محمد سعيد الصكار
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
عرفت الشاعر والفنان الراحل محمد سعيد الصكار بالإسم قبل أن أعرفه معرفة مباشرة . عرفته من خلال قصائده القليلة التي كان ينشرها في أوقات متباعدة في ستينيات القرن العشرين .
وحين صدر العدد الأول من مجلة ( شعر 69 ) مصدّراً بـ ( البيان الشعري ) كان ممن وقفوا ضد المجلة وبيانها ، فشارك الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في نظم أرجوزة تسخر من المجلة والبيان مطلعها ( ثلاثة لاصوا البيان الشعري ) . والثلاثة المقصودون هم الشعراء : فاضل العزاوي ، وخالد علي مصطفى ، وسامي مهدي . واستثني الشاعر فوزي كريم من هذه السخرية ، رغم كونه ممن وقعوا البيان .
ربما فعل الصكار ذلك بدلفع من حبه للدعابة والتظرّف ، ولكن الإرجوزة كانت ، مع ذلك ، جزءاً من حملة فظيعة جوبهت بها المجلة واستمرت حتى تم غلقها بعد صدور عددها الرابع ، مع صحف ومجلات أخرى . وقد تحدثت عن هذه الحملة بإسهاب في كتابي ( الموجة الصاخبة – شعر الستينات في العراق ) الصادر عام 1994 ولكنني لم أتحدث عن دور الكاتب الصحفي محمد كامل عارف في تأجيجها أيام كان يعمل في جريدة ( الجمهورية ) .
تعرفت على الراحل الصكار مباشرة عام 1971 حين نويت نشر مجموعتي الشعرية الثانية ( أسفار الملك العاشق ) . كنت أبحث عن غلاف مناسب لها ، فنصحني صديقنا المشترك الصحفي اللامع جليل العطية ( الدكتور ) بأن أطلب من الصكار رسم الغلاف ، فذهبنا إليه معاً في مكتب له في عمارة في الباب الشرقي . وكان يومئذ قد رسم أغلفة لآخرين راقت للوسط الأدبي . ولم يخيب الرجل ظني . أراني رسوماً كانت متوفرة لديه فاخترت أحدها وجعلته غلافاً للمجموعة ، وأهديته نسخة منها عند صدورها .
ولكن علاقتي بالصكار ظلت محدودة حتى أواخر عام 1978 حين انتقل المركز الثقافي العراقي فس باريس من مبناه القديم المقابل لمبنى السفارة إلى مبنى جديد فخم وواسع مطل على ساحة النجمة . كان يومئذ قد غادر العراق إلى باريس ، مثل من غادروا عامي 1977- 1978 ، وأقام فيها مع عائلته . فقد اكتشفنا بعد انتقالنا إلى هذا المبنى أن برامج المركز بها حاجة إلى من يفهم في شؤون المعارض الفنية وتنظيمها ، لأن المعارض الفنية كانت جزءاً مهماً من برامجنا . فتذكرت الفنان الصكار ، واتصلت به ودعوته إلى العمل في المركز دون أن أكترث للمنافقين والمشاغبين ، وعرضت عليه طبيعة العمل فوافق فوراً وفرح . ودعاني وعائلتي بعد مدة إلى عشاء في مسكنه ، وصارت العلاقة عائلية . فتعرفت أم نوار على عقيلته السيدة ( أم ريّا ) وكانت ريّا يومئذ زميلة بناتي في المدرسة العراقية الإبتدائية التي فتحتها الحكومة العراقية لتعليم الراغبين من أبناء الجالية العراقية والجالية العربية .
ولكنني رأيت ، في ما بعد ، تشكيل لجنة إستشارية للمركز ، من خارج العاملين فيه ، للإستفادة من آرائها وخبراتها ومشوراتها في إعداد برامجنا ، وتشكلت هذه اللجنة برئاستي وعضوية كل من : الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي ، والكاتب المصري المعروف أمير إسكندر ، والناقد السينمائي اللبناني وليد شميط ، والفنان العراقي وضاح فارس .
كان الراحل الصكار على علم بتشكيل اللجنة منذ البداية ، ولكنه فاجأني بعد أكثر من شهرين من تشكليها بأنه يريد الإستقالة من عمله في المركز . فقد دخل عليّ مكتبي دون سابق علم ليبلغني بها . ولما سألته عن السبب قال لي بتوتر إنه يستقيل احتجاجاً على عدم ضمه للجنة . فقلت له : أنت تعلم أن اللجنة شكلت من غير العاملين في المركز ، وكان هذا قبل أكثر من شهرين ، وكنت من مؤيدي تشكليها على ما هي عليه ، فلماذا تحتج الآن ؟ ومع ذلك ، إن كنت تريد الإنضمام إليها فهذا أمر سهل ، يمكن معالجته فوراً ، ولكنه لم يلن أو يتراجع ، بل أصر على موقفه ، ووضع على مكتبي مظروفاً قال لي إن فيه طلب الإستقالة ، ثم تركني وخرج من مكتبي . ولما فتحت المظروف بعد خروجه وجدت فيه ، مع طلب الإستقالة ، قصاصة كتب فيها بيتين من الشعر هما عتاب شديد كانت لهجته أقرب إلى الهجاء ، فرددت على بيتيه فوراً ببيتين من البحر نفسه والقافية نفسها ، وذهبت إليه في مكتبه ، فوجدته يجمع ما له من أشياء ، وقلت له : خذ يا صديقي هذا هو الرد على بيتيك ، ووضعت قصاصتي على مكتبه وخرجت ، ولم أره بعد ذلك طوال المدة التي قضيتها في باريس .
ثم حدث عام 2000 أن دعاني معهد العالم العربي في باريس ، وهو معهد أسس بأموال عربية وفرنسية ، للإشتراك بمهرجان شعري أقامه لعدد من الشعراء العرب ، وكان من المدعوين للمشاركة فيه الشاعر الكبير سعدي يوسف ، ولكنه لم يحضر . وحين التقيت بصديقي الدكتور جليل العطية المقيم في باريس اقترح علي أن نزور الصكار في المكتب الذي افتتحه ليزاول فيه عمله الفني ، وبعد شيء من التردد وافقت وذهبنا لزيارته . فرحب الرجل بي أحسن ترحيب ، وأراني بعض أعماله الجديدة ، وأهداني نماذج بسيطة منها .
وحدث في اليوم الذي ألقيت فيه قصائدي في قاعة المعهد أن خرجت من القاعة فوجدت الصكار عند بابها ، ومعه السيدة عقيلته ، فقال لي : بلغني أن ( فلاناً ) يدعي أنني أرسلت إليه رسالة طالباً فيها دعوتي لحضور مهرجان المربد الشعري فقل له : إنني لم أرسل مثل هذه الرسالة ، ولا أريد المشاركة في هذا المهرجان . قال ذلك بامتعاض واضح فقلت له : يا أبا ريّا إن كلاً منكما يعرف الآخر ، وأنت تعرف عنوانه ، فلمَ لا ترسل إليه رسالة تبلغه فيها بما تريد ، كيلا تزجني أنا في أمر لا شأن لي فيه ؟ فرد علي بالامتعاض نفسه : لا ، قل له أنت ! فخشيت أن يتطور بيننا الأخذ والرد ، فوعدته بأن أنقل كلامه إلى ( فلان ) ثم سلّمت وغادرته ومضيت في سبيلي . وهذا ما حصل فعلاً لدى عودتي إلى بغداد ، ولكنني لم أر الصكار بعد ذلك اليوم ، حتى علمت بالنبأ المحزن ، نبأ وفاته .
ولد الصكار عام 1934 وتوفي عام 2014 . وربما هو لم يحقق في الشعر الكثير ، فقد كان مقلاً في كتابته ، وشغله فنه في الخط عن شعره ، فلم يصدر له خلال سنواته الثمانين سوى ثماني مجموعات شعرية ( حسب مقال لكاظم جهاد ) لا أعرف منها سوى اثنتين . صدرت الأولى عام 1962 وكانت بعنوان (أمطار) وصدرت الثانية عام 1968 وكانت بعنوان ( برتقالة في سورة الماء ) . ولكنه كان فناناً كبيراً مبدعاً . كان فنان الحرف العربي بامتياز ، وكانت علاقته بهذا الحرف علاقة صوفية ، أو شبه صوفية . ومع أنه أبتدع ما سماه ( الأبجدية العربية المركزة ) فإن إبداعه الكبير كان في استغلاله شكل الحرف العربي بامتداداته وانحناءاته ونقاطه ، فصنع منه لوحات غاية في الجمال والإبداع . كان يلعب بالحرف ويحركه حركات تذكّرنا بحركات رقصات المولويين وراقصي الباليه ، وبلغ في ذلك أوجه . وقبل أسبوع من وفاته كرّمه معهد العالم العربي ، وهو على كرسيه المتحرك فكان أهلاً للتكريم .
رحم الله أبا ريّا .
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
عرفت الشاعر والفنان الراحل محمد سعيد الصكار بالإسم قبل أن أعرفه معرفة مباشرة . عرفته من خلال قصائده القليلة التي كان ينشرها في أوقات متباعدة في ستينيات القرن العشرين .
وحين صدر العدد الأول من مجلة ( شعر 69 ) مصدّراً بـ ( البيان الشعري ) كان ممن وقفوا ضد المجلة وبيانها ، فشارك الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في نظم أرجوزة تسخر من المجلة والبيان مطلعها ( ثلاثة لاصوا البيان الشعري ) . والثلاثة المقصودون هم الشعراء : فاضل العزاوي ، وخالد علي مصطفى ، وسامي مهدي . واستثني الشاعر فوزي كريم من هذه السخرية ، رغم كونه ممن وقعوا البيان .
ربما فعل الصكار ذلك بدلفع من حبه للدعابة والتظرّف ، ولكن الإرجوزة كانت ، مع ذلك ، جزءاً من حملة فظيعة جوبهت بها المجلة واستمرت حتى تم غلقها بعد صدور عددها الرابع ، مع صحف ومجلات أخرى . وقد تحدثت عن هذه الحملة بإسهاب في كتابي ( الموجة الصاخبة – شعر الستينات في العراق ) الصادر عام 1994 ولكنني لم أتحدث عن دور الكاتب الصحفي محمد كامل عارف في تأجيجها أيام كان يعمل في جريدة ( الجمهورية ) .
تعرفت على الراحل الصكار مباشرة عام 1971 حين نويت نشر مجموعتي الشعرية الثانية ( أسفار الملك العاشق ) . كنت أبحث عن غلاف مناسب لها ، فنصحني صديقنا المشترك الصحفي اللامع جليل العطية ( الدكتور ) بأن أطلب من الصكار رسم الغلاف ، فذهبنا إليه معاً في مكتب له في عمارة في الباب الشرقي . وكان يومئذ قد رسم أغلفة لآخرين راقت للوسط الأدبي . ولم يخيب الرجل ظني . أراني رسوماً كانت متوفرة لديه فاخترت أحدها وجعلته غلافاً للمجموعة ، وأهديته نسخة منها عند صدورها .
ولكن علاقتي بالصكار ظلت محدودة حتى أواخر عام 1978 حين انتقل المركز الثقافي العراقي فس باريس من مبناه القديم المقابل لمبنى السفارة إلى مبنى جديد فخم وواسع مطل على ساحة النجمة . كان يومئذ قد غادر العراق إلى باريس ، مثل من غادروا عامي 1977- 1978 ، وأقام فيها مع عائلته . فقد اكتشفنا بعد انتقالنا إلى هذا المبنى أن برامج المركز بها حاجة إلى من يفهم في شؤون المعارض الفنية وتنظيمها ، لأن المعارض الفنية كانت جزءاً مهماً من برامجنا . فتذكرت الفنان الصكار ، واتصلت به ودعوته إلى العمل في المركز دون أن أكترث للمنافقين والمشاغبين ، وعرضت عليه طبيعة العمل فوافق فوراً وفرح . ودعاني وعائلتي بعد مدة إلى عشاء في مسكنه ، وصارت العلاقة عائلية . فتعرفت أم نوار على عقيلته السيدة ( أم ريّا ) وكانت ريّا يومئذ زميلة بناتي في المدرسة العراقية الإبتدائية التي فتحتها الحكومة العراقية لتعليم الراغبين من أبناء الجالية العراقية والجالية العربية .
ولكنني رأيت ، في ما بعد ، تشكيل لجنة إستشارية للمركز ، من خارج العاملين فيه ، للإستفادة من آرائها وخبراتها ومشوراتها في إعداد برامجنا ، وتشكلت هذه اللجنة برئاستي وعضوية كل من : الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي ، والكاتب المصري المعروف أمير إسكندر ، والناقد السينمائي اللبناني وليد شميط ، والفنان العراقي وضاح فارس .
