مقال للمناقشة* :
********************
كرسي العراق !
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس – جامعة الموصل
يخطئ من يظن أن من يجلس على كرسي الحكم في العراق، يتصرف بعفوية ، أو يمارس الحكم ، وكأنه خارج سياقات تاريخ العراق القديم ، والإسلامي ، والحديث .
فكرسي الحكم في العراق ، له شروط على من يجلس عليه ، وله التزامات ينبغي على من يجلس عليه تنفيذها . ومن أبرز تلك الالتزامات ما أسميه أنا " ثوابت الجغرافية" و" حقائق التاريخ " .. وأي مطلع على " حقائق التاريخ العراقي العام " يعرف بأن " ثوابت الجغرافية " لها استحقاقاتها كذلك ،فالجغرافية كما هو معروف توجه التاريخ .
ولعل من أبرز هذه الاستحقاقات ، أن على من يحكم العراق العمل على أن يكون العراق موحدا ، وان يكون العراق قويا .ويقينا أن مما فرضته الجغرافية على العراق أن حدوده ليست كحدود مصر المغلقة إنها مفتوحة ، ومن هنا فقد كان العراق وما يزال ساحة للصراع بين القوى الإقليمية والدولية .هذا فضلا عن ان مكونات العراق البشرية متنوعة وللجيران العرب وغير العرب في العراق " امتدادات بشرية " و" ذكريات تاريخية" و"مصالح سياسية ،واقتصادية ،وثقافية " .
وكثير منا لايزال يحفظ المثل القائل "بين العجم والروم بلوى ابتلينا " .....نعم كان العراق ولايزال ، مسرحا للصراع في العصور القديمة، والعصور الإسلامية، وفي العصور الحديثة وأسباب ذلك فضلا عن حدوده المفتوحة ، انه غني بثرواته الزراعية ، والحيوانية ومن ثم النفطية كما هو معروف بثرواته البشرية .
فعندما وضع الاسكندر المقدوني قدمه على أرض العراق قال بالحرف الواحد: " الآن بدأت ببناء إمبراطوريتي " ، وعندما أزعجه العراقيون راح يستنجد بأستاذه أرسطو قائلا : انه يريد أن يتخلص من العراقيين فقال له أستاذه وهل تستطيع أن تغٌير تربتهم ، وهوائهم ومائهم فرد بالسلب فقال أرسطو عندئذ إنهم أي العراقيين نتاج بيئتهم .
وقد نقل عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قوله في أهل العراق أن النبي إبراهيم عليه السلام ، وكان من أور بالناصرية ، هم بالدعاء على أهل العراق فمنعه الله من ذلك قائلا له :" لقد أودعت فيهم علمي ورحمتي " .نعم في العراق بلد العنقاء أو البلد العنقاء أودع الله " العلم " و" الرحمة" .
وهكذا أدرك حكام العراق من اوتو حيكال حتى كتابة هذه السطور مرورا بنبوخذ نصر وسرجون الاكدي وحمورابي واشور بانيبال والحجاج بن يوسف الثقفي وأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد ومدحت باشا ونوري السعيد ومن أعقبه من الحكام العسكريين والمدنيين ، إن من واجب الحاكم وهو يجلس على كرسي الحكم في العراق أن يكون "ملكا " للجهات الأربع وان "دار السيد مأمونة " كما كان يردد نوري السعيد وأنه وأنه ولابد ، لكي يبقى على كرسي العراق، أن يكون العراق قويا ، وموحدا ، وان يجمع بين يديه كل الصلاحيات التي تتيح له أن يكون كذلك ،وان يبدأ بعقد الصفقات لتسليح الجيش تحسبا لأي طارئ والحجة أن العراق يواجه تحديات وخاصة من جيرانه ولابد ان يكون قويا وان يمتلك جيشا عرمرما وان يكون الجيش وقادته وضباطه في المقدمة .
وفوق هذا فأن ثمة حقيقة تترسخ في ذهنه ، أي في ذهن من يحكم العراق أن ثمة هدف يسعى إليه ، وثمة رسالة يؤديها ، وان ثمة وقت أو زمن يحتاجه لتحقيق ذلك الهدف وتحقيق تلك الرسالة فالسنوات الاربع المقررة في الدستور لاتكفى والولاية الثانية لاتفي بالغرض ولابد ان يبقى في الحكم عقود لتنفيذ هدفه وتحقيق تطلعات البلد في ان يمارس دوره الوطني والاقليمي والدولي . ولقد امتحنت هذا بنفسي اذ جايلت أنماطا وأنماطا ممن حكم العراق فسمعت الكلام نفسه ورأيت الشيئ ذاته ، ويمر العمر ، وتمر السنون والنتيجة واضحة وهي أن نقوي أنفسنا ونبني البنيان وندعمه وما ان تدخل امة جديدة أي سلطة جديدة حتى تبدأ بلعنة الأمة –السلطة التي قبلها مع الحرص الشديد على محو وإزالة واجتثاث كل ما قامت به الأمة السالفة ، ونبدأ البنيان مع الحاكم الجديد من جديد واهم درس تعلمناه من توالي الأزمنة وتوالي الحكام هو "أننا لانؤمن بالتراكم التاريخي " .
عشتٌ في العهد الملكي ، وقرأتٌ ما قاله ياسين الهاشمي في الثلاثينات من القرن الماضي من انه سيبقى في الحكم لسنين طويلة ،ورأيت الملك فيصل الثاني 1953-1958 وولي عهده الأمير عبد الإله ، كما رأيت نوري السعيد وسمعت خطبه وأحاديثه ، ورأيت الزعيم عبد الكريم قاسم ..الزعيم الأوحد 1958-1963 ورأيت المشير الركن عبد السلام محمد عارف بطل الثورات الثلاث 1963-1966 ورأيت احمد حسن البكر1968-1979 وقد شاعت مقولة جئنا لنبقى في عهده ، ورأيت صدام حسين1979-2003 الذي قيل بأنه إذا قال قال العراق ورأيت.. ورأيت حكام الاحتلال مابعد التاسع من نيسان 2003 وحكام مابعد الاحتلال وللطرافة حتى السفير بول بريمر رئيس سلطة الائتلاف (الاميركي ) تصرف مثل حكام العراق ممن جلسوا على كرسي الحكم .. ولم أر جديدا بالنسبة لمن يجلس على كرسي العراق ..
شيئ طبيعي هو أن يعمل من يجلس على كرسي العراق على ان يوحد العراق ، ويسعى من اجل أن يكون العراق قويا ، وان يحكم قبضته على نواصي الأمور ..
تلك سيكلوجية الحكم في العراق ، وعلى العراقيين أن يعوا هذه الحقائق ، ويتصرفوا وفق هذه السيكلوجية الطبيعية المتأصلة في العقول والقلوب معا . هم شعب يحب الحرية ويتوق لها ويعمل من اجلها لكنه يحب القانون ويحب ان تكون الدولة قوية ويتصرف على هذا الاساس ومتى وجد ترخيا من الدولة أو ضعفا فأنه يحاول ان يشغل الفراغ ويظهر سلطته ومن هنا فأن على الدولة ان تفهم سيكلوجية العراقيين وتتماشى معها وتحترم الانسان العراقي وتعطيه حقوقه وعلى المواطن العراقي ان يحترم الدولة لاان يخشاها لان العيش بدون دولة معناه الفوضى والعنف والعشوائية ....
يقينا اننا بحاجة الى الدولة وقوتها وهيبتها فالعراقي يفخر بدولته اذا كانت ذات هيبة وعلى الحاكم ان يعي ذلك ويتصرف على هذا الاساس ..الشعب العراقي شعي ذكي ويحب بلده وهو دؤوب ومخلص وذو كرامة وحساسية شديدة تجاه من يتجاوزه وليس من المعقول ان يكون على رأسه حاكم قاس او غير عادل او غير وطني او غير راغب في ان يكون العراق بلد العلم والرحمة والكرامة .
* كتبُته منذ أكثر من سنة ولم أنشره وقد طلب مني الاخوة في مجلة "الثقافة الجديدة " نشره فوافقت .. وقد نشر في مجلة "الثقافة الجديدة " العدد الخاص 364-365 اذار 2014.
********************
كرسي العراق !
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس – جامعة الموصل
يخطئ من يظن أن من يجلس على كرسي الحكم في العراق، يتصرف بعفوية ، أو يمارس الحكم ، وكأنه خارج سياقات تاريخ العراق القديم ، والإسلامي ، والحديث .
فكرسي الحكم في العراق ، له شروط على من يجلس عليه ، وله التزامات ينبغي على من يجلس عليه تنفيذها . ومن أبرز تلك الالتزامات ما أسميه أنا " ثوابت الجغرافية" و" حقائق التاريخ " .. وأي مطلع على " حقائق التاريخ العراقي العام " يعرف بأن " ثوابت الجغرافية " لها استحقاقاتها كذلك ،فالجغرافية كما هو معروف توجه التاريخ .
ولعل من أبرز هذه الاستحقاقات ، أن على من يحكم العراق العمل على أن يكون العراق موحدا ، وان يكون العراق قويا .ويقينا أن مما فرضته الجغرافية على العراق أن حدوده ليست كحدود مصر المغلقة إنها مفتوحة ، ومن هنا فقد كان العراق وما يزال ساحة للصراع بين القوى الإقليمية والدولية .هذا فضلا عن ان مكونات العراق البشرية متنوعة وللجيران العرب وغير العرب في العراق " امتدادات بشرية " و" ذكريات تاريخية" و"مصالح سياسية ،واقتصادية ،وثقافية " .
وكثير منا لايزال يحفظ المثل القائل "بين العجم والروم بلوى ابتلينا " .....نعم كان العراق ولايزال ، مسرحا للصراع في العصور القديمة، والعصور الإسلامية، وفي العصور الحديثة وأسباب ذلك فضلا عن حدوده المفتوحة ، انه غني بثرواته الزراعية ، والحيوانية ومن ثم النفطية كما هو معروف بثرواته البشرية .
فعندما وضع الاسكندر المقدوني قدمه على أرض العراق قال بالحرف الواحد: " الآن بدأت ببناء إمبراطوريتي " ، وعندما أزعجه العراقيون راح يستنجد بأستاذه أرسطو قائلا : انه يريد أن يتخلص من العراقيين فقال له أستاذه وهل تستطيع أن تغٌير تربتهم ، وهوائهم ومائهم فرد بالسلب فقال أرسطو عندئذ إنهم أي العراقيين نتاج بيئتهم .
وقد نقل عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قوله في أهل العراق أن النبي إبراهيم عليه السلام ، وكان من أور بالناصرية ، هم بالدعاء على أهل العراق فمنعه الله من ذلك قائلا له :" لقد أودعت فيهم علمي ورحمتي " .نعم في العراق بلد العنقاء أو البلد العنقاء أودع الله " العلم " و" الرحمة" .
وهكذا أدرك حكام العراق من اوتو حيكال حتى كتابة هذه السطور مرورا بنبوخذ نصر وسرجون الاكدي وحمورابي واشور بانيبال والحجاج بن يوسف الثقفي وأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد ومدحت باشا ونوري السعيد ومن أعقبه من الحكام العسكريين والمدنيين ، إن من واجب الحاكم وهو يجلس على كرسي الحكم في العراق أن يكون "ملكا " للجهات الأربع وان "دار السيد مأمونة " كما كان يردد نوري السعيد وأنه وأنه ولابد ، لكي يبقى على كرسي العراق، أن يكون العراق قويا ، وموحدا ، وان يجمع بين يديه كل الصلاحيات التي تتيح له أن يكون كذلك ،وان يبدأ بعقد الصفقات لتسليح الجيش تحسبا لأي طارئ والحجة أن العراق يواجه تحديات وخاصة من جيرانه ولابد ان يكون قويا وان يمتلك جيشا عرمرما وان يكون الجيش وقادته وضباطه في المقدمة .
وفوق هذا فأن ثمة حقيقة تترسخ في ذهنه ، أي في ذهن من يحكم العراق أن ثمة هدف يسعى إليه ، وثمة رسالة يؤديها ، وان ثمة وقت أو زمن يحتاجه لتحقيق ذلك الهدف وتحقيق تلك الرسالة فالسنوات الاربع المقررة في الدستور لاتكفى والولاية الثانية لاتفي بالغرض ولابد ان يبقى في الحكم عقود لتنفيذ هدفه وتحقيق تطلعات البلد في ان يمارس دوره الوطني والاقليمي والدولي . ولقد امتحنت هذا بنفسي اذ جايلت أنماطا وأنماطا ممن حكم العراق فسمعت الكلام نفسه ورأيت الشيئ ذاته ، ويمر العمر ، وتمر السنون والنتيجة واضحة وهي أن نقوي أنفسنا ونبني البنيان وندعمه وما ان تدخل امة جديدة أي سلطة جديدة حتى تبدأ بلعنة الأمة –السلطة التي قبلها مع الحرص الشديد على محو وإزالة واجتثاث كل ما قامت به الأمة السالفة ، ونبدأ البنيان مع الحاكم الجديد من جديد واهم درس تعلمناه من توالي الأزمنة وتوالي الحكام هو "أننا لانؤمن بالتراكم التاريخي " .
عشتٌ في العهد الملكي ، وقرأتٌ ما قاله ياسين الهاشمي في الثلاثينات من القرن الماضي من انه سيبقى في الحكم لسنين طويلة ،ورأيت الملك فيصل الثاني 1953-1958 وولي عهده الأمير عبد الإله ، كما رأيت نوري السعيد وسمعت خطبه وأحاديثه ، ورأيت الزعيم عبد الكريم قاسم ..الزعيم الأوحد 1958-1963 ورأيت المشير الركن عبد السلام محمد عارف بطل الثورات الثلاث 1963-1966 ورأيت احمد حسن البكر1968-1979 وقد شاعت مقولة جئنا لنبقى في عهده ، ورأيت صدام حسين1979-2003 الذي قيل بأنه إذا قال قال العراق ورأيت.. ورأيت حكام الاحتلال مابعد التاسع من نيسان 2003 وحكام مابعد الاحتلال وللطرافة حتى السفير بول بريمر رئيس سلطة الائتلاف (الاميركي ) تصرف مثل حكام العراق ممن جلسوا على كرسي الحكم .. ولم أر جديدا بالنسبة لمن يجلس على كرسي العراق ..
شيئ طبيعي هو أن يعمل من يجلس على كرسي العراق على ان يوحد العراق ، ويسعى من اجل أن يكون العراق قويا ، وان يحكم قبضته على نواصي الأمور ..
تلك سيكلوجية الحكم في العراق ، وعلى العراقيين أن يعوا هذه الحقائق ، ويتصرفوا وفق هذه السيكلوجية الطبيعية المتأصلة في العقول والقلوب معا . هم شعب يحب الحرية ويتوق لها ويعمل من اجلها لكنه يحب القانون ويحب ان تكون الدولة قوية ويتصرف على هذا الاساس ومتى وجد ترخيا من الدولة أو ضعفا فأنه يحاول ان يشغل الفراغ ويظهر سلطته ومن هنا فأن على الدولة ان تفهم سيكلوجية العراقيين وتتماشى معها وتحترم الانسان العراقي وتعطيه حقوقه وعلى المواطن العراقي ان يحترم الدولة لاان يخشاها لان العيش بدون دولة معناه الفوضى والعنف والعشوائية ....
يقينا اننا بحاجة الى الدولة وقوتها وهيبتها فالعراقي يفخر بدولته اذا كانت ذات هيبة وعلى الحاكم ان يعي ذلك ويتصرف على هذا الاساس ..الشعب العراقي شعي ذكي ويحب بلده وهو دؤوب ومخلص وذو كرامة وحساسية شديدة تجاه من يتجاوزه وليس من المعقول ان يكون على رأسه حاكم قاس او غير عادل او غير وطني او غير راغب في ان يكون العراق بلد العلم والرحمة والكرامة .
* كتبُته منذ أكثر من سنة ولم أنشره وقد طلب مني الاخوة في مجلة "الثقافة الجديدة " نشره فوافقت .. وقد نشر في مجلة "الثقافة الجديدة " العدد الخاص 364-365 اذار 2014.
مقال رائع يتناول بدقة ونظرة تحليلية فاحصة مشاكل العراق البنيوية ونموذج الحاكم الذي يحتاجه البلد .. دمت أيها المؤرخ الكبير
ردحذفشكرا جزيلا اخي الغالي الاستاذ باسم محمد حبيب
ردحذف