الثلاثاء، 13 مايو 2014

جمال عبد الناصر بقلم :الاستاذ أحمد الحبوبي

جمال عبد الناصر
بقلم :الاستاذ أحمد الحبوبي

ليس فى نيتى أو فى مقدورى حتى لو أردت أن أكتب عن جمال عبد الناصر ، وكل الذي أردته عندما أدرجت اسمه واحداً من (أشخاص كما عرفتهم) أن أسجل بأمانة الانطباع الذى تركه هذا الرجل فى نفسى كإنسان ليس غير فلان تسمع عن شخص مثل عبد الناصر ملأ الدنيا وشغل الناس غير أن تلتقى به وتجلس معه وتتجاذب وإياه اطراف الحديث ويشد انتباهك فلا الهيبة تلجم اللسان ولا الهالة تشتت الفكر ، تجد نفسك أمام إنسان بسيط عادى تشعر معه بالألفة وكأنك تعرفه قبل أن تراه وتلتقى به.
التقيت به ثلاث مرات واستمر اللقاء ساعات طويلة هى كافية فى تقديرى لأن أكون عنه رأياً أو أخذ عن شخصه انطباعاً ، كتب عن عبد الناصر الكثير وقيل فيه الكثير وبكل لغات الدنيا ، كتب عنه المحبون وكتب عنه الكارهون وقد يكون فى كتابة هؤلاء وهؤلاء مغالاة فى الحب ومغالاة فى الكره ، وسيظل عبد الناصر مادة للكتابة ، هذا الضابط الصغير الذى زلزل عروشاً ودك حصونا وقوض امبراطوريات وأيقظ شعوباً ، ومع ذلك فرض احترامه على الجميع بما فيهم أعداؤه ، قاتل بشرف وأمانة عن كل ما أمن به فامتلك قلوب الناس واحترمه حتى خصومه ، وإن ظلوا يدبرون المؤامرات ويكيدون له ويتربصون به الدوائر إلى أن مات فأراح واستراح.
كانت المقابلة الأولى فى الشهر السابع سنة 1965 عندما كنت عضواً فى وفد رسمى عراقى جاء إلى مصر للتهنئة بثورة 23 يوليو ، برئاسة المرحوم طاهر يحيى (رئيس الوزراء) وعضوية الأستاذ ناجى طالب (وزير الخارجية) (والأستاذ شكرى صالح زكى) المعين سفيراً للعراق فى مصر. وكنت وزيراً للشئون البلدية والقروية.
كان موعد لقاء الوفد مع عبد الناصر عصراً بداره فى منشية البكرى ، أدخلنا إلى الصالون وأخذنا أماكننا ، ولم يدر بيننا حديث انتظاراً لدخول الرجل ، ولا أدرى هل كان الاضطراب قد اعترانى وحدى أم أنه قد تملك من زملائى الصامتين وقد خيم علينا السكون ، فانشغلت عنهم بالصالون أتفحصه ، إنه متوسط المساحة ، عادى الأثاث ، تغطى أرضه سجادة قديمة وتتدلى من سقفه نجفة .. ودخل الرجل فجأة بقامته المديدة ، فهببنا واقفين وصافح طاهر يحيى ثم ناجى طالب ثم شكرى صالح زكى ثم وصل لى فمددت يدى فشد عليها بقوة وقرب أذنه من وجهى ليسمعنى جيداً وأنا أنطق بأسمى ، كان يردد أهلاً وسهلاً مع كل مصافحة.
نظرت إلى عينيه فرأيتهما تلمعان بشكل غير مألوف ، ولم تفارق الابتسامة وجهة منذ دخوله . جلس ثم جلسنا وما زال يردد أهلاً وسهلاً ، الحمد لله على السلامة ، ثم سأل عن صحة الأخ عبد السلام عارف فأجابه طاهر يحيى أنه بخير ويبلغ سيادتك السلام وقد حملنا التهنئة بهذه المناسبة ، فأجاب : شكراً لكم جميعاً.
لم يكن عند الوفد ، حسب علمى ، موضوع معين يطرقه أو قضية خاصة يتحدث فيها فالذى أعرفه أنها زيارة مجاملة من قبل وفد العراق حرص عبد الناصر على لقائه وتكريمه وشكره ، ولكن المرحوم طاهر يحيى أخذ يتحدث عن الخلاف الذى حصل بين المرحوم عبد السلام عارف وبين عبد الكريم فرحان (كان وزيراً للثقافة والإرشاد) فى شأن من شؤون الإذاعة العراقية ، استقال على أثره عبد الكريم فرحان ثم ترك العراق وجاء إلى القاهرة فكان أن استقال تضامناً معه كل من الأساتذة الوزراء (صبحى عبد الحميد ، أديب الجادر، فؤاد الركابى ، عزيز الحافظ ، عبد الستار على الحسين) وأفاض طاهر يحيى فى شرح هذا الموضوع وملابساته وكأنه يريد أن يطمئن الرئيس عبد الناصر أن الحدث لم يخلف ذيولاً أو يعقب مشاكلاً رغم تسرع الأخ عبد الكريم فرحان وأن الأمور ماشية (وكلنا أخوة) .. أجاب عبد الناصر بأنه قد فوجئ هو أيضاً عندما أبلغ أن الأخ عبد الكريم فرحان وصل القاهرة بشكل فجائى وأنه زعلان ومستقيل وأنه ، والكلام ما زال لعبد الناصر ، لا يكتمنا أنه قد انزعج من هذا التصرف المتسرع وأنه يتمنى الآن أن تكون النفوس قد هدأت والعلاقات الأخوية سادت وإلا تحصل الوقيعة بينكم فالإذاعات الأجنبية بثت وأعلنت أن الوزراء الستة المستقيلين هم من الناصريين – (طبعاً قصدها أن تدس) ثم أفاض فى ضرورة الحفاظ على العلاقات الأخوية الطيبة وضبط الأعصاب والعمل لمصلحة البلد . سكت عبد الناصر :
فاستأذنت بطلب الكلام فقال تفضل أستاذ أحمد ، قلت لا أريد سيادة الرئيس التعرض للموضوع الذى طرحه الأخ طاهر يحيى عن الخلاف وأسبابه ومن المسؤول عنه فأنا يا سيادة الرئيس أحد الوزراء الذين قبلوا الاشتراك فى الوزارة بعد استقالة الأخوة وأنا قومى (ناصرى) فانتبه عبد الناصر لكلمة (ناصرى) والتمعت عيناه وبدا على أخوانى أعضاء الوفد كأنهم فوجئوا بهذا التعبير ثم واصلت .. نعم أنا ناصرى إذا كانت الناصرية تعنى العمل على تحقيق أمانى شعوب أمتنا العربية فى الوحدة والحياة الحرة الكريمة ومحاربة الاستعمار بأى شكل كان وقد قبلت المسئولية بناء على شروط كنا قد وضعناها فى الحزب العربى الاشتراكى الذى أنتمى اليه ، صحيح الحكم فى العراق هويته قومية وتنظيمه السياسى (الاتحاد الاشتراكي العربى) والحكومة تضم عناصر قومية عسكرية ومدنية ولكن المشكلة أو المشاكل ليس لها أساس عقائدى أو خلاف أيدولوجى بقدر ما هى ذات طابع شخصى ومزاجى بالدرجة الأولى ولكنها تبرقع بغلاف أيدولوجى (عاد الأخ عبد الكريم فرحان وبعض الأخوة المستقيلين فقبلوا مناصب وزارية بعدئذ ... ) وإلا ما معنى الشللية بين الضباط فتسمع هذه جماعة الضباط فلان . وهذه جماعة الضباط فلان .. وكل الجماعات يتضمنها فى النهاية توجه فكرى وعقيدى واحد فعلام إذاً الإختلاف أن وجد وهو موجود فعلاً ، السبب شخصى بحت وليس للقومية دخل فيه وهى منه براء ..
كان عبد الناصر ينصت باهتمام وشعرت أن زملائى أعضاء الوفد لم يرق لهم كلامى .. عقب عبد الناصر على كلامى :- ياإخوانى هذا الشاب (الناصرى) وضحك ، اصغركم سناً كما يبدو ومتحمس لعقيدته وصريح وكل الذى أرجوه أن تكون علاقاتكم مع الأخ عبد السلام عارف جيدة وتحلوا المشاكل بروح أخوية طيبة ، وإذا كان الأخ عبد السلام يشعر ببعض التعب ويحتاج إلى راحة فأهلاً وسهلاً (بيجى عندنا) بعض الوقت ثم إنى مشتاق اليه ، وتكلم الأستاذ ناجى طالب كلاماً عاماً طيباً (فهو لا يريد أن يزيد من مشاغل ومشاكل الرئيس عبد الناصر) .. وكذلك فعل الأستاذ شكرى ، لا ندرى كم من الوقت انقضى فقد كانت أكواب العصير والقهوة تقدم بين الحين والحين.
ودخل علينا سكرتير عبد الناصر ففهمنا أن وقت المقابلة قد أنتهى بل وتجاوز الوقت المحدد فاستأذنا فى الخروج ، وفى مساء اليوم الثانى حضرنا الحفل السنوى الذى يقام فى نادى الضباط فى الزمالك تحت رعاية الرئيس جمال عبد الناصر وتغنى فيه أم كلثوم وأثناء الاستراحة التقيت بعبد الناصر وجهاً لوجه فسلمت عليه وصافحته فقال ضاحكاً (كيف أحوال أخونا الناصرى) أجبته بخير والحمد لله.
ودعى الوفد العراقى لحضور الاحتفالات فى الإسكندرية وأقام لنا الرئيس عبد الناصر مأدبة غداء فى فيلته فى شاطئ المعمورة حضرها من المصريين على صبرى (رئيس الوزراء المصرى) وحسين الشافعى وزكريا محيى الدين وأضفت علينا جلسة الشاطئ ومنظر البحر مزيداً من التحرر فى الحديث والنكتة والضحك ونحن جلوس على رمل الشاطئ وماء البحر يلامس القدام فها هو عبد الناصر بالبنطلون والقميص يجلس معنا وقد رفع الكلفة وراح يتحدث وكأنه يعرفنا ونعرفه منذ زمن ، دعينا إلى مائدة الطعام وقبل أن تمتد الأيدى أراد الأخ شكرى صالح زكى أن يضفى جواً من المرح المستمر وإذا به يوجه الكلام للرئيس جمال عبد الناصر قائلاً سيادة الرئيس الأخ أحمد الحبوبى لا يأكل من هذا السمك (كان أغلب الطعام الموضوع على المائدة مصنوعاً من السمك) وأشار إلى سمكة كبيرة تتصدر المائدة تشبه السمك (الجري) المعروف فى العراق الخالى من الصدف فاستفسر عبد الناصر عن سبب عدم أكل الحبوبى من هذه السمكة ؟ فأجابه الستاذ شكرى : لأن الأستاذ الحبوبى شيعى ، فأجابه عبد الناصر بسرعة وباللهجة المصرية (ومالهم الشيعة ، أنا مراتى شيعية ، وأصلها من الكاظمية .. من عندكو ..) ثم التفت لى رحمة الله يطلب جواباً عن عدم اكل السمكة فأجبته صحيح أن القرأن الكريم يقول "وحللنا لكم صيد البر والبحر " ولكن الشيعة يكرهون أكل السمك الذى ليس له قشرة أو فلس أو (صدف) كأن يكون أملساً كهذه السمكة الخالية من القشرة ولا أعرف على حد علمى سبباً آخر يجعل الشيعة يحرمون أكل هذا النوع من السمك عدا ما ذكرت فأجاب رحمه الله : يعنى ما راح تأكل منها ، أجبت لا طبعاً . ولا أذكر أن حديثاً خاصاً أو موضوعاً ما أستحوذ على لقائنا قبل الطعام وبعده فكأن عبد الناصر أراد لنا الابتعاد عن هموم السياسة فأتاح لنا لقاء نستريح فيه فى مثل هذا المكان الساحر . وبعد تناول الشاى عدنا إلى حيث مقر إقامتنا فى قصر الصفا فى الإسكندرية.
وكان اللقاء الثالث بمناسبة انعقاد مؤتمر المحامين العرب فى القاهرة قبل نكسة سنة 67 فقد رتب لنا الأخ الأستاذ سامى شرف لقاء مع الرئيس يضم الزملاء المحامين عبد الكريم فرحان ، زكى جميل حافظ ، توفيق المؤمن ، صبيح الكبيسى ، وأنا وكنا قد وزعنا الموضوعات التى سنطرقها بيننا وأن يكون الأخ عبد الكريم فرحان هو البادئ بالكلام باعتباره أكبرنا سناً.
واستقبلنا عبد الناصر عصراً فى بيته فى منشية البكرى ، وصافح كلاُ منا بحرارة بابتسامته المعهودة ، وما أن جلسنا حتى وجه حديثه للأخ عبد الكريم فرحان هو البادئ بالكلام باعتباره أكبرنا سناً.
واستقبلنا عبد الناصر عصراً فى بيته فى منشية البكرى ، وصافح كلاً منا بحرارة بابتسامته المعهودة ، وما أن جلسنا حتى وجه حديثه للأخ عبد الكريم فرحان قائلاً وباللهجة المصرية : "إيه الحكاية يا أخ عبد الكريم" فأرتبك عبد الكريم ولم يعرف قصد الرئيس الذى استرسل موجهاً الكلام للأخ عبد الكريم "كده يا أخ عبد الكريم تهرب من المعركة .. أنا أعرف أن العسكري ما بيهرب . وبعدين تستقيل وتعمل دوشة .. إزاى ..) عرفت أن الرئيس عبد الناصر يقصد موضوع الخلاف الذى أشرت إليه والذى حدث سنة 1965 بين عبد السلام وعبد الكريم والذى أدى إلى استقالة الأخوة الوزراء الستة إذا يبدو أن الرئيس عبد الناصر لم يلتق بالأخ عبد الكريم طوال هذه المدة وكأنه لم ينس الحادثة وقد مر عليها قرابة السنتين .. لم يجد الأخ عبد الكريم جواباً وظل ساكتاً وبدا عليه الارتباك وكأنه فؤجئ بحديث الرئيس كما فوجئنا .. وانتهزت فرصة عبد الناصر عن الكلام فتدخلت محاولاً إنقاذ الموقف والحرج الذى وقع فيه الأخ عبد الكريم فتدخلت محاولاً إنقاذ الموقف والحرج الذى وقع فيه الأخ عبد الكريم فتدخلت محاولاً إنقاذ الموقف والحرج الذى وقع فيه الأخ عبد الكريم قلت سيادة الرئيس هذا موضوع قديم وتتذكر سيادتك أننا قد بحثناه معك فى حينه ... فأجاب عبد الناصر وبسرعة نعم أتذكر ذلك ولكن هذه فرصة أتحدث فيها معكم فأنا لم ارَى عبد الكريم .. وقبل بيومين حضر عندى أخ اسمه إسماعيل خير الله (وزير الخارجية بالوكالة) وشكى لى عن بعض المشاكل والخلافات بين عبد الرحمن عارف وبين القوى القومية فى العراق وكأنه يريد أن يوسطنى. وهنا تكلم الأخوة فى الموضوعات المتفق عليها وكلها تخص هموم العراق والأمة العربية وبواكير المؤامرة وتحركات المشبوهين وعن الحياة السياسية فى العراق وعن عبد الرحمن عارف الطيب المسكين والتسيب الذى تسير عليه الحكومة وأفاض الإخوان كثيراً والرئيس يستمع بإهتمام وبعد أن فرغنا جميعاً قال رحمه الله : مرة من المرات اختفى فجأة المشير عبد الحكيم عامر من القاهرة وفتشنا عنه فى كل مكان يرتاده فلم نجده لا فى بيته ولا فى القيادة ولا فى أى مكان ...
وأخيراً عرفت انه قد سافر زعلان إلى قريته فى الصعيد فسافرت أنا اليه بنفسى وفاجأته وأنا أدخل عليه داره فى قريته فأخذته المفاجأة وتعانقنا وتصافت نفوسنا وعدنا سوياً إلى القاهرة وقد زال ما بالنفوس.
أيها الأخوة ن يجب أن نتحلى بضبط الأعصاب ويتحمل بعضنا بعضاً ولا بأس أن تتعاونوا مع عبد الرحمن عارف فهو رجل طيب ولا تتركوه لوحده يواجه المشاكل والمتاعب.
ثم التفت إلى عبد الكريم فرحان وأراد أن يطيب خاطره ويزيل من نفسه ما علق بها قائلاً بمزاح : (مش كده يا أخ عبد الكريم) وضحك وضحكنا جميعاً وانفتحت أسارير عبد الكريم فرحان وإن كان ظل على سكوته .... كان هذا آخر لقاء مع الرجل فبعد أشهر قليلة نفذت المؤامرة فى 5/6/1967 واحتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة وغرق عبد الناصر فى بحور من المشاكل والمشاغل ... وتشاء الظروف أن احضر إلى القاهرة يوم 26/9/1970 ويتوفى عبد الناصر يوم 28/9/1970 أى بعد يومين اثنين فقط.
لم تحتمل أعصاب عبد الناصر ما حصل فى (5) حزيران التى أسماها بعضهم بالنكسة والحقيقة هى أكبر من ذلك – فقد كانت الخسارة أكبر مما يحتملها نظام عبد الناصر ولا مؤيدوه ، الأمر الذى دفعه إلى تقديم استقالته وتحمل المسؤولية لوحده ، لولا أن أعادته الجماهير بحسها الوطنى مؤمنة بأن الرجل وهو مكسور خير من يسير بهم إلى محو آثار الهزيمة وشرع فى بناء الجيش وإعادة النظر فى الكثير من الأمور الداخلية الخاصة بالحكم والإدارة والاقتصاد ودخل فى حرب استنزاف مع العدو الصهيونى تحت شعار (ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) وشعرت إسرائيل ووراءها أمريكا بجدية عبد النار وتصميمه على استرداد الأرض ومحو آثار النكسة فراحت كل منهما تقيم العثرات أمام طريقه وتدبر المؤامرات لإضعافه وبث الإشاعات وترويجها هنا وهناك لإحداث البلبلة خاصة بعد قبول مشروع (روجرز ..) وخاصة أيضاً بعد انقلاب حزب البعث العراقى فى 17/7/1968 والمزايدات التى راحت تغزو الشارع وزاد فى الطين بلة احتدام المعارك بين المقاومة الفلسطينية المتواجدة فى الأردن من جهة وبين الملك حسين وقواته المسلحة من جهة ثانية وقد تصاعدت وأنذرت بخطر الانفجار فأضطر عبد الناصر إلى الدعوة إلى مؤتمر قمة عربية انعقد فى القاهرة لإيقاف سيل الدماء فى (أيلول الأسود كما سمى).
كنت فى دمشق أراقب الموقف بعد أن عدت من جولة فى أوربا .... ثم سافرت يوم 26/9/1970 إلى القاهرة لأكون قريباً من الأحداث ... أبلغنى سكرتير سامى شرف يوم 27/9/1970 أن الأستاذ سامى ينتظرنى فى الساعة الواحدة من يوم 28/9/1970 فى مكتبه فى منشية البكرى ... وكان مؤتمر القمة قد انفض مساء يوم 27/9/1970 وقد نجح فى الوصول إلى صيغة تحقن الدماء العربية وتنفس الجميع الصعداء ... ذهبت فى الموعد المضروب وكنت فى المكتب حوالى الساعة 12.30 ظهراً أى قبل الموعد بنصف ساعة فاستقبلنى مدير المكتب (وأظن أن اسمه السكرى) وبعد أن طلب لى القهوة استأذن وخرج لبعض شؤونه وتركنى فى الغرفة أجول بنظرى فى محتوياتها ثم فتحت الباب وأطل منها السكرتير وقد بان عليه الارتباك وأخذ يعتذر بأن الأستاذ سامى مع الرئيس فى المطار لتوديع الملوك والرؤساء ولا أعلم متى يحضر وأخذ يعتذر عن التأخير ... فأبديت رغبتى بالانصراف على أمل ترتيب موعد آخر فبدت على وجهه علامات الرضا لهذا الاقتراح وعقب قائلاً أن (سامى بك) سيتصل بسيادتكم حال رجوعه فشكرته وخرجت ...
وعصر ذلك اليوم 28/9/1970 لفت انتباهى أن الإذاعات المصرية كلها تبث آيات قرآنية وكأنها قد ألغت جميع برامجها العادية فعلق أخى (محمد) يبدو (أن على صبري قد توفى .. لأنه مصاب بمرض القلب .. كما هو معروف) فلم أعلق بشئ ومن خلال راديو سيارة أخى محمد طلع المذيع يعلن أن (أنور السادات نائب رئيس الجمهورية) سيذيع عليكم بياناً هاماً قلت بصوت عال (يا جماعة مات جمال عبدالناصر) .. كان ذلك مساء يوم .. 28/9/1970 أذاع السادات خبر الوفاة .. وفى اليوم التالى ذهبت مع بعض العراقيين إلى قصر القبة لنلقى النظرة الأخيرة على جثمان جمال عبد الناصر الذى كان مسجى هناك .. ولم أستطع حضور تشييع الجنازة .. فقد كانت عائمة على بحر متلاطم من أجساد بشرية ..
وجدت عبد الناصر إنساناً بسيطاً حتى فى مظهره فملابسه عادية تماماً ففى المرات الثلاث التى قابلته فيها كان يرتدى القميص والبنطلون .. يعمل وبتلقائية على رفع الكلفة بينه وبين من يجالسه أو يقابله أو يتحدث معه ، فهو دائم الابتسام وجيد الإصغاء ويوحى للمتكلم أنه مهتم بكل ما يقول فكله آذان صاغية ولا يقاطع المتحدث بل يتركه يسترسل إلى أن ينهى كلامه ، وأن تكلم يميل إلى الإطالة ويعنى بالتفاصيل الدقيقة ، يعرف بشكل جيد ظروف العراق وقواه السياسية مدنية وعسكرية وعن كل بلد عربى محيط هو بكل التفاصيل عنه لا تكاد السيكارة تفارق أصابعه ، لعينيه بريق ولمعان غريب يسحران ويأسران من يجالسه وقد أفاض كثيرون ممن قابلوه عن ظاهرة عينيه هذه تشعر بأنك راض عن المقابلة ومرتاح لها ويدخل عبد الناصر قلبك وقد يكون رغماً عنك.
*المصدر : http://www.alkomi.org/habob2.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدرسة الامير عبد الاله النموذجية في الموصل مرة اخرى مع ذكريات المربية الفاضلة الاستاذة ندوة عبد الجبار محمود

كادر وملاك مدرسة الفتوة النموذجية  3 حزيران -يونيو سنة 1971 شهادة تخرج التلميذة شكيبة حموشي من الصف السادس الابتدائي 1949    فرقة الموسيقى ف...