيش سيدخل بغداد هذه الليلة في الطريق إلى الأردن، وقد اتخذت كافة الإجراءات لذلك.. أتذكر عن تلك المرحلة أيضا أن الملك كان يقرأ التقارير الأمنية الأسبوعية بدقة وكذلك الأمير عبد الإله.
ألم تسمع باسم أي من ضباط تموز قبل الثورة؟ عبد الكريم قاسم أو غيره؟
كلا. لم أسمع بأي من الضباط الذين استلموا الحكم في 14 تموز.
هل كان الملك فيصل يفضل صحيفة عراقية أو عربية معينة؟
أبدا. كان الملك يقرأ جميع الصحف العراقية، كما أنه لم يبين طيلة ممارسته لحقوقه الدستورية أية علاقة خاصة أو متميزة مع أي صحفي عراقي أو عربي أو أجنبي.
آخر مرة قابلت فيها الملك فيصل، وكيف تقوّم فترة حكمه؟
يرتسم الحزن على وجه الرجل الذي تجاوز الثمانين، والذي ظل طيلة ترديد اسم الملك فيصل يغالب حزنه وأسمع منه تمتمة لبعض أبيات الشعر التقطت منها:
أين المليك وأحباب له ذهبوا في ذمة الله ما حلوا وما سكنوا
ثم يقول: كان آخر لقاء لنا بعد الدوام يوم 13 تموز كما أشرت لك، وكان موعدنا يوم 14 تموز للسفر إلى تركيا .. وكان ما كان. أما أنك تسألني عن تقويم حكم معين أجزم لك بأنه لم يكن هناك خائن للبلد في العراق.. كانت هناك خلافات في الاجتهاد قبل تموز وبعده وأصبحت نتائج هذه الخلافات في ذمة التاريخ.
هل كان لدى الملك فيصل الثاني تصور حول طبيعة الحكم الذي يطمح لإقامته في العراق؟
من خلال احتكاكي المباشر به ،كنت ألمس إعجابه بالتجارب الديمقراطية الغربية وخاصة دول شمال أوروبا.. كان يقرأ الكثير عن التجارب البرلمانية ويبدي إعجابه بها، وكثيرا ما كان يبدي طموحه لإقامة نظام مماثل في العراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق