قراءة في كتاب الشاعر العراقي سامي مهدي
«الطريق إلى الحداثة».. علامات بارزة ومحطات شعرية مضيئة
قراءة: عبدالوهاب أبو زيد
عُرف الشاعر العراقي سامي مهدي بوصفه واحداً من أبرز الشعراء العراقيين والعرب، الذين شكلوا مرحلة لاحقة لمرحلة رواد الشعر العربي الحديث، ولكن ما لا يعرفه بعض القراء عنه هو أنه ناقد قدير أيضاً، وله عدة مؤلفات نقدية مهمة، ومن بينها كتاب "الطريق إلى الحداثة" الصادر مؤخراً عن دار "ميزوبوتاميا"، والذي يضم سبع دراسات غنية تتسم بالثراء المعرفي والعمق التحليلي عن شعر سبعة من شعراء الجيل، الذي اصطلح على تسميته بجيل الخمسينيات في العراق وهو الجيل "الذي واجه سؤال الحداثة والتحديث في الشعر العراقي المعاصر" كما جاء في تقديم الكتاب.
والشعراء السبعة هم: عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري وسعدي يوسف ومحمود البريكان وحسين مردان وصفاء الحيدري.
البياتي وأباريقه
في الفصل الأول يتناول المؤلف تجربة البياتي وبالتحديد ديوانه أباريق مهشمة، الذي اكتسب قيمة تاريخية إضافة إلى قيمته الفنية كما أورد في مقدمة دراسته التي نشرها لمناسبة مرور نصف قرن على صدور هذا الديوان. يتعرض في البداية للظروف التاريخية والمناخ الأدبي التي نشر فيها الديوان (1954م) حيث شهدت فترة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات حتى 1958م تحولات سياسية وصراعات أيدلوجية عميقة، تركت أثرها ليس على الشعر فقط بل على مجمل الآداب والفنون، حيث ارتفعت موجة الكتابة الواقعية وطغى مفهوم الالتزام محيداً الكتابة الذاتية ذات المنطلقات الفنية المحضة.
يرى المؤلف أن ديوان أباريق مهشمة للبياتي يحتل مكانة متميزة في تاريخ الشعر العربي الحديث إذ أن البياتي قدم فيه قصائد حديثة "لا تكاد تمت إلى القصيدة الكلاسيكية، أو القصيدة الرومانسية، بأية صلة"، مع إشارته إلى أن البياتي استفاد من تجربتي السياب والملائكة فيما يتصل بإنجازاتهم التقنية في كتابة الشعر الحر.
نازك الملائكة
في الفصل الخاص بدراسة تجربة الشاعرة نازك الملائكة يتناول المؤلف فكرة تجاذب القديم والجديد في شعرها وفي نظريتها الشعرية، فرغم أنها كانت رائدة في كتابة الشعر الحر، أو شعر التفعيلة إذا ما شئنا أن نكون أكثر دقة، وكذلك في التنظير له من خلال مقدمتها المهمة لديوانها "شظايا ورماد" وفي كتابها التنظيري لاحقاً "قضايا الشعر المعاصر"؛ على الرغم من ذلك كله إلا أنها مرت بمرحلة تراجع ملفت ومحير سواء على صعيد الكتابة أو حتى التنظير النقدي.
يحلل المؤلف أسباب ذلك التراجع وتلك "الردة" عن الجديد، ويرجعها إلى أسباب عدة، لعل أبرزها هو أن المؤثر الأبرز في تجديدها الشعري أو تنظيرها النقدي على حد سواء، هو الشاعر الأمريكي إدغار آلن بو، ويورد شواهد عدة شعرية وتنظيرية تدعم حجته. ودلالة ذلك هو أنها حسب المؤلف "لم تقبس نار جديدها من الجديد حقاً، كما فعل مجايلوها، بل قبستها من قديم الشعر الأمريكي.
الشاعر المغبون
الفصل الثالث كان مخصصاً لمن يسميه المؤلف "الشاعر المغبون"، بلند الحيدري الذي لا يذكر إلا رابعاً بين رواد حركة الشعر الحر في العراق والعالم العربي بعد السياب والبياتي ونازك الملائكة، رغم أن ديوانه الأول "خفقة الطين"، والذي يحتوي على قصائد تنتمي للشعر الحر، سبق دواوينهم الأولى لناحية تاريخ الصدور. يرجع المؤلف أسباب ذلك إلى أن بلند لم يمر بمراحل تغير جذرية في شعره وكان أقرب إلى الكتابة التلقائية، بعيداً عن اللجوء إلى توظيف تقنيات أسلوبية أو حتى إيقاعية تضفي على شعره نوعاً من الفرادة والتميز كما فعل البياتي والسياب والملائكة بدرجة أقل. ورغم إشارة المؤلف إلى الظلم الذي وقع على الحيدري في بداية دراسته عنه إلا أنه يعود في موضع آخر من تلك الدراسة ليقول إن حركة النقد لم تظلمه حينما وضعته (رابعاً) بين رواد حركة الشعر الحر، فهو "لم يبلغ مرحلة النضج الشعري" إلا بعد صدور ديوانه الثالث "أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى" (1957)، أي بعد أن امتد تأثير حركة الشعر الحر إلى أقطار عربية أخرى.
شاعر اللا قاعدة
"سعدي يوسف والبحث عن طريق خاص" كان هو عنوان الفصل الخاص بدراسة الشاعر العراقي غزير الإنتاج والمثير للجدل الذي ظهر بين جيلين من الشعراء، جيل سبقه ببضع سنوات، هو جيل السياب والبياتي، وجيل أعقبه ببضع سنوات وهو ما عرف بجيل الستينيات، كما يشير المؤلف في مطلع دراسته. وكعادته ينقب المؤلف بحذق واقتدار عن المؤثرات التي شكلت ملامح الهوية الشعرية المتحولة لسعدي يوسف عبر مراحل مختلفة بدءاً من تأثره بتجربة البياتي فيما يخص الشعر الحر، وصولاً إلى تأثره الذي بات معروفًا وأشار إليه عدد من النقاد من قبل (للناقد فخري صالح كتاب بهذا الشأن) بالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، وكتابته ما بات يعرف فيما بعد بقصيدة الحياة اليومية والتي تأثر بها على وجه الخصوص شعراء قصيدة النثر العربية إجمالاً، مروراً بتأثر سعدي بتجربة الشاعر الإسباني لوركا الذي كان حضوره مهيمناً في تجربة سعدي.
ويحرص المؤلف على التأكيد في ثنايا دراسته أن تأثر سعدي بالشعراء الآخرين لا يعني بطبيعة الحال أنه عمد إلى تقليدهم تقليداً فجاً "فهو يستخدم مهاراته الخاصة ويستظل بوعيه وذكائه لينحرف بقصيدته عن قصائد من يتأثر بهم.. فتبدو وكأنها تنتمي إليه وخالصة له".
ويخلص الكاتب إلى أن القاعدة الذهبية التي يعتمدها سعدي في كتابة شعره هي: اللا قاعدة، كما يشير في ختام دراسته "فهو يشكل قصيدته بناء على ما تلهمه به اللحظة الشعرية"، إذ لم يعد لقصيدته شكل جاهز، بل أصبح أكثر ميلا للتجريب حتى على مستوى النظام الإيقاعي الذي يخضع قصائده له غالباً، حتى أن لم يستنكف من كتابة بعض قصائده نثراً وإن بصورة أقل.
لم يُنجز
أما "الوعد الذي لم ينجز" كما جاء في عنوان الفصل الخاص بدراسته، ونعني به الشاعر محمود البريكان، الذي استعاض بشهرة الغياب عن شهرة الحضور، كما يقول المؤلف، فهو بلا شك يمثل حالة خاصة في الشعر العراقي والعربي المعاصر، فعلى الرغم من أنه كان معاصراً لرواد القصيدة الحرة ورغم خوضه في كتابة الشعر الحر منذ مرحلة مبكرة من تجربته الإبداعية إلا أن عزوفه الغريب عن النشر وإصراره على التواري والركون الاختياري إلى الظل همش من دوره في صياغة المشهد الشعري آنذاك، على الرغم من إجماع معاصريه من الشعراء والنقاد على أهمية تجربته وأولهم السياب الذي قال عنه:"محمود البريكان شاعر عظيم، ولكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر".
يميل المؤلف إلى تفنيد القول بركون البريكان إلى العزلة ركوناً تاماً كما أشيع عنه، فقد كان على صلة بالوسط الثقافي، حتى وإن كان ذلك من خلال حفنة من الأصدقاء، كما أنه – حسب تحليل المؤلف – كان يلجأ لتطبيق استراتيجية محددة في نشر قصائده، فقد كان ينشر نصوصه الشعرية على فترات متباعدة ومتقطعة تأكيداً لحضوره على مستوى المنجز النصي بين شعراء جيله وحتى ما تلاه من أجيال.
كما يرجح المؤلف عدم صحة المسوغ الذي قيل بأنه كان السبب في عزوف البريكان عن النشر، وهو أن الشعراء الآخرين (وفي مقدمتهم السياب) كانوا "يتطفلون" على قصائده ويستقون أفكار قصائدهم منها. البريكان حسب توصيف الكاتب "شاعر أفكار وشكل شعري دارج، وهو يعبر عن أفكاره بلغة دقيقة وصارمة، وصور محسوسة منحوتة بعناية، وإيقاع وزني مألوف"، وهو يختلف في ذلك عن السياب مثلاً في تدفق لغة السياب واستطالاتها وتفجراتها الإيقاعية.
الشاعر المتمرد
يصف المؤلف الشاعر المتمرد حسين مردان بأنه جذوة جيل فهو "خير ممثل للروح التي حلت في الشعراء العراقيين الشباب الذين ظهروا في أواخر أربعينيات القرن العشرين" وباتوا يعرفون برواد الشعر الحر في العالم العربي كله. وما ميزه عن أترابه هو أن تمرده وخروجه على المألوف لم يقتصر على نصوصه بل امتد ليشمل "سلوكه ونمط حياته وجرأته في اقتحام المجهول". وربما كان السبب وراء عدم طرحه اسمه نقدياً كرائد من رواد الشعر الحر بالقدر الذي طرحت فيه أسماء أترابه ومجايليه هو أنه تدرج بشيء من البطء في التنقل من شكل كتابي إلى آخر، ليستقر على كتابة ما أطلق عليه اسم "النثر المركز" وهو مجرد اسم آخر للشعر الحر الخالي من الوزن والقافية، أو ما بات يعرف لاحقاً بقصيدة النثر.
كان مردان يكتب ما يحلو له وما هو مقتنع به غير آبه بتراكض مجايليه في مضمار الشعر الحديث، إذ يحاول كل منهم أن يسجل لنفسه قصب السبق.
أما الشاعر صفاء الحيدري، شقيق بلند، فهو كما يصفه المؤلف طاقة شعرية كبيرة، عرف بكتابة المطولات الشعرية التي أهدر طاقته الشعرية فيها "ذلك أنها لم تنطو على قيمة فنية عالية، لا من حيث مضمونها ولا من حيث شكلها"، الأمر الذي لا يبرر، ربما، ضمه إلى ما سبقه من أسماء شعرية مهمة وذات دور ملموس في صياغة ملامح الشعر العربي الحديث.
وبعد هذا الاستعراض السريع وغير المنصف لمحتوى هذا الكتاب المهم، أستطيع القول إنه لا غنى عنه لكل دارس أو باحث في الشعر العراقي والعربي الحديث، كما أنه بمثابة الدليل الذي لا غنى عنه أيضاً لكل شاعر تحدوه الرغبة لمعرفة كيف تشكلت البواكير الأولى للشعر الحديث، ومراحل التطور التي طرأت في التجربة الشعرية لدى عدد من أبرز أعلام الشعر العراقي والعربي الحديث.
*المصدر :جريدة اليوم (السعودية ) وتصدر في الرياض 17 مايو -ايار 2014 والرابط :http://www.alyaum.com/News/art/139817.html
«الطريق إلى الحداثة».. علامات بارزة ومحطات شعرية مضيئة
قراءة: عبدالوهاب أبو زيد
عُرف الشاعر العراقي سامي مهدي بوصفه واحداً من أبرز الشعراء العراقيين والعرب، الذين شكلوا مرحلة لاحقة لمرحلة رواد الشعر العربي الحديث، ولكن ما لا يعرفه بعض القراء عنه هو أنه ناقد قدير أيضاً، وله عدة مؤلفات نقدية مهمة، ومن بينها كتاب "الطريق إلى الحداثة" الصادر مؤخراً عن دار "ميزوبوتاميا"، والذي يضم سبع دراسات غنية تتسم بالثراء المعرفي والعمق التحليلي عن شعر سبعة من شعراء الجيل، الذي اصطلح على تسميته بجيل الخمسينيات في العراق وهو الجيل "الذي واجه سؤال الحداثة والتحديث في الشعر العراقي المعاصر" كما جاء في تقديم الكتاب.
والشعراء السبعة هم: عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري وسعدي يوسف ومحمود البريكان وحسين مردان وصفاء الحيدري.
البياتي وأباريقه
في الفصل الأول يتناول المؤلف تجربة البياتي وبالتحديد ديوانه أباريق مهشمة، الذي اكتسب قيمة تاريخية إضافة إلى قيمته الفنية كما أورد في مقدمة دراسته التي نشرها لمناسبة مرور نصف قرن على صدور هذا الديوان. يتعرض في البداية للظروف التاريخية والمناخ الأدبي التي نشر فيها الديوان (1954م) حيث شهدت فترة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات حتى 1958م تحولات سياسية وصراعات أيدلوجية عميقة، تركت أثرها ليس على الشعر فقط بل على مجمل الآداب والفنون، حيث ارتفعت موجة الكتابة الواقعية وطغى مفهوم الالتزام محيداً الكتابة الذاتية ذات المنطلقات الفنية المحضة.
يرى المؤلف أن ديوان أباريق مهشمة للبياتي يحتل مكانة متميزة في تاريخ الشعر العربي الحديث إذ أن البياتي قدم فيه قصائد حديثة "لا تكاد تمت إلى القصيدة الكلاسيكية، أو القصيدة الرومانسية، بأية صلة"، مع إشارته إلى أن البياتي استفاد من تجربتي السياب والملائكة فيما يتصل بإنجازاتهم التقنية في كتابة الشعر الحر.
نازك الملائكة
في الفصل الخاص بدراسة تجربة الشاعرة نازك الملائكة يتناول المؤلف فكرة تجاذب القديم والجديد في شعرها وفي نظريتها الشعرية، فرغم أنها كانت رائدة في كتابة الشعر الحر، أو شعر التفعيلة إذا ما شئنا أن نكون أكثر دقة، وكذلك في التنظير له من خلال مقدمتها المهمة لديوانها "شظايا ورماد" وفي كتابها التنظيري لاحقاً "قضايا الشعر المعاصر"؛ على الرغم من ذلك كله إلا أنها مرت بمرحلة تراجع ملفت ومحير سواء على صعيد الكتابة أو حتى التنظير النقدي.
يحلل المؤلف أسباب ذلك التراجع وتلك "الردة" عن الجديد، ويرجعها إلى أسباب عدة، لعل أبرزها هو أن المؤثر الأبرز في تجديدها الشعري أو تنظيرها النقدي على حد سواء، هو الشاعر الأمريكي إدغار آلن بو، ويورد شواهد عدة شعرية وتنظيرية تدعم حجته. ودلالة ذلك هو أنها حسب المؤلف "لم تقبس نار جديدها من الجديد حقاً، كما فعل مجايلوها، بل قبستها من قديم الشعر الأمريكي.
الشاعر المغبون
الفصل الثالث كان مخصصاً لمن يسميه المؤلف "الشاعر المغبون"، بلند الحيدري الذي لا يذكر إلا رابعاً بين رواد حركة الشعر الحر في العراق والعالم العربي بعد السياب والبياتي ونازك الملائكة، رغم أن ديوانه الأول "خفقة الطين"، والذي يحتوي على قصائد تنتمي للشعر الحر، سبق دواوينهم الأولى لناحية تاريخ الصدور. يرجع المؤلف أسباب ذلك إلى أن بلند لم يمر بمراحل تغير جذرية في شعره وكان أقرب إلى الكتابة التلقائية، بعيداً عن اللجوء إلى توظيف تقنيات أسلوبية أو حتى إيقاعية تضفي على شعره نوعاً من الفرادة والتميز كما فعل البياتي والسياب والملائكة بدرجة أقل. ورغم إشارة المؤلف إلى الظلم الذي وقع على الحيدري في بداية دراسته عنه إلا أنه يعود في موضع آخر من تلك الدراسة ليقول إن حركة النقد لم تظلمه حينما وضعته (رابعاً) بين رواد حركة الشعر الحر، فهو "لم يبلغ مرحلة النضج الشعري" إلا بعد صدور ديوانه الثالث "أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى" (1957)، أي بعد أن امتد تأثير حركة الشعر الحر إلى أقطار عربية أخرى.
شاعر اللا قاعدة
"سعدي يوسف والبحث عن طريق خاص" كان هو عنوان الفصل الخاص بدراسة الشاعر العراقي غزير الإنتاج والمثير للجدل الذي ظهر بين جيلين من الشعراء، جيل سبقه ببضع سنوات، هو جيل السياب والبياتي، وجيل أعقبه ببضع سنوات وهو ما عرف بجيل الستينيات، كما يشير المؤلف في مطلع دراسته. وكعادته ينقب المؤلف بحذق واقتدار عن المؤثرات التي شكلت ملامح الهوية الشعرية المتحولة لسعدي يوسف عبر مراحل مختلفة بدءاً من تأثره بتجربة البياتي فيما يخص الشعر الحر، وصولاً إلى تأثره الذي بات معروفًا وأشار إليه عدد من النقاد من قبل (للناقد فخري صالح كتاب بهذا الشأن) بالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، وكتابته ما بات يعرف فيما بعد بقصيدة الحياة اليومية والتي تأثر بها على وجه الخصوص شعراء قصيدة النثر العربية إجمالاً، مروراً بتأثر سعدي بتجربة الشاعر الإسباني لوركا الذي كان حضوره مهيمناً في تجربة سعدي.
ويحرص المؤلف على التأكيد في ثنايا دراسته أن تأثر سعدي بالشعراء الآخرين لا يعني بطبيعة الحال أنه عمد إلى تقليدهم تقليداً فجاً "فهو يستخدم مهاراته الخاصة ويستظل بوعيه وذكائه لينحرف بقصيدته عن قصائد من يتأثر بهم.. فتبدو وكأنها تنتمي إليه وخالصة له".
ويخلص الكاتب إلى أن القاعدة الذهبية التي يعتمدها سعدي في كتابة شعره هي: اللا قاعدة، كما يشير في ختام دراسته "فهو يشكل قصيدته بناء على ما تلهمه به اللحظة الشعرية"، إذ لم يعد لقصيدته شكل جاهز، بل أصبح أكثر ميلا للتجريب حتى على مستوى النظام الإيقاعي الذي يخضع قصائده له غالباً، حتى أن لم يستنكف من كتابة بعض قصائده نثراً وإن بصورة أقل.
لم يُنجز
أما "الوعد الذي لم ينجز" كما جاء في عنوان الفصل الخاص بدراسته، ونعني به الشاعر محمود البريكان، الذي استعاض بشهرة الغياب عن شهرة الحضور، كما يقول المؤلف، فهو بلا شك يمثل حالة خاصة في الشعر العراقي والعربي المعاصر، فعلى الرغم من أنه كان معاصراً لرواد القصيدة الحرة ورغم خوضه في كتابة الشعر الحر منذ مرحلة مبكرة من تجربته الإبداعية إلا أن عزوفه الغريب عن النشر وإصراره على التواري والركون الاختياري إلى الظل همش من دوره في صياغة المشهد الشعري آنذاك، على الرغم من إجماع معاصريه من الشعراء والنقاد على أهمية تجربته وأولهم السياب الذي قال عنه:"محمود البريكان شاعر عظيم، ولكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر".
يميل المؤلف إلى تفنيد القول بركون البريكان إلى العزلة ركوناً تاماً كما أشيع عنه، فقد كان على صلة بالوسط الثقافي، حتى وإن كان ذلك من خلال حفنة من الأصدقاء، كما أنه – حسب تحليل المؤلف – كان يلجأ لتطبيق استراتيجية محددة في نشر قصائده، فقد كان ينشر نصوصه الشعرية على فترات متباعدة ومتقطعة تأكيداً لحضوره على مستوى المنجز النصي بين شعراء جيله وحتى ما تلاه من أجيال.
كما يرجح المؤلف عدم صحة المسوغ الذي قيل بأنه كان السبب في عزوف البريكان عن النشر، وهو أن الشعراء الآخرين (وفي مقدمتهم السياب) كانوا "يتطفلون" على قصائده ويستقون أفكار قصائدهم منها. البريكان حسب توصيف الكاتب "شاعر أفكار وشكل شعري دارج، وهو يعبر عن أفكاره بلغة دقيقة وصارمة، وصور محسوسة منحوتة بعناية، وإيقاع وزني مألوف"، وهو يختلف في ذلك عن السياب مثلاً في تدفق لغة السياب واستطالاتها وتفجراتها الإيقاعية.
الشاعر المتمرد
يصف المؤلف الشاعر المتمرد حسين مردان بأنه جذوة جيل فهو "خير ممثل للروح التي حلت في الشعراء العراقيين الشباب الذين ظهروا في أواخر أربعينيات القرن العشرين" وباتوا يعرفون برواد الشعر الحر في العالم العربي كله. وما ميزه عن أترابه هو أن تمرده وخروجه على المألوف لم يقتصر على نصوصه بل امتد ليشمل "سلوكه ونمط حياته وجرأته في اقتحام المجهول". وربما كان السبب وراء عدم طرحه اسمه نقدياً كرائد من رواد الشعر الحر بالقدر الذي طرحت فيه أسماء أترابه ومجايليه هو أنه تدرج بشيء من البطء في التنقل من شكل كتابي إلى آخر، ليستقر على كتابة ما أطلق عليه اسم "النثر المركز" وهو مجرد اسم آخر للشعر الحر الخالي من الوزن والقافية، أو ما بات يعرف لاحقاً بقصيدة النثر.
كان مردان يكتب ما يحلو له وما هو مقتنع به غير آبه بتراكض مجايليه في مضمار الشعر الحديث، إذ يحاول كل منهم أن يسجل لنفسه قصب السبق.
أما الشاعر صفاء الحيدري، شقيق بلند، فهو كما يصفه المؤلف طاقة شعرية كبيرة، عرف بكتابة المطولات الشعرية التي أهدر طاقته الشعرية فيها "ذلك أنها لم تنطو على قيمة فنية عالية، لا من حيث مضمونها ولا من حيث شكلها"، الأمر الذي لا يبرر، ربما، ضمه إلى ما سبقه من أسماء شعرية مهمة وذات دور ملموس في صياغة ملامح الشعر العربي الحديث.
وبعد هذا الاستعراض السريع وغير المنصف لمحتوى هذا الكتاب المهم، أستطيع القول إنه لا غنى عنه لكل دارس أو باحث في الشعر العراقي والعربي الحديث، كما أنه بمثابة الدليل الذي لا غنى عنه أيضاً لكل شاعر تحدوه الرغبة لمعرفة كيف تشكلت البواكير الأولى للشعر الحديث، ومراحل التطور التي طرأت في التجربة الشعرية لدى عدد من أبرز أعلام الشعر العراقي والعربي الحديث.
*المصدر :جريدة اليوم (السعودية ) وتصدر في الرياض 17 مايو -ايار 2014 والرابط :http://www.alyaum.com/News/art/139817.html


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق