جماعة أصدقاء القصة في الموصل1969:
فصل من تاريخ العراق الثقافي
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
((قصص 69، تولد من كبت وجودنا، من بسمة الشحوب في
جباهنا، من تداخل أفكار تشيد عالم الإنشاء، ولن يسل الأمل في رؤوسنا، نغني للجدب،
ونحرق بخور أهازيج لما نقدمه، ولكنها علامة لوجودنا، إصرارنا الحي رغم كل الرسوم
الذليلة التي تنحتها أزمة الوجوه الصدئة، وكل اغتيال لصوتنا سوف يحقق هزيمة نعرفها
مسبقاً، ونعلنها للشمس والقمر)). بهذه الكلمات والموسومة: "ومضة في الطريق
الخرساء" أفتتح القاص حسب الله يحيى سلسلة حلقات من قصص لجماعة أطلقت على
نفسها (جماعة أصدقاء القصة في الموصل 1969).
ويبدو ان أصدقاء القصة
في الموصل، يوسف الصائغ وطلال ألحديثي، وحسب الله يحيى، أنور عبد العزيز، وعبد
الستار ناصر، وسالم حسين الطائي، وعبد الغني علي يحيى وغيرهم، قد أدركوا أنه لابد
لهم من أن يبدأوا مشروعاً أدبياً، ونضالياً يرتكز على أسس من الوعي بضرورة الخروج
من شرنقة القوالب الكلاسيكية في التعبير عن أنفسهم، وذواتهم، وعصرهم بانسيابية
تعتمد الحرية والأمل والصدق.
وقد وجدوا من حولهم
أناس رحبوا بمشروعهم، وأسهموا معهم في زرع "أكف الحب، والاهتمام، والنقد
الأصيل". ويقيناً أنهم مضوا للولوج في كل الطرق التي أسموها، في حينه، (عرجاء)
وكانوا متأكدين من أن "الومضة ستكبر" وستمدد جذورها نحو الرسوخ؛ فالمشروع نقطة ارتكاز
نحو الفهم، وثورة وثوق حارة في تلامس الأصوات، أما كل الأحلام العصفورية فينبغي أن
تؤول إلى زوال، لذلك قالوا في صدر الحلقة الثانية من (قصص 69) التي صدرت في آذار
1969، أن قصصهم ثورية.. وتصدر "تضامناً مع الحركة النضالية التقدمية في
العالم، والتحاقاً بغد الإنسان المشرق في فلسطين وفيتنام.. إنهم وعدوا قرائهم بأن
تحمل قصصهم رايات الإقدام الصلد، والانفتاح الجاد على التيارات القصصية المتسمة
بالصدق والمعاناة.
لقد جاء ظهور جماعة قصص
69، الأدبية متزامناً مع سلسلة من الأحداث المحلية والعربية والدولية، لعل من
أبرزها انعكاسات هزيمة حزيران 1967، وتمرد الشباب على الواقع المر الذي كانوا
يعيشونه.. حيث الانكسار، والإحباط، واليأس، وخيبة الأمل من أنظمة سياسية ظلت تضحك
على ذقون شعوبها، وتستنزف إمكاناتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأتي
النتائج مؤلمة. فكان لابد لمثقفي الأمة من أن يبحثوا عن طريق آخر يمكن ان
يوصلهم إلى بر الأمان..
وإذا كان نزار قباني قد
عبر عن حالة السقوط تلك بقصيدته الشهيرة (هوامش على دفتر النكسة)، وإذا كان صادق
جلال العظم قد كتب نقداً ذاتياً قاسياً بحق حكامه ومواطنيه في كتابه: (النقد
الذاتي بعد الهزيمة)،فان أدباء الموصل ومعهم زملائهم في بغداد والمدن العراقية
الأخرى، قد وجدوا في (الفن القصصي) ما يعينهم على تحمل المآسي، والتدهور،
والتراجع، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جعلوا من تلك الحالات اليائسة نقطة
انطلاق "لرفض وتجديد الفكر والأسلوب" ولن يكون ذلك، كما قالت مجلة
العلوم (اللبنانية) في حينه في معرض نقدها لقصص 1969، الا "بالانفتاح لكل فكر
يخدم الإنسانية".
أما مجلة ألف باء
(البغدادية) فكتبت تقول ان ما فعله (أصدقاء القصة في الموصل) يشكل، بحق،
"انعطاف حاد في تاريخ القصة العراقية" فبعد ان كانت القصة
ميداناً لايلجه إلا قلة من الأدباء، فان هؤلاء الشباب فتحوا الباب على مصراعيه
ليرتاد القصة اكبر عدد ممكن من الأدباء، وكل ذلك بفعل تسهيلهم النشر الذاتي
المعتمد على إسهام الأدباء أنفسهم مادياً وقصصياً.
أما القاص
الكبيرعبد المجيد لطفي
(1905-1992) فكتب بعد ان قرأ الحلقة الأولى من قصص 69، يقول ان تلك القصص تعكس
"مواهب جديدة تلتصق بالحياة والواقع المرير".. وذهب جوفر حداد أبعد من
ذلك حين عد القصص المنشورة "مجهوداً يسد ثغرة في أدبنا العربي". ورأى
محرر ملحق جريدة الجمهورية (البغدادية) في القصص ومضامينها "قضية شريفة
وعميقة لاتوجهها الأنانية الفردية" وقالت مجلة الأسبوع (البغدادية) أن القصص
"خطوات جادة، عازمة، رصينة".
لقد صدرت الحلقتان
الأولى والثانية من قصص 69 في آذار 1969 بمشاركة مادية وقصصية لشباب من مختلف
الأفكار والاتجاهات السياسية والفكرية السائدة في العراق آنذاك، ولكن ماكان يجمع
أولئك الشباب هو الرغبة في التوثب والفهم، والارتياد المبكر الذي يرصد الحاضر
بإخلاص وينظر إلى الماضي بغضب، لكنه يحمل شارة الإقدام الصلد، والانفتاح الجاد على
التيارات التجديدية في القصة العالمية. وبصدق الشيوخ وحكمتهم قال محمود العبطة،
الكاتب والأديب والقاضي العراقي المعروف (1920-1986)، بعد أن قرأ القصص، بأن له
الشرف في قراءة كل حرف كتبه أولئك الشباب. وقد قيم المسؤولون عن الصفحة الثقافية
في جريدة الثورة (البغدادية) المجموعة بقولهم أنها تتجاوز كل الظروف والصعوبات.
حقاً كانت ردود الفعل
على صدور (قصص 69) ايجابية ليس في العراق
وحده، وإنما في كل الساحة الثقافية العربية، خاصة وأنها عدت تطلعاً عميقاً لمعيار
التعادل الموضوعي بعد الهزيمة، ووجهاً تقدمياً نابعاً عن صميمية حقة، ومحاولة جادة
في تبديد الأقنعة الزائفة، وأصواتا شابة طموحة لكنها خدرة في صخب الحياة والصمت وعنفوان اللامبالاة الفكر.. إنها كما
قالت جريدة الحرية (البغدادية) "اصواتاً تزرع أقمارا في النفوس".
ليس من السهولة حصر
الآباء المؤسسين لجماعة أصدقاء القصة في الموصل، لكن من ابرز الأسماء التي وجدنا
لها إنتاجا قصصياً منشوراً ضمن (قصص 69)، سالمة صالح (مواليد 1942)، ويوسف الصائغ
(مواليد 1933)، وطلال سالم الحديثي(مواليد 1944)، وحامد الهيتي، وعبد الستار ناصر
(مواليد 1947)، ومحسن الخفاجي وعبد الغني علي يحيى، وسالم حسين الطائي، أنور عبد
العزيز، وحسام داؤود، وفاضل الربيعي، وحسب الله يحيى (مواليد 1944)، وعبد الصمد
حسن، ولؤي الزهيري، ومنيب محمود السعدون، وفخري محمد أمين، وريسان جاسم وعبد
الوهاب ألنعيمي وطلال عبد المجيد ومحمود جنداري ألجميلي (مواليد 1944) توفي
(1995)، ويوسف عبدو يحيى (1934-1993) وغازي ألعبادي (مواليد 1935) وجمعة اللامي،
وخالد الخميسي، وفاضل العزاوي (مواليد 1940) وغانم الدباغ (1923 – 1991) وعبد الرحمن مجيد الربيعي، وموفق خضر، ومنير عبد الأمير،
وستار الشيخ، وسليمان البكري، وخالد حبيب الراوي، ومحمد عبد المجيد، وعبد الله
رستم، وسهيلة الحسيني، ومائدة الربيعي، وناجح المعموري.
|
في الحلقة الثانية من
قصص (69) والتي صدرت في آذار 1969، وعلى ورق رخيص، وبحجم متوسط وبواقع (78) صفحة
نقرأ قصصاً جميلة، هي الديك ليوسف الصائغ (بغداد) وبنك الزمن لسالمة صالح (بغداد)،
وحلم الساعة الرابعة مساء لطلال سالم ألحديثي (حديثة) والأصابع لحامد الهيتي
(الحلة) وشتاء الحزن والحب لعبد الستار ناصر (بغداد) وسالم الزنيجي لمحسن الخفاجي
(الناصرية) والإصرار لعبد الغني علي يحيى (الموصل) والهة الضجيج لسالم حسين الطائي
(الموصل)، والغرفة الثانية لأنور عبد العزيز (الموصل) والحقل لحسام داؤد خضر
(اربيل) والمواجهة وحركة الآخرين لفاضل الربيعي (بغداد) والإخفاق لعبد الصمد حسن
(البصرة) وأغنية إلى القمر للؤي الزهيري (الموصل) وأنا لمنيب محمود السعدون
(الموصل) وأصوات الرؤيا لفخري محمد أمين (الموصل) ونهاية شوط لريسان جاسم عبد الكريم (الفاو)..
كان من بين أولئك شعراء
وقصاصون عملوا في الصحافة والتعليم، ولكن وجدنا من بينهم طلاباً، وقد عرفت الصحافة
العراقية بعضهم، ولم تعرف الآخر. لقد تهيأ عدد منهم لإصدار أول مجموعة قصصية، ومن
هؤلاء على سبيل المثال طلال سالم الحديثي الذي أعلن بأن قصته التي ضمتها المجموعة
ليست الا واحدة من مجموعته القصصية (كلنا من التراب).. أما عبد الستار ناصر، فيبدو
ان قصته المنشورة بعنوان "شتاء الحزن والحب" من ضمن مجموعته القصصية
الثانية التي ستحمل العنوان ذاته، ومجموعته القصصية الأولى كانت بعنوان: "الرغبة في وقت متأخر".
أما أنور عبد العزيز
فقد جاء في المجموعة انه مدرس، يكتب القصة منذ سنة 1956 وقد نشر في صحف عديدة منها
الزمان والبلاد والاستقلال. وكان حسام داؤد خضر لا يزال آنذاك طالباً في السنة
الرابعة من كلية التربية وعرف عبد الصمد حسن نفسه انه عضو في ندوة القصة في البصرة
وقد نشر في المجلات العربية وقصته (الإخفاق) ستكون إحدى قصص مجموعته القادمة (رحلة
الأحزان) وقال لؤي الزهيري بأن قصته المنشورة "أول عمل" ينشر له
مع انه يعمل في الصحافة وقد شارك في تمثيل عدة مسرحيات عالمية لرينيه وفارجيون ونال
جوائز تقديرية وأما منيب محمود السعدون، فكان موظفاً في المكتبة العامة في الموصل
وكان ينتظر لهفة المادة ليطبع كتابه (أفكار "مبعثرة") وقد نشر بعض نتاجه
في الصحف اليومية وكذلك الأمر مع فخري محمد أمين، فقصته أصوات الزوايا كانت اول
عمل ينشر له
وهو لما يزل طالباً
جامعياً آنذاك. وكان غانم الدباغ (1923-1991) ويوسف الصائغ (1933 – 2005) من أكبرهم سناً فغانم الدباغ قاص وروائي من الموصل، مارس
التعليم الابتدائي ثم عمل في الصحافة الأدبية ببغداد. أما يوسف الصائغ فشاعر وقاص
ورسام عمل في التعليم والصحافة ونشرت له صحف ومجلات عديدة وقد عرف نفسه بأنه يؤمن
بالوضوح والالتزام الفكري. وقد تخرجت سالمة صالح، وهي ممن ضمت المجموعة واحدة من
قصصها وكانت قد تخرجت في كلية الحقوق (القانون) جامعة بغداد آنذاك وعملت في
الصحافة وأصدرت مجموعتين قصصيتين هما "لأنك إنسان" و "في ركب
الحياة" وكذلك الأمر مع طلال سالم ألحديثي وسالم حسين الطائي، فكلاهما كانا
قد تخرجا من جامعة بغداد، الأول في كلية الآداب والثاني في كلية التربية.
وعدت جماعة أصدقاء
القصة قرائها بأنها ستصدر قصصاً لعدد من أعضائها وضمن "منشوراتها" ومن هذه القصص
القصيرة، مجموعة ضياع في المدينة لعبد الوهاب ألنعيمي وأشياء لطلال عبد المجيد
والكوكبة والعينان لسالم حسين الطائي واعتذرت عن عدم قدرتها على نشر قصص يوسف
الحيدري، وستار الشيخ، وسليمان البكري وذلك لظروف مادية ومطبعية وأعلنت أنها ستنشر
ضمن سلسلتها (القصة 69) حلقتان اخريتان الأولى بعنوان (المواجهة) وتضم (وجوه من
رحلة التعب) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، و(مرح في فردوس صغير) لموفق خضر و(رجلان
على السلالم) لمنير عبد الأمير و(الجسد والأبواب) لخالد حبيب الراوي و (عراة في
المتاهة) لمحمد عبد المجيد و (الزجاجة والذباب) لعبد الله رستم و(الدفن بلا ثمن)
لسهيلة الحسيني و (جنة الحب) لمائدة الربيعي و(أغنية في قاع ضيق) لناجح المعموري.
أما الحلقة الأخرى فستكون بعنوان (الانتظار) وستضم (ضجة النهار) لعبد المجيد لطفي
و (الماء العذب) لغانم الدباغ و (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) لفاضل كلو العزاوي
و (هل تكرهه المدينة) ليوسف الحيدري و(الأزمة) لمحمود جنداري الجميلي و (حكايات من
رحلة السندباد الثامنة) لغازي العبادي و (الوجه المهاجر) لجمعة اللامي و
(الملوثون) لخالد الخميسي.
اتسمت المجاميع القصصية
التي ضمتها الحلقة الثانية من قصص 69 بالتركيز على الجوانب الإنسانية، وخاصة فيما
يتعلق بالصدق، والحب، والحنان، ورفض العنف، والطيبة والشرف، والتفاؤل، والكلام عن
الطفولة والذكريات، والخروج من ضفة الكآبة والدخول في ملكوت العشق والرحمة.. لقد
استحضر عدد من رواد قصص 69 ذكريات مقاومة المحتل في الجزائر وفيتنام وفلسطين
وأفريقيا.. كان باتريس لوممبا. هذا الرجل الأفريقي الذي قتل لانه اسود.. وماوتسي
تونغ في الصين والذي صرح اكثر من مرة بأن الجيش المسلح وحده لا يكفي إذ أننا بحاجة
إلى جيش ثقافي.. وفي واشنطن حيث كان الشعب الأسود يتظاهر ضد التمييز وفي صفحة
أخرى، كانت صورة نابليون، بقامته القصيرة وهو يعبر البحر إلى فرنسا وملايين البشر
تردد وراءه "لا يوجد مستحيل".
وأخيراً، ونحن ننتهي من
رواية قصة (قصص 69) لابد لنا، إلا أن نحيي
مجهودات أولئك الشباب الذين انطلقوا من خلفية واعية، وفهم عميق لما كان يحيط بهم
من متغيرات. ويقيناً أن جهداً
إضافيا كان إلى جانبهم يدعمهم بالمادة والتشجيع، فالأستاذ الفنان ستار الشيخ رحمه
الله صمم غلاف الحلقات، ومطبعة الزوراء الحديثة لم تبخل عليهم، بل وان تجاراً
وأصحاب وكالات سفر.. ومكتبات ومطاعم ومحلات للكماليات والعطور كانوا ممن نشر إعلاناته لديهم، لكي يتمكنوا من تغطية
نفقات الطبع والنشر.. وهكذا فان الهمم عندما تعلو، والنفوس عندما تتسامى، والنيات
عندما تصدق،فان النتيجة تكون عملاً
أصيلا لعل من ابرز سماته انه ينفع الناس ويمكث في
الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق