قدر الناصرية عجيب.....
بقلم :الاستاذ طارق حربي
سومريون نت
سليلة المستقرات البشرية الأولى، والمدن السومرية ذات الأسوار والدفاعات ضد الأعداء، وريثة بطائح ذي قار التي أصبحت ثكنة عسكرية خلال الفتح الاسلامي، استقر فيها العرب بعد الفتح واختلطوا بقبائلها، ولما بناها مدحت باشا سنة 1869، أراد لها - من بين ماأراد- أن تكون ثكنة عسكرية للامبراطورية العثمانية، بعد محاولات كثيرة لإقناع الشيخ ناصر باشا السعدون، الذي ستسمى المدينة باسمه، "بأن العراق لم يعد يصلح لإمارة بدوية وزعامة حضرية" (1) ، فأسس دائرة تسجيل الطابو بالتواطؤ مع عدد من شيوخ آل السعدون المنقسمين، ففقدت العشائر أراضيها وتم تفتيت الإمارة.
"سليلة أقوى الامارات العدنانية" (2) (المنتفق)، لطالما أقلقت الإمبراطورية العثمانية، بعد توسعها إلى السماوة والبصرة والكوت والبادية، فتآمرت عليها بالتعاون مع حلفائها (سليمان فائق)، لنشر الفرقة وتقسيم الولاء بين أولاد العمومة (فالح بن ناصر وسعدون بن منصور) شيوخ المنتفق الأقوياء، وتمكنت من قطع أوصال الاتحاد وحصره في البطائح، وانتهى الأمر إلى بناء الناصرية.
إحتار السياسيون والإداريون في أمر بنائها : في السديناوية أم في العكيكة، في العرجاء أم في شمال سوق الشيوخ، لكن ناصر باشا وبالتشاور مع شقيقه منصور، حزم أمره بعد عودته من الاقامة الجبرية لدى الباب العالي بإسطنبول، وأمر ببناء الناصرية في منخفض (ابو جداحة)، لتكون تحت خطر الفيضان الدائم، إذا ماساءت علاقة آل سعدون بالدولة العثمانية، لكن الداهية مدحت باشا فهم مايضمره ناصر، فأمر بتقوية السدود!
جند الفتح الاسلامي من أهل البطائح مقاتلين، ومن حقولها علفا لدوابه، المنتفجيون كانوا مقاتلين أشداء، وفتوى من مرجعية النجف حشدت الآلاف من أهالي الناصرية وعشائرها، لصد الغزاة البريطانيين في معركة الشعيبة سنة 1915 ، بقيادة المرجع والشاعر محمد سعيد الحبوبي.
زج أبناء الناصرية في حروب العرب القومية، لاناقة لهم فيها ولابغل ( فلسطين والجولان ولبنان)، والعمليات الفدائية ضد إسرائيل، ليمتد عصر الإبادة الجماعية بأجيال عديدة، أكثرها - مع شديد الأسف- ماالتهمته نيران الحرب العراقية الإيرانية المجنونة.
صممها المهندس البلجيكي (جولس تيلي)، وكانت الوحيدة في العراق، على طراز المدن الحديثة في الدور الثاني من العصور الوسطى، يشطرها الفرات وعكد الهوا (شارع الحبوبي لاحقا) إلى نصفين، شوارع مستقيمة طويلة تحتمل تحركات الجندرمة العثمانيين لقمع حركات التمرد، أوطا من النهر تشكو المياه الجوفية (النزيز)، مهملة بلا تخطيط أو تجديد منذ قيام الدولة العراقية سنة 1921، لم تصب شيئا من العمران إلا في عهد الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، ومايزال المواطنون يتذكرونه حتى يومنا هذا.
الناصرية : تلك البلدة المشهورة بالحرية التي لاتقهر" (3) ، غريبة في مزاجها لاتشبه إلا نفسها، فهي في خصام دائم مع المركز منذ ماقبل التأسيس!،غامضة متمردة، رومانسية ثورية ويسارية، أنفة تهزأ بالحكام وملاذ ابنائها العشيرة أو الطائفة، الحزب اليساري أو التمرد الشخصي.
تتمدد بسوء تخطيط وعشوائية حتى تكاد تنفجر بالفلاحين والمهاجرين، وتتردد أصداء الحيوانات الخرافية والطناطل في أرجائها، ويملأها الغبار بعد توسع مساحات التصحر ماحولها، ويموت أبناؤها بأمراض منقرضة.
مدينة الغناء والأطوار المكتشفة والصوت المبحوح في التعازي الحسينية، ولودة الأحزاب اليسارية واليمينية، المفكرين الماركسيين والشعراء والغائبين، ماأكثر ماولدت من ضباط الصف والجنود!؟، يجلسون فوق القطار المزدحم، تأخذهم الحرب في نزهة ربما لايعودون منها أبدا، لكن يغنون (بستة) يوحد لحنها إيقاع مصير الموت، الذي نشَّفَ ريق الأمهات والآباء في حرب الجبل والهور وإيران.
محتسية العرق المستكي والزحلاوي والفريدة، المصلية القانتة بين يدي رب معبود صابرة في محرابه على البلوى، شينات ثلاث حددت هويتها منذ عشرات السنين : شيعي شيوعي شروكي!، فاستحقت إهمال الحكومات المتعاقبة عن جدارة!، صداعا للحكومات سبب كل واحدة من الشينات، الشيعة في الأهوار لهم في العصيان والعداء مع المركز إمارة دينية (المشعشعين) وزعيمها (عمران بن شاهين/توفي سنة 369) الذي دوخ وزراء بني العباس، ممتنعا عن دفع الضرائب، وفي الرومانسية الثورية الشهيد الحالم بالثورة خالد أحمد زكي قرر ورفاقه الإثنا عشر، إسقاط الحكومة العارفية سنة 1968 من أهوار الغموكة!، مرغوا أنفها بالتراب فلم توفر قواتها المسلحة ولاشيوخها الجواسيس من أجل إخماد الانتفاضة.
مدينة تستنكر زيارة طاهر يحيى لتفقد جهود ضد فيضان هددها سنة 1967 بلافتة، وتضع علامة الرفض (x) بعد منتصف الليل، على صور الطاغية صدام وهو في جبروته، فيراها المواطنون في الصباح قبل رجال الأمن ويشعرون بالانتصار لكرامتهم!
لاشك أن غواية الكتابة عن مدينة مثل الناصرية، تتطلب الكثير من الجهد والمثابرة، وضمير الشاهد الحي على أحداثها ووقائعها وشخصياتها وأماكنها وعجائبها، يسعدني أن أقدم للجزء الثاني من كتاب (شواهد من تأريخ الناصرية) للأستاذ والصديق إبراهيم عبد الحسن، الذي تعرفت إليه في فترة الشباب (إبن ولاية) نشيطا في الوسط الرياضي، وفي الأيام الأولى التي تلت إطلاق موقع سومريون.نت بعد سقوط نظام صدام، كان أول المبادرين في تعضيد الموقع، بمواد عن تأريخ الناصرية والأخبار والمقالات، فأصبح مراسلا دائما له، ولاحظت - منذ البدايات - تجاوبا لافتا مع كتاباته، وطلب القراء - سواء كانوا في داخل العراق أو خارجه - المزيد منها، ممن أثارت فيهم ذكريات الأمس الكثير من السلوى والشجون خاصة.
أعلى الكاتب من شأن ابناء مدينته التي أحبها، وثق تأريخ ومصائر مواطنيها البسطاء، السياسيين والكتاب والشعراء والمهمشين والظرفاء، الفنانين والرياضيين وأصحاب المهن في أسواقها، مقاهي الثوريين الرومانسيين والكسبة، وجوه المعلمين الطيبة والمنفيين، كتب عن ليالها وأشهر الشرّيبين في باراتها و(عصاتها) وشقاواتها ومواكبها الحسينية في شهر عاشوراء، المكتبات الحكومية والأهلية والفنادق، (ستوديوهات) التصوير، محلات بيع الساعات السويسرية، المطاعم والمقاهي والفنادق، (بوق) التعداد الصباحي) في الحامية الذي يوقظ النائمين في حي الإسكان وماجاوره، محلات بيع الذهب والحلويات و(الموبليات) والمثلجات، المعمار ومنه مــبنــى بــــــلدية الناصرية، دور السينما والمسرح وجمعية الفنون والآداب وبقية الأماكن الحميمة، حاور أشهر رموزها الرياضية والفنية والسياسية ومعذبيها وسجنائها، لهذا وغيره أعتبر الأستاذ إبراهيم عبد الحسن امتدادا لجيل من مؤرخي المدينة، في مقدمتهم الراحل شاكر الغرباوي والأستاذ حسن علي خلف، وحتما يكمل المسيرة جيل جديد تنجبه المدينة الولود للمبدعين والمخلصين، ممن سيكونون أمناء لتأريخ الناصرية العزيزة وحضارتها وحاضرها ومستقبلها.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) المفصل في تأريخ الناصرية.. حسن علي خلف
(2) عباس العزاوي..عشائر العراق 308/1
(3) تأريخ العراق الجزء الثاني.. حنا بطاطو
مقدمة الجزء الثاني من كتاب "شواهد من تأريخ الناصرية" للأستاذ المرحوم إبراهيم عبد الحسن
بقلم :الاستاذ طارق حربي
سومريون نت
سليلة المستقرات البشرية الأولى، والمدن السومرية ذات الأسوار والدفاعات ضد الأعداء، وريثة بطائح ذي قار التي أصبحت ثكنة عسكرية خلال الفتح الاسلامي، استقر فيها العرب بعد الفتح واختلطوا بقبائلها، ولما بناها مدحت باشا سنة 1869، أراد لها - من بين ماأراد- أن تكون ثكنة عسكرية للامبراطورية العثمانية، بعد محاولات كثيرة لإقناع الشيخ ناصر باشا السعدون، الذي ستسمى المدينة باسمه، "بأن العراق لم يعد يصلح لإمارة بدوية وزعامة حضرية" (1) ، فأسس دائرة تسجيل الطابو بالتواطؤ مع عدد من شيوخ آل السعدون المنقسمين، ففقدت العشائر أراضيها وتم تفتيت الإمارة.
"سليلة أقوى الامارات العدنانية" (2) (المنتفق)، لطالما أقلقت الإمبراطورية العثمانية، بعد توسعها إلى السماوة والبصرة والكوت والبادية، فتآمرت عليها بالتعاون مع حلفائها (سليمان فائق)، لنشر الفرقة وتقسيم الولاء بين أولاد العمومة (فالح بن ناصر وسعدون بن منصور) شيوخ المنتفق الأقوياء، وتمكنت من قطع أوصال الاتحاد وحصره في البطائح، وانتهى الأمر إلى بناء الناصرية.
إحتار السياسيون والإداريون في أمر بنائها : في السديناوية أم في العكيكة، في العرجاء أم في شمال سوق الشيوخ، لكن ناصر باشا وبالتشاور مع شقيقه منصور، حزم أمره بعد عودته من الاقامة الجبرية لدى الباب العالي بإسطنبول، وأمر ببناء الناصرية في منخفض (ابو جداحة)، لتكون تحت خطر الفيضان الدائم، إذا ماساءت علاقة آل سعدون بالدولة العثمانية، لكن الداهية مدحت باشا فهم مايضمره ناصر، فأمر بتقوية السدود!
جند الفتح الاسلامي من أهل البطائح مقاتلين، ومن حقولها علفا لدوابه، المنتفجيون كانوا مقاتلين أشداء، وفتوى من مرجعية النجف حشدت الآلاف من أهالي الناصرية وعشائرها، لصد الغزاة البريطانيين في معركة الشعيبة سنة 1915 ، بقيادة المرجع والشاعر محمد سعيد الحبوبي.
زج أبناء الناصرية في حروب العرب القومية، لاناقة لهم فيها ولابغل ( فلسطين والجولان ولبنان)، والعمليات الفدائية ضد إسرائيل، ليمتد عصر الإبادة الجماعية بأجيال عديدة، أكثرها - مع شديد الأسف- ماالتهمته نيران الحرب العراقية الإيرانية المجنونة.
صممها المهندس البلجيكي (جولس تيلي)، وكانت الوحيدة في العراق، على طراز المدن الحديثة في الدور الثاني من العصور الوسطى، يشطرها الفرات وعكد الهوا (شارع الحبوبي لاحقا) إلى نصفين، شوارع مستقيمة طويلة تحتمل تحركات الجندرمة العثمانيين لقمع حركات التمرد، أوطا من النهر تشكو المياه الجوفية (النزيز)، مهملة بلا تخطيط أو تجديد منذ قيام الدولة العراقية سنة 1921، لم تصب شيئا من العمران إلا في عهد الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، ومايزال المواطنون يتذكرونه حتى يومنا هذا.
الناصرية : تلك البلدة المشهورة بالحرية التي لاتقهر" (3) ، غريبة في مزاجها لاتشبه إلا نفسها، فهي في خصام دائم مع المركز منذ ماقبل التأسيس!،غامضة متمردة، رومانسية ثورية ويسارية، أنفة تهزأ بالحكام وملاذ ابنائها العشيرة أو الطائفة، الحزب اليساري أو التمرد الشخصي.
تتمدد بسوء تخطيط وعشوائية حتى تكاد تنفجر بالفلاحين والمهاجرين، وتتردد أصداء الحيوانات الخرافية والطناطل في أرجائها، ويملأها الغبار بعد توسع مساحات التصحر ماحولها، ويموت أبناؤها بأمراض منقرضة.
مدينة الغناء والأطوار المكتشفة والصوت المبحوح في التعازي الحسينية، ولودة الأحزاب اليسارية واليمينية، المفكرين الماركسيين والشعراء والغائبين، ماأكثر ماولدت من ضباط الصف والجنود!؟، يجلسون فوق القطار المزدحم، تأخذهم الحرب في نزهة ربما لايعودون منها أبدا، لكن يغنون (بستة) يوحد لحنها إيقاع مصير الموت، الذي نشَّفَ ريق الأمهات والآباء في حرب الجبل والهور وإيران.
محتسية العرق المستكي والزحلاوي والفريدة، المصلية القانتة بين يدي رب معبود صابرة في محرابه على البلوى، شينات ثلاث حددت هويتها منذ عشرات السنين : شيعي شيوعي شروكي!، فاستحقت إهمال الحكومات المتعاقبة عن جدارة!، صداعا للحكومات سبب كل واحدة من الشينات، الشيعة في الأهوار لهم في العصيان والعداء مع المركز إمارة دينية (المشعشعين) وزعيمها (عمران بن شاهين/توفي سنة 369) الذي دوخ وزراء بني العباس، ممتنعا عن دفع الضرائب، وفي الرومانسية الثورية الشهيد الحالم بالثورة خالد أحمد زكي قرر ورفاقه الإثنا عشر، إسقاط الحكومة العارفية سنة 1968 من أهوار الغموكة!، مرغوا أنفها بالتراب فلم توفر قواتها المسلحة ولاشيوخها الجواسيس من أجل إخماد الانتفاضة.
مدينة تستنكر زيارة طاهر يحيى لتفقد جهود ضد فيضان هددها سنة 1967 بلافتة، وتضع علامة الرفض (x) بعد منتصف الليل، على صور الطاغية صدام وهو في جبروته، فيراها المواطنون في الصباح قبل رجال الأمن ويشعرون بالانتصار لكرامتهم!
لاشك أن غواية الكتابة عن مدينة مثل الناصرية، تتطلب الكثير من الجهد والمثابرة، وضمير الشاهد الحي على أحداثها ووقائعها وشخصياتها وأماكنها وعجائبها، يسعدني أن أقدم للجزء الثاني من كتاب (شواهد من تأريخ الناصرية) للأستاذ والصديق إبراهيم عبد الحسن، الذي تعرفت إليه في فترة الشباب (إبن ولاية) نشيطا في الوسط الرياضي، وفي الأيام الأولى التي تلت إطلاق موقع سومريون.نت بعد سقوط نظام صدام، كان أول المبادرين في تعضيد الموقع، بمواد عن تأريخ الناصرية والأخبار والمقالات، فأصبح مراسلا دائما له، ولاحظت - منذ البدايات - تجاوبا لافتا مع كتاباته، وطلب القراء - سواء كانوا في داخل العراق أو خارجه - المزيد منها، ممن أثارت فيهم ذكريات الأمس الكثير من السلوى والشجون خاصة.
أعلى الكاتب من شأن ابناء مدينته التي أحبها، وثق تأريخ ومصائر مواطنيها البسطاء، السياسيين والكتاب والشعراء والمهمشين والظرفاء، الفنانين والرياضيين وأصحاب المهن في أسواقها، مقاهي الثوريين الرومانسيين والكسبة، وجوه المعلمين الطيبة والمنفيين، كتب عن ليالها وأشهر الشرّيبين في باراتها و(عصاتها) وشقاواتها ومواكبها الحسينية في شهر عاشوراء، المكتبات الحكومية والأهلية والفنادق، (ستوديوهات) التصوير، محلات بيع الساعات السويسرية، المطاعم والمقاهي والفنادق، (بوق) التعداد الصباحي) في الحامية الذي يوقظ النائمين في حي الإسكان وماجاوره، محلات بيع الذهب والحلويات و(الموبليات) والمثلجات، المعمار ومنه مــبنــى بــــــلدية الناصرية، دور السينما والمسرح وجمعية الفنون والآداب وبقية الأماكن الحميمة، حاور أشهر رموزها الرياضية والفنية والسياسية ومعذبيها وسجنائها، لهذا وغيره أعتبر الأستاذ إبراهيم عبد الحسن امتدادا لجيل من مؤرخي المدينة، في مقدمتهم الراحل شاكر الغرباوي والأستاذ حسن علي خلف، وحتما يكمل المسيرة جيل جديد تنجبه المدينة الولود للمبدعين والمخلصين، ممن سيكونون أمناء لتأريخ الناصرية العزيزة وحضارتها وحاضرها ومستقبلها.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) المفصل في تأريخ الناصرية.. حسن علي خلف
(2) عباس العزاوي..عشائر العراق 308/1
(3) تأريخ العراق الجزء الثاني.. حنا بطاطو
مقدمة الجزء الثاني من كتاب "شواهد من تأريخ الناصرية" للأستاذ المرحوم إبراهيم عبد الحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق