الاثنين، 17 ديسمبر 2012

تعمير مدينة بغداد بين مسقط ومراكش..........مقال للدكتور لؤي بحري

الدكتور لؤي بحري*

أطلعت مؤخراً على مخطط (مخيف) تقوم به محافظة بغداد (لإعمار) المنطقة الواقعة غرب شارع الرشيد أي نهر دجلة. ومن الأطلاع على مخطط هذا الاصلاح الهائل نرى أن المحافظة تريد بناء شوارع عريضة جداً مع ساحات واسعة ونصف أقواس من النصب السمجة مع جعل شارع الرشيد ممر واحد للسيارات.
ولكن أين هي بغداد التاريخية من كل هذا العمار؟ أين هو سوق السراي وأين هي أسواق الأقمشة التقليدية بأزقتها المتشعبة وأين هو سوق الصفافير وسوق الصاغة والذهب؟ الإعمار لا يعني بالضرورة تهديم القديم وبناء شيء جديد محله؛ فالإعمار يعني أحياناً أيضاً إبقاء القديم وتنظيفه والعناية به، ويعني الحفاظ على تراث الماضي كذلك وعدم المساس به والعناية به؛ وبناء شبكة جديدة للصرف الصحي في أسواقه ومحلاته العامة.
كانت بغداد وأسواقها قبلة العالم في فترة ما من العصر العباسي حيث كانت أكبر مدينة في العالم بل المدينة الوحيدة التي يربو عدد سكانها على المليون نسمة. وكانت أسواقها مليئة بالحياة والبضاعة من الأركان الأربعة للمعمورة. وكلها قابلة للإصلاح والتحديث. وكانت لدى مدينة الدوحة في قطر وأسواقها في قلب المدينة تعاني مشكلة تشابه مشكلة أسواق بغداد، لكن حكومة قطر عوضاً عن تهديمها وبناء مجمعات أسواق حديثة عوضاً عنها، قامت بالأشراف على تنظيفها والعناية بها وصبغ دكاكينها باللون الأبيض ووضع أرقام لكل الدكاكين، كما وأنشأت مقاهي شعبية فيها، وتم وضع بعض النساء القطريات ممن
يبعن الأكلات الشعبية عند تقاطع الشوارع الضيقة للأسواق بحيث أصبحت هذه الأسواق في النهاية قبلة أنظار القطريين وحتى الاجانب حيث يشعر السائح الأجنبي بأنه يجلس في قلب مدينة شرقية يتمتع بجوها المميز عن الجو الغربي الذي أعتاد عليه. من ناحية أخرى، قامت بلدية قطر بزرع عدد من رجال الشرطة بزيهم التقليدي الجميل عند تقاطع الشوارع في منطقة قلب الأسواق التقليدية (سوق واقف). وكذلك الأمر في عُمان فكل زائر لمدينة مسقط عاصمة سلطنة عمان يرجع مبهوراً بتناسق شوارعها وتناسق الطراز التقليدي للدور والساحات النظيفة والمحافظة على طراز الدور الموحد وهو طراز دور جنوب اليمن.
أما مدينة مراكش المغربية فقد أصبحت أزقتها التقليدية الضيقة القديمة والساحة الواسعة المطلة عليها وجامع الفتا قبلة أنظار كل زائر للمغرب؛ ويعد القادمون بالملايين من جميع أنحاء العالم. إن أزقة مدينة مراكش الواقعة في قلب المدينة لا تزال تحافظ على طابعها التقليدي والدكاكين الصغيرة للباعة ومحلات بيع السجاد والمدارس التقليدية التي تدرس العلوم الأسلامية وحتى بعض المطاعم الصغيرة التي لا تتسع لأكثر من طاولة أو طاولتين، بالأضافة الى ترميم بعض الدور الكبيرة الموجودة فيها وجعلها فنادق صغيرة مبنية على الطراز المغربي الجميل وهذه الفنادق تسمى بـ (الرياض) ويسكنها السواح الأجانب المبهورين بسحر الطابع المغربي وهذه الاحياء التراثية القديمة.
لقد عمد معول التهديم بأسم إعادة الإعمار بالطرق الحديثة على هدم أجزاء من بغداد تعود لمئات السنين؛ وربما لفترة العصر العباسي، وكانت فكرة تهديم مئات الدور القديمة لبناء شارع الجمهورية غلطة أخرى طمست أثار هامة من بغداد التاريخية، وشارع الجمهورية الذي نهض على أنقاض بغداد القديمة لا يوجد فيه أي تناسق أو طراز مميز بحيث تكون الأبنية والعمارة موحدة كي طابعا للمدينة، فقد أصبحت مدينة بغداد لا هي بالشرقية ولا هي بالغربية الطراز. يجب أن نحافظ أذن على البقية الباقية من بغداد التاريخية، ونحاول تعميرها عوضاً عن تهديمها ويا ليت لو عاد شرطي المرور التقليدي الذي تميزت به بغداد قبل الثورة؛ وهو الشرطي الذي عرف ببزته البيضاء وخوذته المسننة الجميلة.
عندما قرر الأمبراطور نابليون الثالث إعادة إعمار مدينة باريس العاصمة طلب من المهندس المعماري الشهير (هوسمان) تصميم المدينة على نسق واحد وبناء طراز مميز حيث أصبحت باريس تبهر الأنظار اليوم بتناسق أبنيتها وشوارعها. ولا أدري لماذا لا نحاول أن نعمر قلب بغداد مع المحافظة على تراث المدينة التاريخية التي يفترض الاحتفاء بها في السابع عشر من تشرين الثاني - نوفمبر 2012، بمناسبة مرور 1000 عام على تأسيسها من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي خط منذ عشرة قرون على رقعة من جلد الغزال مدينة بغداد لتكون عاصمة الخلافة التي أمتد حكمها إلى بلاد الأندلس وفرنسا غرباً، والى الصين والهند شرقاً.
------------------------------------------
*الدكتور لؤي بحري هو من مواليد بغداد، حصل على شهادة البكالوريوس في القانون من جامعة بغداد عام 1957 ثم الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة مونبلييه بفرنسا في عام 1962. درس العلوم السياسية في جامعة بغداد للفترة من 1962 حتى 1977 ثم غادر العراق للتدريس في عدد من جامعات الدول العربية والعالمية كجامعة الملك عبد العزيز في السعودية وجامعة الجزائر وجامعة كولونيا في المانيا وجامعتي اوهايو وتنسي في الولايات المتحدة الامريكية. عمِلَ دكتور بحري كأستاذ متخصص في دراسات الشرق الأوسط والخليج العربي ، وخبير مشارك في معهد الشرق الأوسط في العاصمة الامريكية واشنطن ومستشارا للحكومة الامريكية. كتب العديد من البحوث والدراسات والمقالات حول العراق والخليج العربي ومنطقة الشرق الاوسط ونُشرت له اول دراسة حول سكة حديد بغداد عام 1967. وهو احد الكتاب المساهمين في موسوعة دائرة المعارف البريطانية لما يزيد على ثمانية عشر عاما من خلال كتابة المقالات حول البحرين والكويت وقطر والعراق.
**وصلني عبر الايميل من سعادة السفير العراقي الاسبق الاستاذ فاروق احمد سعد الدين زيادة فشكرا له .







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بيوت في ذلك الزقاق ...............فيلم عراقي مهم

  بيوت في ذلك الزقاق ...............فيلم عراقي مهم - ابراهيم العلاف وفي إطار التوثيق للسينما العراقية المعاصرة ، ثمة أفلام تنتمي الى الواقع...