الاثنين، 15 أكتوبر 2018

البروفيسور عبد الاله الصائغ يكتب دراسة نقدية عن قصيدة سليمان العيسى (خذي شفتي ) بعنوان : الدائرة الدلالية في قصيدة (خذي شفتي)

                     



 البروفيسور عبد الاله الصائغ يكتب دراسة نقدية عن قصيدة سليمان العيسى (خذي شفتي  ) بعنوان :  الدائرة الدلالية في قصيدة (خذي شفتي)                                                                                                                                                                                           بقلم : ا.د. عبد الاله الصائغ                                                                                                  
قصيدة سليمان العيسى (خذي شفتي)[1]
"بعد اثنين وعشرين عاماً.. زار الشاعر بغداد.. وفي دار المعلمين العالية، الدار التي تخرَّج فيها، أنشد هذه القصيدة في مهرجان الشعر التاسع، أواخر نيسان 1969م".
اللوحة الأولى :
خذي شفتي يا دارُ، ولْيركَعِ الحبُّ
يُسَلِّمُ عِنْدَ الباِبِ بالدمعة الهُدْبُ
لثمتُكِ سبعاً.. ما ارتَويتُ.. ولا اكتفَى
على العَتَباتِ السمر ثغرٌ ولا لبُ
أتيتكِ هذا الصبحَ كالسرِ زائراً
كما ارتعشَتْ في العُشِّ صاديةٌ زُغْبُ
خذي شفتي فالطفلُ عاد.. ولَمْلِمي
أغانيه.. هل تَبْلى أغانيه.. هل يخبو؟
خذي شفتي.. هَلْ تُشبِعُ الجمْرَ قبلةٌ
ويُشعِلُ عودَ العمْرِ في خفقةٍ قلبُ ؟

اللوحة الثانية:
صغيرُكِ مِلْءَ الدّار يَنْهدُّ خاشعاً
يشدُّ عليَّ الرمْلُ ؛ يَعْرِفني العُشْبُ
يوشوشني البابُ القديمُ ومَقْعَدٌ
عتيقٌ كَخَمْرِ اللهِ، يصبو كما أصبو
أريحُ بقايا مِن شبابي.. وأرتمي
على الظلِّ، أضلاعي وأضلاعُه نَهْبُ
اللوحة الثالثة :
أنا النخلةُ العطشى.. أنا اثْنان تحتها
أنا دفترٌ لم يفتحاهُ.. أنا الكُتْبُ
خُذي شَفَتي أقرأْ بقايا قصيدتي[2]
يودِّعُها سِرْبٌ.. لِيْلقَفَها سِرْبُ
(أليسَ لها يا دارُ في كلِّ خُطْوةٍ
خيالٌ تساوى عنده البعْدُ والقربُ

هنا وقفَتْ يوماً.. هناك تحدَّثَتْ
هنا ابتسمَتْ.. لما التقى الدربُ والدربُ

هنا ارتعشَ الثغرُ الجميلُ مُتَمْتِماً
بنصفِ صَباحِ الخير.. حسْبُ الهوى حَسْبُ)

اللوحة الرابعة :
كؤوسي على وَهْجِ الشبابِ، ومنبري
كما كان يا داري، ومِحرابيَ الرَّحْبُ
ألُمَّ صدى صوتي، ويُورِقُ في دمي
جدارٌ على هَمْسي وهَمْسَتِها رطْبُ
وأمضي غريباً في المَمَرِّ وأنثني
على ألفِ طيفٍ من ضفائرها يحبو
مَمَرٌّ تركْنا في حناياهُ جَمْرةً
دعي رَمَقاً مِن حَرِّها.. إنّهُ عَذْبُ
اللوحة الخامسة :
أتيتُكِ هذا الصُّبْحَ ظِلاًّ مُجَرَّحاً
أتيتُ وأحلامي على خشبي صَلْبُ
اْقبّلُ بَدْءَ النارِ وهي قصيدتي
وعُمْري وسيْلٌ مِنْ فجائعنا سَكْبُ
واستغفرُ الطفلَ الجريحَ، لقد أتى
حُطاماً، ولا شكوى لديهِ ولا عَتْبُ
أقبِّلُ بَدْءَ النارِ ؛ يومَ تملْمَلتْ
على شَفَتينا أمةٌ ومشى رَكْبُ
طَلْعنا على الدنيا صلاةً جديدةً
عِطاشاً ؛ ويُسْقى من براءتنا الجدبُ
وَسَمَّرْتُ في ليلِ العروبةِ مُقْلتي
ولا بَرْقَ في ليلِ العذابِ ولا شُهْبُ
رَحَلْنا ؛ رحَلْنا جائعينَ وزادُنا
ولو صُلِبَتْ أحَلامُنا.. زادُنا الشعبُ
اللوحة السادسة :
أأنفُضُ عني القبرَ يا دارُ ؟ أطْلِقي
عليهِ اسْمَهُ ؛ لا خوفَ يُجْدي ولا رُعْبُ

أأنفضُ عني القبرَ ؟.. مِن عَتَماتِهِ
يَصُكُّ دمي خطْبٌ ؛ ويسحقني خطبُ
تركنا لأقدامِ الغزاةِ جلودَنا
وغَيْرَ النعيبِ المُرّ ما خاضتِ الحربُ
تركْنا صحارانا.. تركْنا جباهَنا
وقاتَلَ حتى الموتِ وانتصرَ الكِذْبُ
تركْنا.. دعي صمتي يعضُّ على فمي
فَغَيْرَ الفدائيين لم يَلِدِ التُّرْبُ
اللوحة السابعة :
أأُطْعِمُ يا بغدادُ عودي بقيّةً
مِنَ اللحن لا تخشى الحريقَ ولا تكبو؟
تَعَلَّمْتُ منكِ النارَ.. عَمّدْتُ نَبْرتي
بِشَمْسِكِ حتى روَّضَ الوَتَرَ الضَّرْبُ
وأشْعَلْتُ حرفي في لهيبكِ مَرَّةً
فإصرارُه باقٍ، وفرسانُه غُلْبُ
ونُدْفَنُ يا بغدادُ.. ثمَّ يُعيدُنا
إلى الشمس شيءٌ في مقابِرِنا صُلْبُ
بنعشي تحدّيتُ الدّجى، بجنازتي
وأعرِفُ أنَّ الشوطَ في كَفَني صَعْبُ
دعي شفرةَ السكينِ في الجرح واسخري
على شفْرَةِ السّكّين قَدْ يولَدُ العُرْبُ
تمهيد :
ثمة علاقات عِلّية تصل استهلال النص الأدبي بختامه، من خلال عدد من الحلقات المتصلة بالقفل يمكن ابتداؤها مِن أية نقطة شئت، فأنت حرٌّ مثلاً في انتقاء أية نقطة في الدائرة بداية لخط المحيط، بيد أنك لستَ حراً في تأشير نقطة الختـام ؛ لسبب واضح هو أنه في الدائرة تكون نقطة البداية هي نقطة الختام ذاتها ! ! وهذا المنطق الرياضي ينطبق على القصيدة المحكمة المستندة إلى حذق الشاعر في إخفاء مفاتيح النص وتضبيب محيط الدائرة حتى لا ترى نقطتي (البداية / والنهاية).
أما مصطلح (الدائرة الدلالية) الذي انتقيناه زاوية نظر إلى القصيدة فيحيل إلى أن الشاعر يبدأ بصورة تبدو للنظر العجلان منقطعة الجذور بما بعدها من الصور، بيد أنها تمهّد بفنية عالية للصور اللاحقة ؛ إن لم نقل أنها تولّد الصور اللاحقـة ! بعبارة أخرى : إن الصورة الأولى بمثابة مفتاح وحيد يمكنه فكّ مغالق صور النص اللاحقة، فالاستدارة هي أن تنتهي في حيث ابتدأت، أو أن صورة البدء هي صورة الختم ذاتها. أما الصورة (ونعني الفنية) فهي نسخة جمالية تعادل الواقع بالمثال وفق تعادلية مركبة ومشتبكة قوامها التماهي بين المجاز والحقيقة[3].
وقد (دشن) الشعر الجاهلي هذا الضرب من السلوك الدلالي الفني، فكان الشاعر الجاهلي (غالباً) يقف على الأطلال باكياً ومستبكياً، ثم يسأل الدار الدارسة عن الحبيبة والزمن الضائع، ويسترجع ذكريات الشباب متعاملاً معها كأنها الواقع بعينه ! وبعدها ينطلق إلى صناعة صور أخرى تبدو منفصلة عن المشهد الطللي، بيد أن هذه الصور ثمرة المقدمة الطللية دون ريب، فالمديح والغزل والرثاء والفخر.. هذه الأغراض وسواها تتصل بالمقدمة بشكل مباشر ! ! ثمة علاقة إذن مرتبطة بالسببية تتحكم بالقصيدة وتلغي أكذوبة الإلهام في الشعر، فعلى حدّ تعبير الجاحظ (الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير)[4].وإذا كان الشعر صناعة، فإن الشاعر ليس صانعاً اعتيادياً، كما تهيأ لإفلاطون. يصنع قصيدته ضمن محاكاة للمثال، وإنما الشاعر صانع استثنائي عجائبي له قوة الساحر في مغنطة الآخرين!! إنه يخطط لقصيدته بقصدية عالية، فإن توقفت القصدية عند حد معين نهض اللاوعي ليتمَّ المشوار، فالشاعر لا يقول أشياء منعزلة في شعره، والزعم أن القصيدة التقليدية مبنية على وحدة البيت هو قول يرى القصيدة بعين عشواء ! ووحدة البيت حلقة في سلسلة محبكة يتواشج فيها اللاحق بالسابق، والسابق بالأسبق لتستقيم في النهاية الوحدة العضوية للقصيدة كلها ! ففي القصيدة الجاهلية مثلاً أنت قبالة نص مقسم إلى وحدات (دوائر كبرى) الأولى الأطلال والأخرى الصراع وتتصل الثانية بالأولى من خلال تعبير جاهز هو (فدع ذا) أو (عَدّ) والدائرة الثالثة مكرّسة للممدوح أو المرثي أو المهجو أو المفتخِر!؟[5]. وقد تنبّه الجاحظ إلى هذه الاستدارة ونبّه إليها في وحدة الصراع فقال (من عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحاً تكون الكلاب هي المقتولة، وأما في اكثر ذلك فإن الثيران هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة وصاحبها الغانم)[6]. إذن ثمة ارتباط قصدي بين وحدات القصيدة (أو لوحاتها) يعطف اللاحق على السابق، حتى لكأن الشاعر حاضر في كل لقطة وصورة ومشهد، من خلال تخطيط صارم حدا بالدارسين إلى تعليله بالجاهزية والشفاهية، فالجدل ماثل بين الأبيات بما يخفف من الغلو في القول إن القصيدة التقليدية هي قصيدة البيت ويعمق اليقين بأن البيت هو بنية صغيرة لا شأن لها إلا باندغامها ضمن نسق واحد مع البنيات المثيلة الأخرى، وهذا النسق يحبك الوحدات الأخرى في نسيج القصيدة [7].

[خذي شفتي]
أحببت هذه القصيدة في شعر سليمان العيسى، وهي جديرة بالاهتمام بسبب جماليتها العالية، ودلاليتها الحاذقة المبتكرة؛ ولأني شهدت بنفسي سليمان العيسى وهو يقرأ هذه القصيدة في القاعة نفسها والمنصة نفسها والدار نفسها التي عرفته قبل اثنين وعشرين عاماً طالباً يقول الشعر الجميل، مهموماً باقتطاع بلده (الاسكندرون) من الجسد العربي السوري متطلعاً إلى وحدة تجمع العرب على حلم واحد. كنت أقرأ ملامح وجهه ونبرات صوته وحركات يده وميسان جسده النحيل المرتبك، وقد تعرفت على سليمان العيسى (وكنت قد قرأت شعره منذ بواكير قراءتي للشعر) عام 1969م فهو عضو الوفد السوري وأنا عضو الوفد العراقي، ومما عمّق المودة بيننا وجود صديق مشترك بين الاثنين هو الشاعر العراقي المعروف محمد جميل شلش، فقد كان شلش حريصاً على زرع المودة بين استاذه وصديقه سليمان العيسى، وبين عشاق شعر العيسى. فتحدثنا طويلاً والتقطنا صوراً كثيرة وقد كتبت في مجلة [الكاتب العربي] التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب الآتي: (في ضحى 24 أبريل/ نيسان 1969م أنشد سليمان العيسى قصيدة ملتهبة من المنصة ذاتها التي عرفته عهد الشباب تلميذاً خجولاً مشاكساً!! حدث ذلك في قاعة كلية التربية ببغداد التي ورثت بزهو التراث العتيد لدار المعلمين العالية التي شهدت إرهاصات الشعر الحر وميلاده. ضجّت القاعة بالتصفيق وقد اكتظت بوفود الأقطار العربية المسهمة في مؤتمر الأدباء العرب السابــع! ! وكان أكثر المؤتمرين احتفاء بقصيـدة العيسى رجل كأني أراه أول مرة!! يجلس إلى جانبي مربوع القامة قصيرها وقد دخل العقد الخامس من عمره!! لفت فضولي منذ مبتدأ المؤتمر في قاعة الخلد –يرحمها الله- ثمة سلطان محبوب يمارسه هذا السمين ذو النظارتين السميكتين على معارفه من أدباء المؤتمر ومتأدبيه عراقيين وعرباً، رجل ذو سلطان ومظهر ارستقراطي.. يضعف أمام الذكريات التي نضحت من قصيدة العيسى.. فينشج ويخلع نظارتيه ليمسح دمعات ترقرقت من عينيه المتعبتين.. إعترتني الحيرة فسألت صديقي القاص –موسى كريدي- رحمه الله: يا موسى من هذا المربوع الذي أبكاه سليمان العيسى ؟ فعجب تِرْبي قائلاً: وكيف تجهل شاذل طاقة ؟ وإن هي إلا زُمينة حتى نهض شاذل طاقة وأنشد [لا تقولي انتهينا]، فكان أكثرنا احتفاء به وبشعره سليمان العيسى ومحمد جميل شلش و حسين مردان،  رحمه الله، رائد قصيدة النثر!! ثم رأيت العيسى فاتحاً ذراعيه ليعانق طاقة الذي نزل للتو من المسرح مفعماً بزهو باد!! رأيتهما يتعانقان ويبكيان!)[8].. أحببت هذه القصيدة [خذي شفتي] وقررتها على طلبة الماجستير والدكتوراه في جامعة الموصل منذ 1984م وعلى طلبة الماجستير في جامعة الفاتح منذ 1991م في درس تحليل النص، وبالغت في عشقي لهذه القصيدة فطلبت إلى طلبة الدراسات العليا حفظها بتمامها، فضلاً عن تحليل مستوياتها الجمالية والدلالية! وقد استثمرت وجود الشاعر سليمان العيسى في صنعاء المحروسة ولقاءاتي المتكررة معه في مقيل الشاعر د. عبدالعزيز المقالح، هذا المقيل التاريخ والمنبر الذي شهد عمالقة الشعر والأدب والفكر. فهاتفت الشاعر سليمان العيسى مهاتفة طويلة سألته فيها عن أجواء هذه القصيدة ومغالقها، و دار المعلمين العالية وعلاقاته بزملاء الدراسة والشعر: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة وشاذل طاقة وديزي الأمير وإحسان الملائكة ومحمد علي إسماعيل البصري وعبدالجبار المطلبي وعاتكة الخزرجي وأحمد قاسم الفخري الموصلي ورمزة عبدالأحد كما سألته عن الأساتذة الكبار الذين درّسوه وزملاءه في دار المعلمين العالية وكانوا سبباً مهماً في تخريج صفوة من الشعراء الرواد، أساتذة من طراز د. متي عقراوي، د. خالد الهاشمي، مستر وود، د. مدام البصير، د. مصطفى جواد، د.هاشم عطيه، أ. حسن الدجيلي، أ. طه الراوي، د. عزالدين آل ياسين. د. عبدالعزيز الدوري، أ. جاسم محمد. د. محمد مهدي البصير.. أولئك الصفوة من العلماء الذين درّسوا سليمان العيسى ونازك والسياب.. وكانت إجابات سليمان العيسى على أسئلتي صاعقة تماماً، فقد كشف لي أسراراً (لم يحو بعضها كتاب) عن حياته وزملائه الكبار، بل وتلامذته من الشعراء المعروفين الذين نعموا بتدريسه لهم في إحدى ثانويات بغداد كالشاعرين: شفيق الكمالي ومحمد جميل شلش. فقررت وضع هذه المعلومات (الثمينة جداً) في كتابي الجديد (النظرية وتحليل النص)[9].
القراءة الأولى: تتضمن [خذي شفتي] خمسة وثلاثين بيتاً، فإذا طرحنا منها ثلاثة أبيات اقتبسها الشاعر من قصيدة قديمها، فالحاصل يكون عندها اثنين وثلاثين بيتاً! بيد أننا ولأسباب منهجية تتصل بآليات تأويل النص سنعتد القصيدة خمسة وثلاثين بيتاً وعندنا أن سليمان العيسى كان ومازال حريصاً على موضعة الأبيات (11-12-13)، بل وقد سمعته في 24/4/1969م يبدأ قصيدته بـ :
  سليني وقد أوفى على السفر الركبُ         أعام مضى يا دار أم حلمٌ عذْبُ؟
وإذا كان العيسى قد قرأ حنينه لأطلال دار المعلمين العالية بعد اثنين وعشرين حجة، فقد قرأ زهير بن أبي سلمى حنينه لأطلال أم أوفى بعد عشرين حجة أيضاً:
   وقفتُ بها من بعد عشرين حجّةً          فلأياً عرفتُ الدار بعد توهّمِ
بيد أن وقفة العيسى، تشبه وقفات الآخرين وتغايرها، لمسوغات تتصل بتجربته الرائدة ورؤيته الصافية للقضية التي وهب عمره لها، بحيث يشقّ على الدارس التمييز في [خذي شفتي] بين الدار وبغداد والعروبة والحبيبة والشباب والشيخوخة والقضية، وهو دأب العيسى في معظم قصائده! لقد انتقى العيسى البحر الطويل موسيقى لقصيدته لإدراكه الطاقات النغمية الحزينة فيه، ولاشك أن الشاعر حريص على اختيار البحر الذي يحاكي بإيقاعه النغمي إيقاع عاطفته وهمّه، والطويل له منزلة فاقت سائر البحور لأنه يناسب أكثر الرؤى تعقيداً لقابليته في التكيف، ولهذا استأثر هذا البحر المتميز بثلثي الشعر العربي القديم وثلث شعر الأعشى وأكثر من نصف شعر أوس[10] وقد توصل إبراهيم أنيس إلى [أن النطق ببيت من الطويل يتم خلال تسع نبضات من نبضات القلب][11] ثم اختار العيسى حرف الباء قفلاً لأبيات القصيدة والحرف المتكرر (في القافية مثلاً) ذو خصائص نغمية دلالية تسوّغ انتقاءه. يقول ابن جني (فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلَئِبٌّ عند عارفيه، وذلك انهم كثيراً ما يجعلون الحروف على سمْت الأحداث المعبّر عنها)[12] وقد حدّد ابن جني طبيعة الباء الانفجارية (فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض)[13] والباء حين تقفو الأبيات تلزم القارئ في كل بيت أن يغلق شفتيه إغلاقاً تاماً ودفعة واحدة ليخرج الهواء ساخناً بعد انفجار الصوت مثل زفرة المصدور!! ولم يكتف العيسى بهذا الضرب من الانتقاء، بل جعل الباء مضمومة على صعيد الإيقاع البصري فقط ومشبعة واواً على صعيد الإيقاع السمعي، فيتعين عليك أن تنغّم الواو المترددة على هذا النحو (و و و و.. ) بعد كل بيت، فكأنك تتوجع من العبارة وما تكظمه من ذاكرة فادحة!! زد على ذلك الولع المعروف لدى العيسى في استثمار المخارج الصوتية للحروف وصناعة علاقات تآلف وتخالف في بنياتها الصغيرة وفق حس هارموني يوشّي القصيدة بنسيج نغمي زاهٍ، فكأن سياقات الإيقاع محاكاة حاذقة جداً لسياقات المعنى العام، فالاستدارة الدلالية واجدة في الايقاعين: الخارجي والداخلي استدارة نغمية! وهذا سلوك جمالي يقدر عليه الصفوة من الشعراء! قارن التردد الجمالي الكامل في تكرار أ- المعنى، ب- الجملة، جـ- الكلمة، د- الصورة، هـ- الحرف فضلاً عن العطف والتناظرات البصرية والسمعية، إذْ أن وكل صورة منتظمة في بحر [خذي شفتي] الطويل قائمة على ثلاث بنيات أ- بنية صوفنية، ب- بنية دلالية، جـ- بنية إيقاعية. ولن تكتفي صور القصيدة موضوعة التحليل بهذه البنيات التي تحيلها – أحياناً – إلى فجوة التشابه بينها وبين صور قصائده الأخرى أو بينها وبين صور الشعراء الآخرين فاجتهدت وسائل جديدة تجلّت في استثمار الصورة المفردة أو المركبة التي تجترح ضرباً من التطريب داخل البحر نفسه بما يحاكي اجتهاد المنشد داخل بنية المقام الصارمة! فأنت تأنس لقرع قوي أو نقر شفيف أو همس مترنّم : قارن للمثال حسب:
سبعـاً = سـب + عـن. ثغـراً = ثغ + رن. زائـراً = زاءِ + رن. صـادية = صـادي + تـن. قبلـة = قبـل + تـن. خفقة = خفق + تن. خاشعاً = خاش + عن. مقعداً = مقع + دن. عتيقٌ = عتي + قن ! ! وسيان في إشبـاع الحـركة : الكسر أو الفتـح أو الضـم مثلاً: مقعداً = مقـع + دن. مقعدٍ = مقع + دن. مقعدٌ = مقع + دن! والعبرة بالصوت والصدى التراخي الصوتي الذي يقفل بسبب خفيف يحاكي القرعة أو النقرة أو الهمسة (دن - تم – رن) ! وما أكثر اجتهادات العيسى النغمية التي تهيئ لنا القول أن شعر سليمان العيسى أطروحة مهمة في الجدل بين الجملة الدلالية والجملة النغمية، أطروحة تغني أي باحث بالأدلة المعضّدة والاجتهادات المعزّزة..
القراءة الثانية: وُلِد سليمان العيسى عام 1921م ودخل دار المعلمين العالية عام 1944م وتخرّج فيها عام 1947م، وقد تعرّف على بدر شاكر السياب أمام باب عميد الدار الدكتور متي عقراوي. ثم جلسا في رحلة واحدة، ورعاهما معا شاعر ثورة العشرين الدكتور محمد مهدي البصير وأدخلهما اللجنة الثقافية التي كان يرعاها بنفسه. وإذا فاتته الزمالة الدراسية مع نازك الملائكة التي سبقته فتخرجت قبل انتسابه إلى الدار بأربع سنوات فإن زمالة أختها إحسان الملائكة لم تفته، وكانت إحسان مشرقة الوجه، حلوة اللسان، حميمة مع زملائها وزميلاتها.. فكتبت مرة على أجندة زميلها سليمان كلمات حلوة تعرب فيها عن إعجابها الشديد بشعره. فاستأذنها العيسى بنشر هذه الكلمات الفاغمة مقدمة لديوانه الأول [مع الفجر] الذي صدر عام 1952م وكانت هذه الأديبة الساطعة قد كتبت من قبل مقدمة لديوان شقيقتها نازك الملائكة[شظايا ورماد]. لم يكن سليمان العيسى مهووساً بالجنس كما هو حال السياب والبياتي ولميعة عمارة وربما كانت وضاءة ملامحه وملاحتها، وخجله غير الاعتيادي وتربيته الخاصة وبيئته السورية سبباً مهماً لاعتدال نظرته إلى المرأة، ويبدو لي أنه كان فارس أحلام كثير من طالبات دار المعلمين العالية في قسمي اللغة العربية والإنجليزية، وذلك ما لم يقله العيسى لي في المقابلة الهاتفية..
بيد أنني استنتجت ذلك من قصيدته [خذي شفتي]. فالشاعر لم يقل لدار المعلمين التي أنْسَنَها فاستحالت أنثى ذات جاذبية، لم يقل لها أعطني شفتك، كدأب الرجال والمحرومين منهم بشكل أخص، فهو أطلقها دون وعي (خذي شفتي) ويبدو أنه اعتاد أن تبادره الجميلات بالتقبيل. زد على ذلك أن هذه القصيدة لم تَشِ في أية لقطة أو صورة بحرمان هذا الشاعر من الحب، يقول:
خذي شفتي أقرأْ بقايا قصيدتي
يودّعها سِرب ليلقَفَها سربُ
و (سرب) مقترنة في مخيال الشعر بالإناث.. سرب الظباء، سرب القطا.. إلخ. وهو زهو فحولي ممتلئ يغاير شكوى زميله السياب !

يا ليتني أصبحت ديواني
لأفِرَّ من صــدر إلى ثـانِ
قد بتّ من حَسَدٍ أقول له
يا ليت من تهواك تهواني !!
كل ذلك وسليمان تلميذاً – كما أخبرني – لم يكن مشغولاً بالشعر وهو موهبته الكبرى ولا بالمرأة وهي ضالة ابن العشرين، فشغله الأول والأخير هو القضية القومية، فهو غاضب على الحكام الذين يحسنون الدفاع عن امتيازاتهم ضد الشعب ويعجزون عن الدفاع عن الأرض أمام أطماع الغرباء، والعيسى ذو رؤية دائرية، فالاسكندرون مثل عربستان وهما مثل فلسطين، والحاكم الظالم في بلد عربي بعيد هو الحاكم نفسه في العراق، فالواقع الخشن واحد والمثال الجميل واحد، فقد وجه الدعوة مرة لشاعر العرب محمد مهدي الجواهري بوصف العيسى عضواً في اللجنة الثقافية ليلتقي في صباحية شعرية بطلبة دار المعلمين العالية وطالباتها، رغم أن السلطة عهد ذاك كانت غاضبة على الجواهري ومنزعجة من أنشطة دار المعلمين، فاستجاب الجواهري على الفور وقرأ عشراً من قصائده الغزلية والثورية ! بل إن سليمان العيسىقرر استثمار عيد المولد النبوي الذي تلبس له دار المعلمين أجمل حلتها لتستقبله فقرأ قصيدة في القاعة التاريخية للدار، وكان في طليعة الحضور الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي ووزير خارجيته د. فاضل الجمالي وحشدٌ من أركان الدولة، والقصيدة كانت تنذر الحكومة العراقية بالويل والثبور لأنها قمعت ثـورة مارس 1941م وأعدمت عقداءها الخمسة وعلقتهم على باب وزارة الدفاع.. كـان ذلك في عيد المولد النبوي عام 1946م ومما جـاء في القصيدة التي استمع إليها الأمير عبد الإله:
   العفاريتُ في الزجاج لهيبٌ       فحذار انفجارَهنّ حذارِ
   أنا أخشى انتفاضةً تغسل الفردوس  غسلاً من الأذى والعارِ
فغضب الوصي على عرش العراق وأمر بفصل التلميذ سليمان العيسى من الدار، بيد أن العميد الدكتور خالد الهاشمي وهو رجل ملء كرسيه أقنع الوصي بصرف النظر عن فصل هذا الطالب القادم من الشام والمطرود من بلده (الإسكندرون) فإلى أيـن يذهـب؟ وتعهـد العميد أن يوجه لوماً لسليمان العيسى! ![14] القصيدة إذن تستعيد صوراً غابرة مازالت متألقة، يشتجر فيها الحب والشعر والسياسة والحزن.. لقد عاد إلى دار المعلمين بعد اثنين وعشرين عاماً ليجد الوجوه غير الوجوه، ثبتت الدار مكاناً وتحوّلت زماناً، فأي خطب هذا؟ بدأ العيسى وهو المخلوق العاطفي يستعيد في ذاكرته أيام الدراسة، موظّفاً موهبته إلى أقصى حدّ لكي تبدو الذكريات جزءاً من نسيج الواقع، فتذكّر زميلاته ثم قرّب عدسة الذاكرة من شابة ذات جاذبية كان يمحضها حبّه، وإذ استطاع أن يميز حبيبته من بين جلبة الوجوه والأصوات، أعاد عقارب الوقت إلى الخلف فألغى الزمان ليعود ضمير المتكلم صافياً شاباً يختزن عطش العمر، فالعيسى يعترف مرة واحدة في [خذي شفتي] ولم يكن ليجرؤ على الاعتراف عهد الدراسة! ثمة دائماً عيون فضولية وآذان تتحسس الشهيق والزفير، وكانت الحبيبة من الدلال والحياء الشديد والحذر المفرط بحيث تلقي عليه تحية الصباح مختزلة (بنصف صباح الخير) والشاعر مكتف بهذا النصف ومبتهج حتى لكأنه متخم به. وإذا جر الشاعر الخيبة إلى النقطة المضاءة من الذاكرة فإن هناك عدداً من الصور والمشاهد التي تكمل البانوراما، من نحو جلسة الحبيبين تحت النخلة العطشى (أشار سليمان العيسى إلى تلك النخلة في 24 إبريل 1969م ورأيتها بنفسي وحيدة حزينة!!) وهما يوهمان زملاءهما بأنهما لم يجلسا للحب وإنما للمذاكرة. تنهل القصيدة برمتها من الذاكرة حتى أن سليمان العيسى وافقني على قولي (إن هذه القصيدة سيرة ذاتية لك ولأفكارك)! فالشاعر لم يكن تلميذاً هامشياً (يرضى من اللحم بعظم الرقبة) فهو ناعم بنجومية محببة في أرجاء الدار، وإذا قال شعراً تلقّفته الحسناوات (يودعها سرب ليلقفها سرب)!! جاء في اللسان / سرب (ويقال سرب من النساء على التشبيه بسرب الظباء)!! كل ما في الدار صديق للشاعر يعرفه ويسأل عنه (يشدّ عليّ الرمل)، (يعرفني العشب)، (يوشوشني الباب القديم ومقعد عتيق)، (النخلة العطشى)، (الدرب والدرب)، (المنبر والمحراب)، (الجدار)، (الممر)!! ثم تطل علينا في غمرة استرجاعاته عذابات الشاعر الفادحة، تطل علينا الأرض الطاهرة التي جاستها أقدام الغزاة الشبقة، هي عذابات ذات نكهة خاصة، وقد قدّر للعيسى ذي الرؤية النافذة أن يشهد ملحمة كبرى بطلاها: الصدق والكذب، وإذا قرّت الملاحم عادةً على أن تنهي الصراع بانتصار الصدق على الكذب والخير على الشر، فإن الملحمة التي أثّلها العيسى مختلفة، فالصدق يتخلى عن كل شيء والكذب يربح كلّ شيء.
تركنا صحارانا، تركنا جباهنا     وقاتل حتى الموتِ وانتصر الكِذْبُ
والإشارة الأجدر بالانتباه هي أن مستهل القصيدة كرّس حرف النداء لدار المعلمين العالية، ثم تحوّل من البيت (30) ليكون مكرّساً لبغداد!! وبغداد مقترنة عند العرب بالعنفوان العربي والحلم والبواكير!! فلم يأت تبادل المنادى بين (الدار) و (بغداد) إلا ليعمقّ إحساس الشاعر بالفجيعة. تعلم العيسى على مقاعد الدار النحو وتاريخ الأدب والحب ولكنه تعلم من بغداد دروساً أخرى تتصل بالنَفَس الملحمي الذي تنسّمته القصيدة (تعلَّمتُ منكِ النار)، (عمَّدْتُ نبرتي)، (أشعلت حرفي في لهيبكِ)! بغداد القصيدة هي الوجه الآخر لدار المعلمين العالية، لم يبق منها سوى الذكريات وشظايا الحلم! !
القراءة الثالثة / المركّزة :أشرنا في القراءة الأولى ونحن نؤصل مصطلح العنوان إلى أن ثمة علاقات تصل استهلال النص الشعري بختامه، من خلال عدد من الحلقات المتصلة بالقفل، فأنت حر مثلاً في انتقاء أية نقطة في الدائرة (القصيدة) بداية لخط المحيط، بيد أنك لست حراً حين تؤشر نقطة الختام لسبب مهم جداً هو أنه في الدائرة وأخواتها من ذوات المحيط تكون نقطة البداية هي نقطة النهاية ذاتها. ولسوف نعتد رقم (7) الذي ورد في القصيدة (لثمتك سبعاً ما أرتويتُ) وهو رقم ذو شحنات فيزيائية وميتافيزيائية، نعتد وروده من قبيل المصادفة (كذا) ونحن نكتشف أن قصيدة [خذي شفتي] متألفة من سبع لوحات، لا تقبل النقصان ولا الزيادة !! إذن: مركزية القراءة الثالثة قائمة على سبع لوحات وهو ما جعلنا نؤثث القصيدة وفق هذه (السبعية).
    1- اللوحة الأولى: أبياتها من 1 – 5 وهي خطاب مع الدار بعد أن تماهت في مخيال القصيدة مع الحبيبة، فسيان أن يقبلّ شفتي الشاعر شفتا الدار أو شفتا الحبيبة، فاستـدارت [خـذي شفتي] في ثلاثـة أبيات من أصـل خمسة ! والبيتان المبرّءان من (خذي شفتي) ممعنان في القبلة والوجد!! ب 2 خال من (خذي شفتي) لكنه يبوح :
لثمتكِ سبعاً ما ارتويتُ ولا اكتفى       على العتبات السّمر ثغر ولا لُبُّ
ورقم سبعة هنا لا وظيفة له سوى التكثير الأسطوري للقبل !! هذه اللوحة (الاستهلال) ستحيلنا على لوحة أخرى لاحقة وتصنع جدلاً وظيفياً معها! وينبغي الانتباه الدقيق إلى أن اللوحة (1) كرّست اللازمنية فالعيسى داخل القصيدة اثنان (ابن العشرين وابن الثماني والأربعين) الكهل هو الطفل الذي عاد ب 4 إلى أحضان حبيبته (الدار) وهو يدري أن أغانيه باتت كِسَراً فمن يجمعها ويرممها، سوى الدار؟ فهل تبلى أغاني الأيام الخالية وهل تخبو نجومية الشاعر الطفل؟ فالصياغات التي نهدت بها اللوحة 1 رسمت الطفولة (البراءة) في الكهولة، والطفولة تَجْذِبُ قبل أن تنجذب، تُقَبَّل قبل أن تقبِّلَ، فتتكرر جملة (خذي شفتي) في ب 4 ب 5. إن قيمة هذه اللوحة كما سنرى كامنة في امتلاكها المفاتيح المساعدة على فتح مغالق اللوحات اللاحقة، فهي متوفرة على علامات متوترة (تنذر) بوقوع مصائب لا حصر لها، والصور الطللية التي تتموضع في الاستهلال (عادة) ما تتمحور حول غايتين : الأولى إظهار جماليات الصنعة لدى الشاعر فهي مضمار للمنافسة بين الشعراء ! والأخرى إخفاء المجموعات الرمزية إلى حين !! ولعل الصياغات التالية التي تبدو (للوهلة الأولى) عفوية وهزجة كفيلة بعد التحليل والتأويل والترميم بقراءة العذابات القادمة في اللوحات اللاحقة!! قارن: (ب 1/ خذي شفتي/ وليركع الحب/ يسلم عند الباب بالدمعة الهدب) (ب 2 / لثمتك سبعاً ما ارتويت) (ب 3/ كالسر زائراً / كما ارتعشت صادية زغب) (ب 4/ ولملمي أغانيه) (ب 5/ هل تشبع الجمر قبلةٌ)!! فكما أن الشاعر الجاهلي لا يقف على الأطلال ليبكي الرسوم الدارسة وينعي حظه العاثر، وإنما ليصل ما انقطع من الزمن – ولو بالوهم – ويوشج بين عناءات اليوم وعذابات الغد، ثم وهذا هو الأهم ليطلس عناءات وعذابات الزمنين (اليوم والغد) بإشراقات (الأمس).. هكذا هو حال المقطع الأول الذي جعله سليمان العيسى مطلعاً لقصيدته فهو يؤسس برؤية معاصرة ورائدة وبلغة شعرية صافية مركزية القصيدة دون معاضلة.
2- اللوحة الثانية: أبياتها (6 – 7 – 8) وهي لوحة مجرَّحة، كأن الدار لم تنتبه إليه (صغيرك ملء الدار ينهدّ خاشعاً) فإذا لم تعرفه الدار فلتنظر إلى رملها وعشبها!! العيسى ترك الدار وعاد إليها يسألها أن تحدّق فيه وأن تحزر من هو؟ وهي محنة كابدها من قبل شاعر مهجري:
وطن النجوم أنا هنا          حَدّق، أتعرف من أنا؟
والمثال ليس فجاًّ فالدار عند العيسى تمتلك ملامح الماضي والوطن معاً.. ولهذا وضع (بغداد) محلها كما سنرى!! العيسى (ينهد خاشعاً) لماذا؟ (ينهدُّ) ولماذا (خاشعاً)؟!؟! وهاتان الصفتان ليستا جديرتين بـ الطفولة على أي مستوى كانت. إن علامات (التجريح) كافية لإيضاح دلالية هذه اللوحة (ينهدّ/ خاشعاً/ يوشوشني/ الباب القديم/ مقعد عتيق/ أريح بقايا من شبابي/ أرتمي على الظل/ أضلاعي وأضلاعه نهب) العلاقات – كلها – تحيل إلى صورة كامدة ؛ ستجد رديفاتها في اللوحات اللاحقة؛ ويبدو أن هذه الأبيات الثلاثة كانت فادحة الإيلام، فلابد من أن تستنجد القصيدة بصورة مشرقة لتحصل على الموازنة بين رماد اللوحة الثانية وجمر اللوحة الثالثة.
3-     اللوحة الثالثة: تتوفر على الأبيات (9-13) خمسة أبيات جاءت لترمم اللوحة الكامدة الثانية بإشراقات صوفنية مشرقة تمتح من خزين الذاكرة؛ وليس ثمة سوى الحبيبة الأسطورية مولِّد للزهو لتؤسس خطاً منحنياً يشكل جزءاً مهماً من الدائرة الصوفنية، فثمة ثلاثة ضمائر في هذه اللوحة: ضمير المتكلم/ ضمير الغائب/ الضمير المزدوج!! قارن :
الضمير الأول: 1 – أنا النخلة العطشى×    أنا اثنان تحتها
               2 - أنا دفتر    ×      أنا الكتب
               3 – شفتي              ×      قصيدتي
الضمير الثاني: 1 - يودعها سرب   ×      يلقفها سرب
                2 – لها خيالٌ         ×      تساوى عنده
                3 – هنا وقفت        ×      هناك تحدثت
                4 – هنا ابتسمت      ×      هنا ارتعش الثغر الجميل
أما الضمير الثالث (المزدوج) فهو ما يسميه البلاغيون التجريد[15] ويحدث هذا عندما يتماهى ضمير المتكلم مع المخاطب أو مع الغائب وذلك متواتر في الشعر العربي الفائق بوسائل تدعو إلى الإعجاب:
أنا                      =      اثنان تحتها
أنا دفتر                        =      لم يفتحاه
(ي × ها) قصيدتي           =      يودّعها سرب / يلقفها سرب
(دربي × دربها)              =      التقى الدرب والدرب
ارتعش الثغر متمتماً   =      يتمتم لي
والسؤال هو: لماذا فكك وعي الشاعر (أولا وعيه) الضمائر ثم أقصاها عن مألوفها؟ بَلْهَ وظائفَها؟ وراح يشكلها بطريقة مختلفة ؟ لماذا انتفخ الزهو في (أنا) العيسى ضمن نرجسية غير عدوانية؟ نرجسية محببة!! لماذا استحضر حبيبته غبّ لوحة كامدة؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة وسواها يقع داخل منظومة الاستدارة الصوفنية الدلالية، فالشاعر بدأ بالإستذكار المزهو وثنى بالاستذكار المطفأ ليثلث بالاستذكار المبهج! لقد طوع الشاعر الزمان ثم أدخله القصيدة [خذي شفتي] ليلغيه أو يوقف جريانه أو يلغي حدوده: مازال الشاعر وحبيبته تحت النخلة (العطشى !!) فالصورة الشعرية الماتحة من الذاكرة شبيه الصورة التشكيلية، تلبث على حالها عشرات السنين دون أن تفقد بريقها أو حرارتها أو قيمتها !! وإذا كانت الصورة التشكيلية بحاجة إلى الترميم بفعل معامل الزمكان، فإن الصورة الشعرية خالدة الألوان والحركة والخطوط.. ولم يكتف العيسى بتطويع الزمان العصيّ، بل طوّع أيضاً توأمه المكان!! (فهنا) تحيل إلى (هناك)! وسيلاحظ محلل هذه القصيدة أن هذا الزهو بـ الأنا المحتفية) والاسترجاع الطرب يخبئان حزناً عصياً على الاحتمال لا يختلف عن رقصة المذبوح!! والمسكوت عنه في اللوحة الثالثة يمكن تأويله بـ (أن هذه الصور المشرقة والذكريات المونقة، تآكلت مع الزمان فتآكل معها (الحلم والشباب) فاللوحة الثالثة التي تحيلنا على الرابعة تخبئ صدمة الانتقال من (الذاتي) إلى(الموضوعي)، دون أن يستشعر المتلقي فجوة ما في النقلة أووحشة النقلة أو قفزة فوق المسوغات.
4- اللوحة الرابعة: وقوامها الأبيات (14، 15، 16، 17) التي توحي في الظاهر أن مكانها ينبغي أن يكون اللوحة الثالثة، بسبب الجهر الذي وسم الصوت واللهب الذي حاق باللون، بيد أن الأمر ليس كذلك، فهذه اللوحة (الرابعة) هي المعبر الوحيد نحو اللوحات الأربع (اللوحة الثالثة معها) فاللوحات حلقات تنفتح الواحدة على الأخرى، لكن الحلقة الرابعة مكلفة بتغيير الوزن النوعي للحلقات السابقة كي تندغم أو تنسجم مع اللوحات اللاحقة رغم اختلاف الموضوع أو اختلاجه أو اختلاله كما يتهيأ  للمحلل أو المتلقي. فالأطلال التي وعبت دار المعلمين العالية هي الأطلال ذاتها التي وعبت عمره، وهي ذاتها التي وعبت حلمه، فالانكسار الذي كان إشارات ورموزاً وتمويهات سيبدو بعد الآن عالي النبرة مجرّح الإشارة، وآية ذلك ب 17 الذي خبَّأ توسلاً دامعاً أو خطاباً فاجعاً للدار، يرجوها ويعلم يقيناً أنها لن تجيبه إلى رجائه لسبب بسيط هو أن هذه الدار مسلوبة الإرادة مثل وطننا العربي (دعي رمقاً من حرّها إنه عذب). ليس في وسـع الدار أن تبقي رمقاً من دنياه التي أحبّها وهي الأدرى بأن هذا الرمق عذب ! وكان على المحلل أن لا يدع البيت (9) ينزلق من تحت مبضعه، لأنه يسوّف المحنة! الحبيبان يستظلان بنخلة عطشى والنخلة (العطشى) ضئيلة الظل فجة الثمر، والنخلة في المخيال الشعري إنسان، والنبي (ص) يأمرنا أن نتواصى بـ (عمتنا النخلة) ورحم الله الشاعر الذي قال (وزرنا أشرف الشجر النخيلا). إذن عطش النخلة معادل دلالي لعطش الإنسان العربي وسط الطوفان، والدفتر الذي لم يفتحاه هو دفتر الزمن العربي القادم فقد شغلهما الظل الضئيل والشعور المشبوب الغامض عن فتح الدفتر، بَلْهَ قراءته ومعرفة ما فيه من سطور فاجعة، وكما سأل غسان كنفاني في [رجال تحت الشمس] (لماذا لم يقرعوا الخزّان) نسأل نحن (لماذا لم يفتحا الدفتر)؟! وغب ذلك تتوارى صور وتتجلى صور ضمن منظومة الثنائيات:
(أنا النخلة × أنا اثنان) (أنا دفتر × أنا الكتب) (يودّعها × يلقفها) (البعد × القرب) (الدرب × الدرب) (ألم × يورق) (همسي × همستها) (نصف صباح الخير المنطوق × النصف الآخر غير المنطوق)! وهذه الثنائيات هي النفق الأكثر إتساعاً وأماناً الذي يفضي  إلى هم القصيدة، فأنت مع هذه القصيدة دائماً مع الشيء ونقيضه أو رديفه أو شبيهه، هذه اللوحة المكلفة بالنقلة المطلوبة من طللية مطمئنة ساكنة فمتحركة فمضطربة..!! وإذا كان لكل لوحة بيت يكتنز كلّ أسرار اللوحة ويولد عدداً من الصور والصياغات التي تناسبه، فإن هذه (اللوحة النقلة) أيقظت السياق على هذا النحو:
(وامضي غريباً في الممر وأنثني) (على ألف طيف من ضفائرها يحبو) ففي هذا البيت (أمضي) (غريباً) (انثني) (يحبو) وهذه الصور الأربع تنبّه السياق إلى وظيفته الأساس وهي تمكين الاستدارة الصوفنية من اكتمال دوائرها، فالأطلال هي الواقع العربي، معهد المعلمين، ملعب الحسناوات والفتيان العطشين إلى أحضان الحبيبة اكثر من مقاعد الفصل ! وإلى قواعد اللعبة الصبيانية أكثر من قواعد ابن عقيل وإلى (ألف طيف من ضفائرها) أكثر من ألف بيت من ألفية ابن مالك !! هي ذلك وهي شبيهه أو رديفه أانعكاسه.
5- اللوحة الخامسة : وهي لوحة طويلة اشتملت على الأبيات (18 ، 19، 20، 21، 22، 23، 24) بوصفها اللوحة الأولى من النصف الثاني للدائرة الدلالية، إذ تكلفت الرابعة بنقلة واضحة باتجاه حقول اللوحة الخامسة، حيث انتقل الكلام من (الوجد/ الهمس/ البوح) إلى (التأوّه العاتب/ الهتك الدلالي/ الصورة المستديرة)، والصياغات (أمضي غريباً/ وانثني/ يحبو) كانت البذرة التي نمت واكتهلت في اللوحة الخامسة!! فما الفجوة بين (أمضي غريباً ب 16) (اتيتك ظلاً مجرّحاً ب 18)؟ الجواب ليس ثمة فجوة ؟! لكن ب 16 كان ومضة، مجرد علامة لتغيير اتجاه القراءة أو الصورة ! سيان، أما ب 18 فهو ضمن نسق من الصياغات يماثله في الهتك أو التوجع أو التفجع، وينافسه حتى !! فصوت المتكلم (ظل مجرّح/ أحلامه مصلوبة / الفجائع سكب/ الطفل الجريح/ الطفل حطام/ لا شكوى لديه/ لا عتب/ ليل العروبة/ سمّرت مقلتي/ لا برق/ لا شهب/ ليل العذاب/ رحلنا رحلنا/ جائعين/ صلبت أحلامنا)!! هذه اللوحة المصارِحة كاربت أن تكون كامدة، معتمة، من أول صورة حتى الأخيرة، لكن الشاعر وهو رائد ذو رؤية صادقة، ومبدع ذو هم بعيد، لم ينسق للنمط القرائي المِنْبري الاحتفالي في بنائه لقصيدته، فهو كما يرى نفسه ودوره النضالي مطالب بالمقابلة لكي تُكمِل الاستدارة وظيفتها، فما هو (فوق) أضحى في (الأسفل)! وما هو مضيء أمسى مظلماً، فكان لزاماً عند هذا المنعطف الدلالي أن تجيء الصياغات متصاعدة مع الخط البياني لهم القصيدة بكليتها (أقبِّل بدء النار وهي قصيدتي/ تململت أمة ومشى ركب/ طلعنا على الدنيا صلاة جديدة/ يسقى من براءتنا الجدب/ زادنا الشعب..) هذه السياقات الخمسة لم تطفئ الحرائق العربية في اللوحة الخامسة ولكنها خففت من وقعها على وجدان المتلقي، ومنذ قليل كانت اللوحات مفعمة، بالحبيبة المغيّبة!! أين هي الحبيبة؟ لم يرسم الشاعر وجهها ولم يصف جسدها ولم يهتك وصلها، بل لم يسمعنا حواره معها!! فقد كان غيوراً عليها إلى أبعد حدّ وأقصاه ولن نتوقع منه سوى ذلك، والتماهي حاصل بين الدار المنسية والطفل المجرّح والحبيبة المغيّبة والفجيعة التي حضنت الثلاثة!! فهل هي (الصياغات)، شيء من شعارات الخمسينات التي وجهت فيما بعد شعارات العقود اللاحقة؟ ففي الخمسينات كان الخطاب القومي (والوطني أيضاً) يراهن على دماء الجماهير ويفخر بكثرة الشهداء على مذابح القضية !! في معركة غير متكافئة حتى على صعيد الوعي.. والدّربة، حيث يفاجأ الخطاب دائماً بانتصار رهان المكر والسياسة الدولية الشطرنجية (ولو صلبت أحلامنا زادنا الشعب)! ماذا يفعل الشعب الأعزل حين يتقوّس الحكام جسراً يعبر عليه أعداء العرب؟ أعداء الداخل وأعداء الخارج؟ إن الزلزال المأساوي في اللوحة الخامسة أقوى من التشبث العقيدي! وماذا يفعل الشاعر الذي سمّر مقلتيه في الزمن العربي الساكن واكتشف أن هذا الزمن ليس سوى ليل سرمدي لا صبح وراءه؟! وأي مكابدة تلك التي جعلته يعادل بين (العروبة والعذاب)؟        
               (سمَّرْتُ  في  ليل العروبة   مقلتـي )
               ( ولا برقَ في  ليل العذاب  ولا شهبُ)
وكان من تحصيل الحاصل أن يرحل الحلم العربي، فوصل الفعل (رحل) بالضمير الجمعي (نا) ثم أصرّ على تكرار الرحيل الجمعي! (رحلنا رحلنا جائعين)!! رحلنا عن الاسكندرون! عن عربستان! عن فلسطين! عن سبتة ومليلة! كما رحلنا من قبل عن الأندلس! وهكذا تلتقي اللوحة الخامسة باللوحة الطللية الأولى، فالخراب واحد! خراب دار المعلمين وخراب الواقع العربي، غياب الحبيبة وغياب الفرح ! هذه هي الاستدارة الدلالية تحديداً أن تبدأ بطلل الحبيبة لتجد نفسك بعد عدة لوحات حيال طلل العروبة أو طلل الحلم العربي!!
6- اللوحة السادسة: وأبياتها هي (25، 26، 27، 28، 29) خمسة أبيات هي البوح كله، والجزع والتفجّع ! ليس ثمة أمل لقامة الشاعر السامقة التي حاكت في لوحة سابقة قامة النخلة العطشى، كلاهما طويل وكلاهما عطش وكلاهما يقارب الحبيبة الحلم ولا يتمتع بمسّه!! هذه اللوحة لم تخبئ عن المتلقي صور الحزن، فقد انفجرت العاطفة على نحو مخيف، وكان مقدراً لها أن تفسد اللوحة، فالعاطفة في علم الأسلوب وهي العنصر المهم فيه، حين تفلت أو تنفلت من النسق تخرّب ما قبلها وما بعدها وتحيل المشاعر ضرباً من اللغة النثرية، لكن الشاعر وفق تجربته الطويلة المستندة إلى موهبة كبيرة حصر العاطفة بين حدّين: حدّ الخيال المبرمج وحدّ الدربة الصارمة، فكانت النتيجة نبوغ صور فنية مبتكرة ذات أسى عال وإيقاع شجيّ، لينهض بعدها (المعادل الموضوعي) بترميم الاعترافات وتلوينها وفق نقائبية اللوحة! فجاء البيت 24 في اللوحة الخامسة مثل قنبلة زمنية اقترن ميقات انفجارها في الأبيات 27، 28، 29!! قارن ب 24 / اللوحة الخامسة: رحلنا رحلنا جائعين (ودلالة رحلنا تنحصر وفق السياق ب تركنا).
وبعد : رحلنا رحلنا ثم تركنا + تركنا تركنا؛ ثمة (تركنا) الخاتمة، وكان مقدراً لها أن تخِلّف سيلاً من الصور على سبيل استنساخ الحزن والاسترسال في الاعترافات !! لكن الشاعر وفي اللحظة المناسبة جداً، أوقف سيل الصور الكامدة اليائسة لأسباب جمالية بالدرجة الأولى، ودلالية بالدرجة الأولى المكررة! فـ (تركنا) الأخيرة كاربت أن تقود متخيل التلقي إلى هوة سحيقة العمق، لكن نسيج القصيدة بَلْهَ منهجَها أوقفَ التداعي حين تطلَّبَ الأمر التدخل المباشر من قبل الشاعر قارن:
تركنا (دعي صمتي يعضّ على فمي) !! ثمة عشرات الصور قادمة وراء (تركنا) بيد أن ضمير المتكلم (الجمعي) عض فمه بصمته! لأن الانحدار بالصورة والفكرة والتلقي أيضاً سلوك لم يعتده سليمان العيسى وهو المناضل العنيد ذو اليقين الثابت الذي بشَّر منذ بواكير شعره الأولى بالفجر العربي المبين، وأقفل اللوحة السادسة بمهارة قصوى حين أوقف تداعي الصور الرمادية بجملة واحدة (فغير الفدائيين لم يلد الترب) وهذه الجملة كما سنرى لم تقفل اللوحة السادسة فحسب، بل أقفلت القصيدة [خذي شفتي] برمّتها!! ولم تتخلف الثنائيات (النقيضة والشبيهة والرديفة والمتقابلة)  عن فعلها المعهود في هذه اللوحة:
المنطوق : أأنفض × المسكوت عنه : أم لا.
لا خوف
×
لا رعب
يصك دمي
×
يسحقني
أقدام الغزاة
×
جلودنا
الحرب
×
النعيب المرّ
صحارانا
×
جباهنا
قاتل
×
الموت
صمتي
×
فمي
المنطوق : انتصر الكذب × المسكوت عنه : إنهزم الصدق
هذه اللوحة اتكأت في كبح التداعي على المقابلة بين:
ب 27 (وغير النعيب المرّ ما خاضت الحرب)
و ب 29 (فغير الفدائيين لم يلد الترب).
لقد كانت الصياغة الموحدة شيئاً من المكر الفني الجميل فتشكّلُ العجزين بهذه الطريقة يوقع المتلقي في خمائل المكر الجمالي الفني!!
ب 27 ..... أداة نفي + فعل + فاعل
ب 29 ..... أداة جزم + فعل + فاعل
7- اللوحة السابعة: وأبياتها كل ما تبقى من القصيدة وهي (30، 31، 32، 33، 34، 35) ستة أبيات هي حصيلة اللوحة السابعة (الأخيرة) في معلَّقة (خذي شفتي) التي اثثناها وفق فرضية (الاستدارة الدلالية) وينبغي لهذه اللوحة إثبات هذه الفرضية، فكيف يتأتى ذلك؟ والدراسة مضطرة لعقد موازنة بين اللوحة الأولى (نقطة الختام في دائرة القصيدة أو قصيدة الدائرة) لنرى الكيف الذي وشجّ العلاقات بين اللوحتين لتنضما إلى حقل دلالي واحد! اللوحة الأولى ومنذ  ب ا جاء الخطاب فيها موجها إلى الدار في أجواء استحضار الحب المنفرط مثل حبات المسبحة، لكن العجز خبأ دمعة في الهدب، هي نذير لا يخطئ بالواقع القادم في قابل القصيدة، وفي الأبيات اللاحقة يتألّق الضعف الإنساني كأوضح ما يكون الضعف، فهو طائر أزغب الجناح مرتعش داخل العش، وهو (ضمير المتكلم) طفل تفرّطت أغانيه (فالطفل عاد ولملمي أغانيه) وسؤال يائس (هل تبلى أغانيه)؟ هل يخبو وهج الطفل؟ هل تشبع الجمر قبلة. هل تشعل خفقة واحدة عود العمر؟ والبيت الثاني يهيئ لنا القول إن الجواب على هذه الأسئلة جميعاً هو: لا النافية أو كلا الزاجرة، فما انكسر لا يجبر، وما فات مات، لذلك أفصح ب 2 عن أن اللثمات (السبع) لم ترو عطش السائل للحب والحياة، لم تكف القبل السبع ثغر المتكلم (الثغر معادل العواطف) ولا لبه (اللب معادل العقل)، واليأس محيق باللوحة الأولى رغم التطريب الرومانسي فخطاب الدار من اللوحة الأولى حتى اللوحة السادسة لم يُجْدِ الحائرَ نفعاً! فهو خطاب دون صدى، كأن اللوحة الأولى تعيد إنتاج عذاب عنترة (أعياك رسم الدار لم يتكلم) لكي تنهض اللوحة السابعة بإعادة إنتاج عجز بيت عنترة نفسه (حتى تكلم كالأصم الأعجم). فاللوحة الأولى أظهرت لنا أو خبأت لنا أو رمّزت لنا عجْز العاشق الحائر في مخاطبة الدار!! والطبيعي جداً هو أن يغيّر الشاعر خطابه في اللوحة السابعة لتحل (بغـداد) محل الدار، وإذا كانت الدار رمزا للحب والشباب فإن بغداد في ضمير القصيدة رمز القضية التي أطعمها عمره، وحين يستشعر الإنسان خطراً حقيقياً قاتلاً فإنه لن يتذكر إلا أحبّ الأشياء إلى نفسه وأثمنها، لن يستنجد إلا بأقرب العناصر إلى روحه، لن يبكي إلا في أحضان أمتّ الناس إلى دمه وقلبه وقضيته، وهو ما حصل لسليمان العيسى، ففي أجواء دخان الحرائق واصطباغ المشهد بالدم والرماد في دراما تتفطّر لهولها أكباد الإبل، فكيف بشاعر هو سليمان العيسى الذي يفيض رقة وحساسية؟ وهكذا اختلطت الصورتان (الدار / بغداد) معاً لكي تشكلا صورة ثالثة هي الدار وبغداد معاً! وما الضير؟ ومحلل النص قبالة هذه المفارقة يرى الدهشة قد عقدت قلمه، وهو يرى أن اللوحة السابعة إن هي إلا صدى للوحة الأولى من خلال الإجابات غير المباشرة ! هل تبلى أغاني الطفل؟ هل يخبو؟ هل تشبع الجمر قبلة؟ هل تشعل خفقة القلب عود العمر؟ لنقارن بعدها مفردة (العود) : (عودي/ عود العمر) في السؤال الرابع من اللوحة الأولى. ويكون الجواب سؤالاً.. وأي خطب في ذلك؟ إذا كان السؤال يتضمن جواباً ذا شفافية، فما تبقى من اللحن (الحلم/ الرمق) لا يخشى الحرائق ولا الكبوات، لأن النداء هذه المرة هو الموجه لبغداد المدينة التي احتلت موضع الدار بجدارة، وإذا كان الطفل لم يتعلم من الدار غير الرعشة وخفقة القلب واسترجاع صورة الحبيبة العصية فإنه تعلم من بغداد أشياء كبيرة وكثيرة.
أ  تعلمت منك النار.   ب  عمّدت نبرتي بشمسك. ج- تعلمت أن أشعل حرفي في لهبك. د- الإصرار باق. هـ- الفرسان غُلْب!! بل تعلم منها استدارة الأشياء، فالمناضل يْغْلَبُ ويكبو، يخسر معركة، بيد أنه لا يتخلى عن هواه (القضية)! ثمة صورة اسطورية تتناص مع (طائر العنقاء) الذي يبعث من الرماد.. ب 33 (وندفن يا بغداد) هذه صورة مغلقة بالموت في الواقع لكنها ليست كذلك في حلم الشاعر:
وندفن يا بغداد
=
الموات المألوف
ثم يعيدنا إلى الشمس
=
تناص مع العنقاء
فالرائد تحدى الأعداء التقليديين والمبتكرين لأذاه وقمعه، تحداهم بنعشه!! (ياء المتكلم هنا مُضلِّلة) فقد تحدى الدجى (معادل الأعداء) بنعوش الشهداء وجنائز الأحلام المقتولة، والرائد ليس فرداً، وإن كان كذلك لأن الضمير الجمعي للحالمين بالشمس العربية واجد في الرائد صوته وصداه معاً! ثم تجيء صدمة القصيدة (اللوحات السبع) في ب 35 وهو الصياغة الأخيرة أو الصرخة الأخيرة، فلم يعد العربي مرعوباً من شفرة السكين وهو الذي جربها وجربته على مرّ التاريخ. الشفرة الموجعة، المسمومة، القاتلة غير قادرة على قتل أمة! وشعرية (خذي شفتي) أو صدمتها تتمحور في ميلاد الحلم العربي الجديد.. الميلاد الذي ينبغ على شفرة السكين، جاء البيت بهيئة يقين ثابت وليس شعاراً عدمياً، وقد عودتنا اللوحات السبع أن الشاعر يخبئ فعل الأمر (دعي) يقيناً جديداً !! قارن
ب 17 ممر تركنا في حناياه جمرة (اليقين)
        (دعي) رمقاً من حرّها (إنه عذب)
ب 29 تركنا (دعي) صمتي (يعضّ) على فمــي
        فغيـر الفـدائيين لــم يلــد التــرب
ب 35         (دعي) شفرة السكين في الجرح (واسخري)
        على (شفرة) السكين قد (يولد) العـــرب
وبعد :
أدركنا من خلال سبع لوحات استدارة هذه اللوحات على خط المحيط بحيث تحيل السابقة على اللاحقة، وتتصل اللوحة الأولى باللوحة الأخيرة في مركز القصيدة، وهو ضياع العمر والحبيبة مع بقاء الحلم قادراً على استحضار الصورة المشرقة التي تنسخ أو تنسأ الصورة المظلمة. مركز القصيدة هو ضياع الأرض العربية التي ازدردها الجيران أو الشذاذ القادمون من الأقاصي.. بقاء الحلم العربي قادر على صناعة ما يراه اليائسون (معجزة)، صناعة الدور القادم لا محالة لحضارة العرب الجديدة، ويحسب لقصيدة [خذي شفتي] أنها اتخذت الأثر الفني سبيلاً إلى الأثر الوجداني.
الولايات المتحدة الأمريكية 2000م


[1]  العيسى، سليمان. الأعمال الشعرية الكاملة، 3/162 وبعدها. طبع المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995م.
إشارة: جاء ترتيب أبيات القصيدة وفق تسلسلها الذي أثبته الشاعر. أما ترتيب اللوحات السبع فقد خضع لاجتهاد الباحث.
[2]  كتب لي الشاعر سليمان العيسى، بخط يده: الأبيات الثلاثة التي وضعت بين قوسين من القصيدة القديمة التي ودّع بها الشاعر الدراسة وتناقلها بعده الطلاب وكان مطلعها:
سليني، وقد أوفى على السَّفَرِ الركْبُ      أَعامٌ مضى يادارُ.. أم حُلُـمٌ عـذْبُ؟
[3] الصائغ، عبدالاله. الصورة الفنية معياراً نقدياً. طبع دار الشؤون الثقافية بغداد، 1987م.
[4] الجاحظ، ت 255هـ، الحيوان، 1/444، تح فوزي عطوي. طبع بيروت.
[5] الصائغ، عبدالإله. الأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب، ص 444، طبع دار الفكر المعاصر، صنعاء 1999م.
[6] الجاحظالحيوان، 1/242. القيرواني، ابن رشيق ت 456. العمدة. 2/150.
[7] الصائغ، عبدالإله. الزمن عند الشعراء، العرب قبل الإسلام، ص 277. طبع منشأة كويت تايمس. الكويت. 1982م.
[8] الصائغ، عبدالإله. الصورة الفنية في خطاب شاذل طاقة الشعري، مجلة الكاتب العربي، طرابلس، العدد 30 السنة 15.
[9] العيسى، سليمان، حوار هاتفي (مطوّل) أجراه معه عبدالإله الصائغ. صنعاء. السكن الجامعي لأساتذة جامعة صنعاء. العاشرة والنصف صباح الجمعة 4/2/2000م. وقد تحققت رغبتي فوضعت هذه المعلومات الثمينة في كتابي الجديد.. [النقد الأدبي وخطاب التنظير]. طبع مؤسسة عبادي، صنعاء، 2000م.
[10] الصائغ، عبدالإله. الصورة الفنية معياراً نقدياً. ص 422 وبعدها.
[11] أنيس، إبراهيم، موسيقى الشعر، ص 175. مطبعة الأمانة مصر. طبعة خامسة، 1978م.
[12] ابن جني، أبو الفتح عثمان، ت 392هـ، الخصائص، 2/157، تح محمد علي النجار. مطبعة دار الهدى بيروت، طبعة 2 (د.ت).
[13] م. ن، 2/631.
[14] أنظر هامش رقم 9.
[15] مطلوب. د. أحمد، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ص 258.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...