الاثنين، 24 نوفمبر 2014

ذكريات الاستاذ سامي مهدي رقم (52) بعنوان : عالم الطوابع

ذكريات  الاستاذ سامي مهدي رقم (52) بعنوان : عالم الطوابع  :
****************************************************
كان جمع الطوابع البريدة هواية من هواياتي في صباي المبكر . وكانت هذه الهواية عالمية ، فهواة الطوابع كانوا منتشرين في جميع أنحاء العالم ، وكانت لهم جمعياتهم ، وعلاقاتهم ، وصداقاتهم ، ومقايضاتهم ، ومضارباتهم ، ومطبوعاتهم . وهناك قصص طريفة ، وغريبة أحياناً ، تحدث في عالمهم ، يتداولونها في ما بينهم وينشرونها في مطبوعاتهم .
وقد عرف العراقيون هذه الهواية ، وانتشرت بين متعلميهم انتشاراً واسعاً على اختلاف أديانهم . وكانت لهؤلاء جمعية تدعى ( جمعية الطوابع العراقية ) إذا صحت ذاكرتي ، وكان هناك باعة للطوابع لهم دكاكينهم ، أذكر أنني شاهدت ثلاثة منها في شارع الرشيد ، أحدها كان يرفع لوحة بعنوان ( عالم الطوابع ) وربما كان أصحاب هذه الدكاكين من اليهود أو المسيحيين . ولا أدري ما إذا كانت هذه الهواية قد مورست في مدن عراقية أخرى ، كالموصل والبصرة مثلا ، أم أن هواة الطوابع كانوا من البغداديين فحسب .
قادني إلى هذه الهواية صديق من أصدقاء صباي ، وكان هذا الصديق من آل الحسني ، حسنيي بغداد ، فقد كان هو نفسه هاوياً من هواتها ، حتى دخل كلية الطب . وكان دخولي عالم الطوابع أول اشتباك لي مع العالم الواسع ، وأول احتكاك لي بقوانينه .
فقبل أن أدخل عالم الأدب ، وقبل أن أدرس علم الإقتصاد وأعرف آدم سميث وجون مينيارد كينز وجوزيف شومبيتر وسامسون وسواهم ، عرفت ماهية العلاقة بين العرض والطلب ، والعلاقة بين القيمة والندرة ، والقيمة والتكامل ، والقيمة والجمال ، وما كان لي أن أتعلمها في ذلك الزمن المبكر من عمري إلا من الطوابع .
تعلمت أن أهمية الطابع ليست في جماله بل في ندرته ، وأن قيمته الحقيقية ليست في الثمن المكتوب عليه ، بل في ما يباع به في السوق . فالندرة هي التي تحدد القيمة وليس الجمال . وكثيراً ما يكون الخطأ الطباعي في طابع من الطوابع سببأ في ندرته وارتفاع قيمته ، وخاصة إذا قررت السلطات البريدية سحبه وإيقاف تداوله .
أما المجموعات ( السيتات ) فتكاملها هو الذي يحدد قيمتها . فالمجموعات الناقصة تنقص قيمتها وإن كانت نادرة ، حتى لا يكاد أحد يرغب في اقتنائها . وكثيراً ما يبذل الهاوي الذي يمتلك مجموعة ناقصة جهوداً كبيرة ومالاً كثيراً من أجل استكمال مجموعته .
وكان هواة الطوابع يتحينون المناسبات التي تصدر فيها السلطات البريدية طوابع جديدة ، وكان الباعة يشترون مجموعات كاملة من هذه الإصدارات ليبيعوها بأثمان أعلى في أوقات لاحقة . وكلما ابتعد تاريخ الإصدار ارتفع الثمن .
غير أنني ، وإن تعلمت قوانين عالم الطوابع ، لم أجد فيها ما يعنيني . ولذا شرّعت لنفسي قوانين خاصة . فما كان يهمني من الطوابع أشياء أخرى غير قيمتها المادية : أسماء بلدانها ، مناسبات صدورها ، ما عليها من رسوم أو بورتريهات ، ألوانها ، أشكالها الهندسية ، الكتابات الموجودة عليها ، وغيرها . ومن المؤكد أن صديقي الحسني كان يغشني حين يقايضني ، فقد كنت أشبه بريفي يساوم بائعأ حضرياً على ثمن ( أقّة ) الحلاوة .
لم أكن ذا مال فأشتري الطوابع ، بل كنت أحصل عليها مجاناً ، أجمعها من شارع الرشيد ، من أزقته الخلفية في واقع الأمر ، فهذه الأزقة كانت تمور خلال النهار بحركة دائبة غير منظورة تشهد عليها مزابلها . أما الشارع نفسه فلم يكن سوى واجهة كبيرة يُعرض فيها ما يراد له في تلك الأزقة أن يعرض ، لأن القرارات الكبيرة لا تتخذ في دكاكين الشارع بل في الخانات المتوارية في أزقته ، فالخانات هي التي تستورد وهي التي توزع ، أما الدكاكين فتعرض وتبيع فقط . وكان أغلب ملاك الخانات ، وربما كلهم ، من اليهود ، فقد كانوا يومئذ يمسكون بأيديهم عصب الحركة التجارية في البلاد .
كانت لكل خان مزبلة قريبة ، وكانت أغلفة الرسائل هي المادة الأساسية فيها ، وكنت أغزو تلك الأزقة مرة أو مرتين في الأسبوع ، لالتقاط أغلفة الرسائل والحصول على ما أجد عليها من طوابع شتى دول العالم . حتى صرت خبيراً بمداخلها ومخارجها ، وزواياها ومزابلها ! وكنت أجد هناك حريتي في مواجهة العالم ، فلا رقيب علي ولا حسيب ، لا أحد ينهرني أو يستعجلني ، أسرح كما تسرح القطط ، وأبحث كما تبحث ، وكنت مثلها يقظ الحواس ، متحفزاً لكل احتمال ، وحذراً من كل طاريء . ففي أوقات العصر يقل المارة ، وتزداد الأزقة سكينة ووحشة ، ولا أحد يدري بما يجري وراء أبواب الخانات المعتمة ، أو وراء جدران البيوت التي تفوح منها روائح السيرج ( الشيرج ) وهناك ، بعد كل شيء ، يقبع اليهودي الذي كان أهالينا البسطاء يحذروننا من غدره .
لازمتني هواية جمع الطوابع حتى مطلع الخمسينيات ، وتخليت عنها كلياً حين اكتشفت عالم الأدب ، فأغناني عنها ، وفتح لي أبواباً أخرى . والظاهر أنه لم يعد ثمة هواة كثر للطوابع في عالم اليوم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...