كان الراحل الصكار على علم بتشكيل اللجنة منذ البداية ، ولكنه فاجأني بعد أكثر من شهرين من تشكليها بأنه يريد الإستقالة من عمله في المركز . فقد دخل عليّ مكتبي دون سابق علم ليبلغني بها . ولما سألته عن السبب قال لي بتوتر إنه يستقيل احتجاجاً على عدم ضمه للجنة . فقلت له : أنت تعلم أن اللجنة شكلت من غير العاملين في المركز ، وكان هذا قبل أكثر من شهرين ، وكنت من مؤيدي تشكليها على ما هي عليه ، فلماذا تحتج الآن ؟ ومع ذلك ، إن كنت تريد الإنضمام إليها فهذا أمر سهل ، يمكن معالجته فوراً ، ولكنه لم يلن أو يتراجع ، بل أصر على موقفه ، ووضع على مكتبي مظروفاً قال لي إن فيه طلب الإستقالة ، ثم تركني وخرج من مكتبي . ولما فتحت المظروف بعد خروجه وجدت فيه ، مع طلب الإستقالة ، قصاصة كتب فيها بيتين من الشعر هما عتاب شديد كانت لهجته أقرب إلى الهجاء ، فرددت على بيتيه فوراً ببيتين من البحر نفسه والقافية نفسها ، وذهبت إليه في مكتبه ، فوجدته يجمع ما له من أشياء ، وقلت له : خذ يا صديقي هذا هو الرد على بيتيك ، ووضعت قصاصتي على مكتبه وخرجت ، ولم أره بعد ذلك طوال المدة التي قضيتها في باريس .
ثم حدث عام 2000 أن دعاني معهد العالم العربي في باريس ، وهو معهد أسس بأموال عربية وفرنسية ، للإشتراك بمهرجان شعري أقامه لعدد من الشعراء العرب ، وكان من المدعوين للمشاركة فيه الشاعر الكبير سعدي يوسف ، ولكنه لم يحضر . وحين التقيت بصديقي الدكتور جليل العطية المقيم في باريس اقترح علي أن نزور الصكار في المكتب الذي افتتحه ليزاول فيه عمله الفني ، وبعد شيء من التردد وافقت وذهبنا لزيارته . فرحب الرجل بي أحسن ترحيب ، وأراني بعض أعماله الجديدة ، وأهداني نماذج بسيطة منها .
وحدث في اليوم الذي ألقيت فيه قصائدي في قاعة المعهد أن خرجت من القاعة فوجدت الصكار عند بابها ، ومعه السيدة عقيلته ، فقال لي : بلغني أن ( فلاناً ) يدعي أنني أرسلت إليه رسالة طالباً فيها دعوتي لحضور مهرجان المربد الشعري فقل له : إنني لم أرسل مثل هذه الرسالة ، ولا أريد المشاركة في هذا المهرجان . قال ذلك بامتعاض واضح فقلت له : يا أبا ريّا إن كلاً منكما يعرف الآخر ، وأنت تعرف عنوانه ، فلمَ لا ترسل إليه رسالة تبلغه فيها بما تريد ، كيلا تزجني أنا في أمر لا شأن لي فيه ؟ فرد علي بالامتعاض نفسه : لا ، قل له أنت ! فخشيت أن يتطور بيننا الأخذ والرد ، فوعدته بأن أنقل كلامه إلى ( فلان ) ثم سلّمت وغادرته ومضيت في سبيلي . وهذا ما حصل فعلاً لدى عودتي إلى بغداد ، ولكنني لم أر الصكار بعد ذلك اليوم ، حتى علمت بالنبأ المحزن ، نبأ وفاته .
ولد الصكار عام 1934 وتوفي عام 2014 . وربما هو لم يحقق في الشعر الكثير ، فقد كان مقلاً في كتابته ، وشغله فنه في الخط عن شعره ، فلم يصدر له خلال سنواته الثمانين سوى ثماني مجموعات شعرية ( حسب مقال لكاظم جهاد ) لا أعرف منها سوى اثنتين . صدرت الأولى عام 1962 وكانت بعنوان (أمطار) وصدرت الثانية عام 1968 وكانت بعنوان ( برتقالة في سورة الماء ) . ولكنه كان فناناً كبيراً مبدعاً . كان فنان الحرف العربي بامتياز ، وكانت علاقته بهذا الحرف علاقة صوفية ، أو شبه صوفية . ومع أنه أبتدع ما سماه ( الأبجدية العربية المركزة ) فإن إبداعه الكبير كان في استغلاله شكل الحرف العربي بامتداداته وانحناءاته ونقاطه ، فصنع منه لوحات غاية في الجمال والإبداع . كان يلعب بالحرف ويحركه حركات تذكّرنا بحركات رقصات المولويين وراقصي الباليه ، وبلغ في ذلك أوجه . وقبل أسبوع من وفاته كرّمه معهد العالم العربي ، وهو على كرسيه المتحرك فكان أهلاً للتكريم .
رحم الله أبا ريّا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق